الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة الأعزل طغت عليه سمة العنف
الإسرائيلي المميز الذي يشير الى عمق الإستهتار بالقيم الإنسانية والى
درجة الإستخفاف بالأعراف الدولية ونواميسها وعلى همجية هذا الكيان
وحقده، بل وعلى عدم توجسه وتخوفه من أي ردة فعل عربية أو إسلامية على
أعماله المشينة. هذا الإستهتار والإستخفاف لم يأت من اللاشيء بل إستند
الى وقائع وحقائق لمسها هذا الكيان وأستفاد منها.
من أهمها هو تشرذم العرب وتفكك المسلمين من جهة وضمور العقل
والمعرفة وغياب الفكر المتنور بالحكمة والمعرفة والفطنة وبعد النظر عند
قادة المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام ومن جهة أخرى. لم يكترث
الكيان الإسرائيلي بردود الأفعال العربية والإسلامية لأنها مهما كبرت
فهي أصغر من أن تأخذ حيزا صغيرا في ساحة جبروته وسطوته.
الهجوم العسكري الإسرائيلي الشرس على هذا القطاع المعزول هو رسالة
موجهة من هذا الكيان الى أهل فلسطين من جهة والى العالمين العربي
والإسلامي من جهة أخرى بأن هذا الكيان لا يتوانى من إستخدام القوة بكل
أشكالها وأبعادها وشراستها ضد أعدائه إذا ما تعرض وتعرضت مصالحه للخطر
وأن من يرشقه بالورد يرشه بالرصاص والنار بل يسحق من عاداه حتى النهاية
طالما توفرت عنده عناصر القوة ومستلزمات التفوق العسكري الكبير.
هذا المنطق يعني بوضوح أن من يريد نزال هذا الكيان وتحديه عليه أن
يمتلك القوة الكافية والقدرة اللازمة لهذا النزال وألاّ يقبل الخسارة
التي تفوق الربح بمئات المرات وألاّ يعتمد على رحمة الآخرين وعطفهم لأن
في مثل هذا اليوم يندر من يرحم، والذي ينازل يجب أن يكون أهلا للنزال
ويعتمد على نفسه أكثر مما يعتمد على مساعدة الآخرين له وعطفهم عليه.
الصمت العربي والإسلامي على هذه الجرائم صار أمرا معلوما وبديهية
يدركها الجميع مهما كبر المأزق وأشتد الألم. هذا الصمت هو تعبير مطلق
عن تقوقع المجتمعات حول نفسها وإنشغالها في مشكلاتها الداخلية التي
تميزت بصراع الذات مع الذات وتراشق النفس مع النفس لأسباب مصطنعة
ومبرمجة من قبل جهات أجنبية تستغل التخبط الفكري والإجتماعي والسياسي
الذي يسود في مجتمعاتنا.
نزاعاتنا الذاتية المكسوة بقشرات أثنية وفئوية وطائفية ودينية هي
دلالات دامغة على عمق التخلف والإنحدار في أفكارنا وسلوكياتنا.
النزاعات والتشرذم لم يترك بابا من أبوابنا إلاّ وطرقها، حتى
الفلسطينيون الذين هم في خط المواجهة مع عدو مشترك إنقسموا على أنفسهم
وتشرذموا حتى أصبح أحدهم يتشفى في مصيبة الآخر ويرمي اللوم عليه وهو في
قلب المصيبة مما سهّل عملية الإنقضاض عليه.
لا سبيل ولا طريق أمام العرب إلاّ تعاضدهم وتآلفهم وترتيب شؤونهم
الداخلية وتنظيم أنفسهم طبقا لمفاهيم التحضر والفكر السليم. تنظيف
الذات من النزعات والغرائز العدائية هو امر مطلوب وضروري لبدء مسيرة
ناجعة نحو العلاء ونحو تحصين النفس من هجمات الأعداء الخارجية. علاج
إسرائيل هو القوة، لأن هذا الكيان لايفهم غير هذا المنطق ولا يهاب غير
هذا السلاح.
لكن من أين نأتي بهذه القوة لمجتمع منقسم على نفسه أصلا! الإتحاد
هو أولى إمارات القوة والعقل والحكمة وبعد النظر هي من لوازم الإتحاد
ولوازم الإتحاد لا تتوفر إلاّ عند حكماء الأمة ورواد فكرها...لكن من
يتولى شؤوننا الستراتيجية لا يرتشد بنصائح الحكماء ولا يهتدي بإشارات
العارفين ولا يتنور برؤى أهل الكفاءة والقدرة. من يبحث عن أسباب القوة
عليه أن يجعل المرء المناسب في المكان المناسب وأن يطبق حكمة أفلاطون
القائلة: لا يمكن أن نصلح أحوال الدولة، مالم يحكمنا الفلاسفة أو
يتفلسف فينا الحكام... لكن مع شديد الأسف ليس في أوطاننا مكانا
للفلاسفة ولا حكامنا أهلا للتفلسف!
أكثر ما يحتاج اليه العالم العربي والإسلامي هو العقل المدبر
والستراتيجية الحكيمة كي يخرج هذا العالم من الوحل الذي هو طامس فيه...
نحن بحاجة الى المفكرين الذين يستطيعون بناء القوة بقوة أفكارهم وبعمق
رؤاهم... كفانا ضياع وبعثرة وتخبط وتطرف وتفكك. لقد آن الأوان الى
الفكر العربي أن يستيقض من سباته الطويل، فأما الفكر وأما الموت، ومن
لم يفكر في هذا العالم فإنه ميت حتى وأن بقى جسده حيّا. الفكر والعقل
والتدبر هم نواة بناء الأمة، فالأمة لا يمكن أن تبني نفسها على أسس
ومثابات واهية مستندة على عناصر التخلف والأنانية وضيق الأفق.
مأساة فلسطين هي مأساة العالم، كل فرد من أفراد العالم يعاني بشكل
مباشر أو غير مباشر من المأساة الفلسطينية دون أن يشعر. العالم يتغاضى
عن ملاحظة المشهد ويتجنب الغور في خضم الحقيقة ويتناسى جذور وأسباب
المصيبة. تعثر الأمن والأمان والإستقرار عند شعوب العالم....شعور بعض
شعوب العالم وخصوصا شعوبنا العربية والمسلمة بالإحباط والقنوط بسبب
الظلم والتعسف وضياع القسط والإنصاف مما يدفع الى نشوء حركات سياسية
متطرفة قد تسيء لقضايا شعوبهم ولشعوب العالم أكثر مما تنفع.... الكساد
الإقتصادي الذي يضرب بلدان العالم والهزات المالية التي أقضت مضاجع
المؤسسات المالية والبنوك العالمية.... التشنج الديني والطائفي الذي
يدغدغ أعماق الكثيرين من أبناء المعمورة مما أدى الى الخوف والريبة
والتنائي بين البشر وبين الحضارات....كل هذه الأمور لها جذور وأصول في
فلسطين وبشكل أو بآخر. فأن قال الناس في مضرب الأمثال: كل الطرق تؤدي
الى روما فربما يصلح القول هنا: بأن مصائب العالم تخرج من أرض فلسطين!.
فمتى ينتبه العالم الى هذه الحقيقة ويجد الحلول المناسبة والعادلة
والدائمة لها كي تستقر البشرية وتنعم في حياتها؟.
الصمت العالمي أمام أعمال إسرائيل المشينة ضد الأنسانية أصبح سجية
من سجايا المجتمع الدولي، وإنتقاد الإسرائليين على بشاعة أعمالهم صار
خطا أحمرا لا يتجاوزه أحد. فرغم معرفة العالم وخصوصا دول الغرب بأن
أعمال الإضطهاد والظلم التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وعلى
طول الخط هي أساس هام لحصول ظواهر إجتماعية وسياسية مرضية تؤثر على أمن
العالم وإستقراره ومن بين هذه الظواهر المرضية هو ظاهرة "الإرهاب" فإن
هذا العالم لم ينتبه جيدا على أساليب معالجة أسباب هذا المرض الذي
إستشرى وعانت منه ولا تزال تعاني أكثرية شعوب العالم.
لقد بثت وسائل الدعاية الغربية كل ما في جعبتها من أخبار وتفاصيل عن
الإرهاب الذي يتبناه أفراد أو مجاميع دونما تقدم في المقابل نفس الزخم
الإعلامي حول إرهاب الدولة الذي مارسته وتمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين
العزل. هذا التصعيد الإعلامي حول هذه الظاهرة قد أجج نار الحقد
والكراهية في نفوس الشعوب نحو العرب والمسلمين مما جعلهم يتغاضون عن
إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، حتى أصبح العالم
لا يرى ولا يسمع ولا يحس بالإرهاب الذي تقوده إسرائيل بل تثور ثائرته
أمام إرهاب الأفراد الذين أصبحوا يؤذون أنفسهم أكثر مما يؤذون الأعداء.
بقاء الوضع على هذه الشاكلة لا ينفع أحدا وما على حكماء العالم
وقادته إلاّ الإنتباه ومراجعة الأمور بشكل حازم وحكيم. العالم وفي خضم
هذه التناقضات لابد له أن يتغير وهذا التغيير قد بدت بوادره ملموسة الى
حد ما من خلال الأحداث والمستجدات التي تجلت في الإنتخابات الأمريكية
الأخيرة التي أظهرت تذمر الشعوب الأمريكية من سياسات قادتها ورغبتها
الحقيقية في الثورة وفي التجديد.
تحركات الرئيس الفرنسي ساركوزي السرية والمعلنة في إطار إيجاد حل
جوهري للقضية الفلسطينية وضمن عمل أوربي مشترك هو أيضا بداية محسوسة
لحاجة أوربا الى شرق أوسط مستقر وهادىء. كما أن الأوضاع السياسية غير
المستقرة في عالمنا العربي والإسلامي والتورط الأمريكي في حروبه في كل
من إفغانستان والعراق والتشنج الأمريكي الروسي جراء الحرب الروسية
الجورجية والملف النووي الإيراني وإنبثاق حركات مقاومة عسكرية عربية
موجهة ضد إسرائيل وأمريكا في المنطقة وغيرها من الأمور المعقدة
والشائكة تتطلب وبشكل ملح مراجعة جدية ومعالجة حاسمة للمشكلات الأصلية
ومن جذورها، وهل ينكر أحد ماهية هذه الجذور!؟.
هذا التوجه العالمي نحو ضرورة إستقرار المنطقة لا يعني بأي حال من
الأحوال إجبار إسرائيل على قبول مالاترضاه.فلإسرائيل أيضا أجندتها
وخطوطها الحمراء التي لاتسمح بأن يتجاوزها أحد مهما كانت مبرراته. هذه
حقيقة تدركها أوربا وتعرفها جيدا ولا تريد أن تتفاوض مع اسرائيل بأمور
محسومة أصلا، فأوربا لا تستطيع عمل المستحيل،إنما ستعمل دور الوسيط
والملطف والمحضر لمشاريع قبلت بها إسرائيل من حيث المبدأ. كما عليها
أيضا أن تتقبل شراسة سبل إسرائيل التحضيرية لأي مشروع قيد المناقشة أو
التنفيذ، وربما مرحلة إنهاء حركة حماس وإزالتها من خارطة الوجود هي
بداية المطاف.... |