من الأمور التي جُبل عليها الانسان انه غالبا ما يستخلص الدلالات
الايجابية من تجاربه برغم تعددها وتنوعها، لينكشف له الجانب السلبي
منها، فيفرزه بوضوح لكي يتجنبه ويتحاشاه بسبب الاضرار التي قد تلحق به
وبمسيرة حياته المتواصلة، ولهذا السبب فقد توافرت للانسان خبرة
قيَميَّة متصاعدة في دراسة الظواهر المتنوعة التي تتمخض عنها رؤاه
ونشاطاته، ليضع له منهجا واضحا يتحاشى من خلاله الوقوع في فخ التردي
القِيَمي والاخلاقي وما قارب او شابه ذلك.
من هنا كانت ثورة الامام الحسين (ع) ولا زالت بما تحمله من فكر
انساني متوثب محط انظار الانسان لكي يضع خطواته على جادة الصواب في
مسيرته الحياتية المتطاولة.
فالحرية كمطلب انساني أزلي هي احدى دلالات الفكر الحسيني من دون
ادنى شك، ودلائلنا كثيرة على ذلك، ولعل الفطرة الانسانية التي تتمثل في
قبول الخير ومساندته ورفض الظلم ومقته أيا كان نوعه او مصدره هي الدليل
الأقرب لما ذهبنا اليه، فماذا يعني لنا رفض الظلم ومقته؟ وماذا يعني
لنا الوقوف بوجهه ومحاربته بكل الوسائل المتاحة؟
ألا يعني ذلك بحثا دؤوبا عن حرية الانسان وترسيخا لهذا المبدأ
الانساني الذي يرفض مبدأ الفرض ويقمع نزعة التسلط في النفس الانسانية
وفي السلوك الانساني عموما؟.
لقد كانت الحرية مشعلا انسانيا يتألق في طريق الامام الحسين وذويه
وصحبه الأطهار (ع) وهم يغذّون السير نحو مقارعة الانحراف والتردي، وهذا
ما يقودنا الى موقف الحر بن يزيد الرياحي، وهو الذي كان احد أهم قادة
جيش يزيد، ويتمتع بمزايا السلطة والجاه والمال وكل ما ترغب به نزعات
النفس الامارة بالسوء، فما الذي دفع بهذا القائد الى تغيير موقفه، وهو
يعرف تماما ان الموت هو النتيجة الواقعية لمن يواجه جيشا كبيرا منظما
بعدد قليل لا يتجاوز السبعين يمثلون القوة القتالية للامام الحسين (ع)،
فهل كان الحر يتوقع غير الموت الواقعي، ثم ما هي مبررات هذا التحول
الكبير في مدة وجيزة من خانة الشر الى خانة الخير ومن خانة الظلم الى
خانة الحرية؟.
وأخيرا كيف تنازل الحر عن كل الامتيازات التي كان يتمتع بها مقابل
حالة الموت الأكيد ؟.
إن هذه التساؤلات ينبغي ان تنهض في وجدان وفكر كل من يحاول أن يشكك
بأهداف الحسين (ع) وما يصبوا اليه هذا الفكر من رفض للظلم وإطلاق لصوت
الحرية والصلاح.
لقد كان لهذا التحول العظيم في موقف الحر بن يزيد الرياحي صدمة كبرى
لكل العقول التي أرادت أن تضع اهداف الحسين (ع) على هامش الحياة
الانسانية، بل لا زال هذا الموقف يشكل احد المرتكزات العظيمة التي حولت
الرؤية البشرية من جادة الخطأ الى جادة الصواب، وكل هذا يتأتى من رفض
مكاسب الظلم والتخلي عنها بل ونبذها كليا والتحول الى رحاب الحرية
الانسانية الرافضة للظلم بكل اشكاله.
لذلك تُعدّ حالة التخلي عن الظلم وامتيازاته كما فعل الحر الرياحي
واحدة من أعظم دلالات التحرر التي رسخها الفكر الحسيني ثم عممها على
الفكر الانساني كما رأينا في موقف غاندي الذي نهل من مبادئ الفكر
الحسيني وأخذ منها ما يحتاجه من قوة روحية هائلة استطاعت ان تطيح
بالمستعمر البريطاني آنذاك وتحرر الامة الهندية قاطبة من جوره وظلمه
بوسائل الحرية القوية والمسالمة في آن واحد.
كما ينبغي علينا جميعا ان نجعل من هذه الدلالات الواضحة للعيان
مشاعل لطريقنا نحو السمو الاخلاقي والروحي والعملي، فالحسين (ع) عندما
قدم نفسه وأهله وصحبه عليهم السلام قرابين للحرية البشرية انما فعل ذلك
لكي نسير على خطاه فنحقق بذلك رضاء الله سبحانه وتعالى ونجنب أنفسنا
حالات الانحراف التي تتربص بنا في طريق الحياة. |