أشد ما أثار أنتباهي ودهشتي في الحادثة التي تعرض لها الرئيس
الأمريكي خلال زيارته الوداعية للعراق هو ماحدث من ردة فعل في العالم
العربي _ فضلاً عن العالم الثالث _ الذي أيد أغلب شارعه مافعله الصحفي
العراقي الذي رمى بوش بفردتي حذائه في مؤتمر صحفي، والأكثر دهشة وغرابة
في القضية أن هذا التأييد والمساندة للصحفي العراقي لم تقتصر على
الطبقات الشعبية فيها التي لم يكن لها نصيباً من الثقافة والوعي بل
أمتد ذلك لبعض مثقفيه ونخبته الذين صفقوا لهذا الفعل وطبلوا له وتغنوا
بفعلته وبيمين الصحفي المباركة.
في مثل هذا الأجواء الغرائبية والحماسية التي يغيب فيها العقل
الهادئ ويتوارى جانباً ، يحق لنا أن نقرأ حال هذه الأمة ونقف قليلاً
أمام موقفها هذا وذلك من خلال طرح سؤال جوهري تاريخي حضاري حول وضعية
هذا الأمة التي تهتز وتنتفض لرمية حذاء طائر ، فتعتقد على أثره انها
ثأرت لكرامتها المسلوبة وانتصرت لذاتها المنكسرة واعادت مكانتها
السابقة وردت هيبتها المفقودة وحققت أخيراً أهدافها التي تصبو اليها
بعد أن عجزت ايديولوجياتها السياسية المتهرئة والوسائل التكنولوجية
والادوات الحضارية وخطط تنميتها عن إحراز تقدم واضح ونصر حقيقي معتد به
!
وقبل الابحار الى شاطئ السؤال التاريخي الحضاري كما وصفته ، لابد أن
أوضح أن الحدث الذي حصل في المؤتمر الصحفي قد أعتبره _ من وافقوا عليه
_ عملاً بطولياً خارقاً للعادة أعاد الهيبة والكرامة للامة العربية
ورداً بسيطاً على حماقات وجرائم بوش بحقهم في حين أن _ الرأي الرافض له
_ قد وصمه بأنه أساءة لأخلاقية الصحافة وخروجاً عن التقاليد المهنية
ولحرية التعبير التي بدأت تظهر معالمها على نحو كبير في عراق ما بعد
صدام.
وها هنا أسمحوا لي تفجير الاسئلة التالية :
هل تعيش الأمة زمن الهزيمة الكبرى وعصر الأزمة والانتكاسة الفاضحة
التي أوصلت امتنا إلى هذا الحضيض لكل أسف ؟
هل هُزِمت الأمة فعانت من أزمة خانقة ؟
ام ارتكست في أزمتها فعانت نتيجة لذلك الهزيمة المنكرة ؟
هذه الأسئلة ضرورية ومهمة في هذا الوقت خصوصاً والعالم العربي يعيش
أسوأ أنهياراته وأزماته التي ظهرت ملامحها وتجلت معالمها في صور عديدة
ومظاهر شتى لعل أهمها هو تأييد انفعالي عاطفي لفعل الصحفي العراقي.
دعونا نستطلع قليلاً راي بعض فلاسفة التاريخ لنرى كيف تتحرك الأمم
والحضارات ؟ وانى تنمو؟ والى اي مسار تسير نحوه ؟
وهي مدارس توزعت بين القول بالتقدم المستمر للحضارات واخرى تقول
بالتقهقر والارتداد ومدارس اخرى تتحدث عن دورات وانقطاعات تاريخية
وعشوائية في مسيرة الحضارات ،وهذه الاراء والمداراس قيلت من خلال كبار
فلاسفة التاريخ كابن خلدون في تشخيصه لاسباب قيام وسقوط الحضارات او
اشبنجلر وحديثه عن تدهور الحضارة الغربية واسبابها ونتائجها أو توينبي
في نظرية التي أكد فيها ان الحضارات تقوم استجابة لتحديات معينة محددة
سواء كانت هذه التحديات أجتماعية او اقتصادية او روحية....بالأضافة الى
فلاسفة تاريخ اخرين أدلوا بدلوهم في هذه القضية..
هكذا تسقط الامم وتنهار...وتتداعى...ولا اظن ان حضارتنا او امتنا
بمعزل عن العوامل المشتركة التي تؤدي الى قيام الامم والحضارات او
سقوطها وانهيارها مع ايماننا بوجود خصائص معينة تتميز بها كل حضارة
تختلف بها عن الحضارات الاخرى.
واظن اننا الان امام مفترق خطير... فامتنا العربية زعمت وادعت
انتصارها بضربة حذاء من صحفي عراقي وجه للرئيس الامريكي في مؤتمر رسمي
وامام رئيس الوزراء العراقي !
تصوروا معي هذه الدراما السينمائية !
أمة تحلم بالانتصار واستعادة أمجادها السابقة....
فلاتجدها في ابتكارات واختراعات علمية ساحقة...
ولا في تنمية حضارية شاملة....
ولا في بناء اقتصاد قوي متماسك...
ولا في سياسة ستراتيجية متطورة...
ولا في خلق مجتمع سليم ومتطور...
ولا في حفظ حقوق انسانها واحترامه...
ولا في عدالة توزيعها للثروات الوطنية على مواطنيها...
لاتجد انتصارها في كل ذلك مع انها اصلا لم تحقق عشر هذه الاشياء..
وانما تجده في ضربة حذاء من صحفي عراقي...
اليست هذه هزيمة في الفكر والسلوك ؟
اليس هذا انحطاطاً في الرؤى ؟
اليس هذا البؤس في التفكير يدل على وجود أزمة بل ازمة خانقة في فكر
هذه الامة !
هذه الأمة التي مجّدت وترحمت على طاغية سابق يُدعى صدام حكم العراق
بالحديد والنار ووصفته بانها شهيدها وقائدها العظيم !
هذه الامة التي اقام البعض منها سرادق للعزاء للإرهابي الكبير
الزرقاوي حينما قُتل ، وهو الذي فتك بالشعب العراقي وتمادى في ذبح
ابناءه !
هذه الأمة...التي تبلغ الحصيلة الشهرية من الرسائل الخلوية SMS التي
تظهر على الشريط الموجود أسفل الشاشة في القنوات الفضائية العربية
الهابطة ملايين الدولارات...
هذه الأمة...التي تصرف ملايين الدولارت من اجل تكلفة إنتاج الفيديو
للكليبات الخاصة بأغاني التعري والفن الهابط في العالم العربي...
هذه الامة..التي يفوق مجموع الدخل السنوي للخادمات في بعض من بيوت
اثريائها ملايين الدولارات...
هذه الأمة... التي بلغ مجموع ما تنفقه المرأة فيها على مستحضرات
التجميل في السنة الواحدة هو (2) مليار دولار ( منها 1.5 مليار حصة
المرأة الخليجية )!!
أمة مجموع ما تنفقه فيها دولها العربية مجتمعة على البحث العلمي هو
(1.7) مليار دولار سنويا, أي ما نسبته (0.3%) فقط من الناتج القومي
الإجمالي في مقابل دول اخرى كفرنسا التي تنفق بما مقداره 2.7% من
ناتجها القومي...بينما السويد تنفق 2..9%... واليابان 3%...واسرائيل
4..7% ... أي 10 أضعاف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة حسب إحصائيات
اليونسكو لسنة 2004..
هكذا أمة طغت وتسيدت فيها النزعة الشعبوية الانفعالية وانحسرت فيها
العقول المفكرة والمبدعة الخلاقة....تتجه بلاشك الى الانهيار والاختفاء
والابتعاد عن التاريخ والانزواء خلف الظلم السياسي والانتصارات الوهمية
التي لم نرى لها سوى نتائج سلبية مزرية..
ملاحظة
أستخدمت مفهوم الامة هنا أجرائيا لتعني الاكثرية الساحقة منها وليس
جميعها
[email protected] |