اذا صدقت الأخبار المتداولة فإن ست دول عربية كانت على علم مسبق
بموعد الهجوم على قطاع غزة، وأن ثلاث دول على الأقل كانت على إحاطة
بالتفاصيل كافة، وأبعاد العملية الحربية الشرسة، بل ويعتقد أن الدول
الثلاث هيأت بيئة الهجوم النازي الأخير، وأدارت حلقة اتصالات مع أكثر
من عاصمة عربية حول طريقة التعامل مع حكومة حماس التي تحولت إلى دولة
الأمر الواقع في قطاع غزة، وأيّدت جهات عربية عدة فكرة حث إسرائيل على
شنّ هجمات عسكرية كخطوة للقضاء على مشكلة حماس.
بما يوحي بأن الموقف العربي ككل كان متواطئا في هذه المجزرة البشعة،
بدواعي تصفية حماس والتخلّص من قياداتها. وخلال الأسابيع القليلة
الماضية نقل الإعلام الإسرائيلي عن مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية
قيام بعض الزعماء العرب بدعوة مسؤولين في الكيان الصهيوني إلى تغيير
تركيبة غزة السياسية في أسرع وقت ممكن، من خلال توجيه ضربة عسكرية
عنيفة تعمل على تقويض سلطة حماس، وإعادة القطاع إلى إدارة السلطة
الفلسطينية.
والأمر لا يبدو غريبا، فقد تواطأت هذه الدول من قبل على «حزب الله»
في حرب يوليو /تموز 2006، فمعظم التصريحات العربية الرسمية تصب في
اتجاه تحميل حماس، وليس إسرائيل، سبب ما جرى ويجري في قطاع غزة.
وتُبشّر وسائل الإعلام العربية الرسمية، وشبه الرسمية، بانتصار الجيش
الإسرائيلي وهزيمة حماس في ظرف أيام قلائل، وكأنها وسائل إعلام صهيونية
لا عربية تُعبّر عن رغباتها ومواقفها الشخصية ضد حماس، لا عن تحليل
وقراءة موضوعية لساحة المواجهة السياسية والعسكرية، هذه المواقف ليست
جديدة على الإطلاق، وخبرناها جيدا: تواطؤ على الأخوة، واصطفاف لجانب
العدو.
ربما لو تساءلنا عن الجهات التي تُحاصر فلسطينيي غزة اقتصادياً
وسياسيا اليوم، لأصابنا الدوار. فدور بعض الدول العربية لا يقل سوءا عن
دور الدولة العبرية، وكشف الحصار الإسرائيلي الأخير لقطاع غزة حقيقة
مواقف العديد من الدول العربية، حيث لم تتردد جمهورية مصر، وهي إحدى
أهم وأكبر الدول العربية في المنطقة، عن إعلان استعدادها لاستقبال
الأشلاء الفلسطينية المتقطعة، لكنها غير مستعدة لفتح المعابر والحدود
للمحرومين والخائفين والمتضررين، وتخشى الأردن من جهتها أن يؤدي
استمرار حركة حماس في إدارة قطاع غزة، بعد هذه المواجهات الدامية مع
إسرائيل، إلى اتساع الشرخ بينها وبين شعبها الغاضب، وبخاصة الإسلاميون،
ولذا لم تتردد في تحميل حماس المسؤولية عما حدث.
ويبدو لي أن مذبحة غزة هي فرصة للبحث في عدد من الملفات المهمة،
الملف الأول هو الموقف العربي المتخاذل من هذه الاعتداءات المتكررة،
فبغض النظر عن الاختلافات والتباينات في وجهات النظر داخل البيت
العربي، وبغض النظر عن المخطئ والمصيب في المواقف والتصريحات، فإن
الأحرى بالدول العربية أن تلتف حول بعضها البعض، ويدافع أدناها عن
أقصاها، على الدول العربية أن تتعلم كيف تركن خلافاتها جانبا عند
الأزمات، لا أن تؤخذ كفرصة للانتقام وتصفية الحسابات.
الاعتداء على أي جزء من الأرض العربية، وعلى أي إنسان عربي، هو
اعتداء على كل العرب بلا استثناء. فالممارسات الوحشية التي تجري في
بيروت أو غزة أو بغداد، إنما هي بمثابة مشروع تهميش وصفعة في وجه كل
الحكومات والشعوب العربية، ورسالة صريحة بأن العرب وحكوماتهم أصبحوا
خارج دائرة الفعل والتأثير والقرار، وأن المعنيين بالحل والربط في
المنطقة وقضاياها هما الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، أما باقي دول
المنطقة، فليس لهم الحق في التدخل أو تقرير المصير.
المجزرة البشرية في قطاع غزة هي وصمة عار في جبين النظام العربي
الرسمي، وشهادة وفاة رسمية للدور العربي العاجز عن الفعل، وهي إعلان
بأن الشعوب العربية على الرغم من تعاطفها مع الأحداث مسلوبة الإرادة،
بسبب عجز حكامها وحكوماتها. المطلوب إذن، العمل على استعادة الكرامة
العربية المفقودة، من خلال الموقف العربي المتماسك تجاه الأحداث،
والوقوف إلى جانب الحق العربي والإسلامي، وتعضيد المقاومة بدلا من
تجريم أعمالها وجهادها ومبادراتها، وإن اختلفنا معها في بعض التفاصيل،
المطلوب الآن قطع جسور العلاقة والود مع العدو الصهيوني، وتقوية أواصر
العلاقات العربية- العربية، ولاسيما في ظروف الأزمة.
أما الملف الثاني، فهو ما يمكن تسميته بمستقبل العلاقات الفلسطينية
الداخلية. ففي الوقت الذي أدى الهجوم على غزة إلى توحد إسرائيل بسائر
أحزابها وتنوعاتها خلف القيادة السياسية والعسكرية، ووحد إعلان الغارات
الجوية الأحزاب السياسية الإسرائيلية، ودفعها إلى وقف انتقاداتها
الداخلية الساخنة، وتعطيل حملاتها الانتخابية، وأعلنت الأحزاب السياسية
الإسرائيلية أن الظرف الراهن يستدعي الوقوف أمام العالم كجبهة واحدة،
فإن الأخوة في فلسطين لا يزالون في حالة حرب متبادلة.. حرب «المحرومين
ضد المحرومين»، ما يشير إلى أن زمن الخروج من مآزقنا المتتالية لا يزال
بعيدا جدا.
لم تستطع كل الدماء الفلسطينية التي سالت ولا تزال تسيل في شوارع
غزة توحيد حركتي فتح وحماس ضد المحتل الذي يمارس القتل برصاص غادر، ولا
تزال حالة التناوش والتبادر لرفع السلاح في وجه الأخوة مستمرة، وقبل
يومين شن مسؤول في السلطة الفلسطينية هجوماً عنيفاً على حركة «حماس»،
معتبرًا أنها تتحمل جزءا من المسؤولية عما يجري في غزة، وردت حماس بأن
هذه التصريحات تعد عمالة مكشوفة للاحتلال، وتكشف عن نوايا خطيرة وأجندة
مقيتة لدى قيادة السلطة، وعن استعداد للتعاون والاتفاق مع الكيان
الصهيوني. ولا يخفى أن الخلاف بين الطرفين وصل قبل أسابيع قليلة إلى
درجة امتشاق كل طرف سلاحه في وجه الآخر، وسقوط قتلى برصاص الطرفين،
وإلى حد ما تناقلته بعض المصادر الدبلوماسية عن تورط رئيس السلطة
الفلسطينية في التحريض على الهجوم.
لا يمكن أن يدعو شعب يسفك دم بعضه بعضا الآخرين لاحترام دمائه والكف
عن إيذائه، إن كان الدم الفلسطيني رخيصا عند الفلسطينيين، فمن المؤكد
انه لن يكون غاليا عند الآخرين، ولن يحرص عليه أعداؤه. الخطوة الأولى
للنصر، هو تعزيز الجبهة الداخلية وتماسكها، ورفع قيمة الدم الفلسطيني،
فالإنسان الفلسطيني قادر على الصمود، وقادر على تحدي آلة الحرب
الإسرائيلية، لكن بشرط ألا يتعرض للطعن من الخلف بيد عربية أو
فلسطينية.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.com |