أين نحن من العمل التطوعي؟

عقيل بن عبدالخالق اللواتي

تشير بعض الأرقام الى أن 91% من سكان كندا الذين تتجاوز أعمارهم 15 سنة مشاركون فاعلون في العمل التطوعي. وأن 45% من سكان ألمانيا في نفس الشريحة العمرية منضمين إلى منظمات العمل التطوعي المختلفة. وأن عشرة ملايين ونصف مليون فرنسي يتطوعون في نهاية الأسبوع للمشاركة في تقديم خدمات اجتماعية مختلفة تخص الحياة اليومية، من مجالات التربية والصحة والبيئة والصحافة والترفيه وغيرها.

 وفي دراسة عن الولايات المتحدة الأمريكية أظهرت أن عدد المتطوعين بامريكا يشكل 44% من جميع البالغين، ويقدمون ساعات تطوعية تبلغ أكثر من خمسة عشر بليون ساعة سنويا، وهذا ما يقارب عمل تسعة ملايين شخص بدوام كامل!

هذه هي صورة العالم الغربي حيث العمل التطوعي المنظم والمبرمج. وتكشف هذه الأرقام والاحصائيات عن المستوى المتقدم الذي وصل إليه المجتمع الغربي في مجال الأعمال التطوعية، وبالرغم من أن بعض دوافع المؤسسات الخيرية في الغرب تشوبها دوافع مصلحية أو سياسية أو تبشيرية إلا أن الكثير منها  ناتج من مستوى الوعي المجتمعي بأهمية العمل الخيري، ومن الفطرة الإنسانية التي تدفع بالإنسان كإنسان إلى خدمة أخيه الإنسان وخدمة مجتمعه وأمته. فهؤلاء جعلوا من العمل التطوعي إحدى الدعائم القوية لأنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسنوا من أجل تسهيل ممارسته الأنظمة والقوانين، ويتسابق من أجل المشاركة فيه كل شرائح مجتمعاتهم.

ولا نبالغ إن قلنا بأن الغربي - مسيحيا كان أو يهوديا- يعد العمل التطوعي جزءا ً اساسيا ً من حياته، ومفخرة له يضمنها سيرته الذاتية حيثما حل وارتحل، فالكثير من جهات العمل والتوظيف هناك تعد الانخراط في مثل هذه الأنشطة نقطة إيجابية هامة تسجل لصاحبها.

ومن المفارقات العجيبة ان العمل التطوعي لم يحظ في اي ثقافة اجنبية بمثل المكانة التي حظي بها في الثقافة العربية والأسلامية، ومع ذلك فأن ثقافة التطوع في مجتمعاتنا العربية والاسلامية تتسم بدرجة متدنية من عدم الفعالية في معظم البلدان. ففي دراسة ميدانية قامت بها "الشبكة العربية للمنظمات الأهلية" تبين أن الشباب العربي من سن 15 إلى 30 عاما هم أقل الفئات اهتماما بالعمل التطوعي، يقابل هذا التراجع العربي مشاركة فعالة من الشباب في دول العالم الغربي حيث اصبحت ثقافة التطوع احدى اهم ركائز العمل الاجتماعي والتنموي، واصبح التطوع جزءا ً اساسيا ً من حياة غالبية الناس في تلك البلدان .. فلماذا؟

كثير من الدراسات التي أجريت في مختلف الدول العربية والاسلامية تحصر الإجابة على هذا السؤال في أسباب متعددة تتعلق بعدم الاهتمام ببرامج التطوع وغياب برامج التوعية وضعف ثقافة التطوع عموماً، وترجع ذلك الى ضعف دور الأسرة في تدريب أبنائها وتحفيزهم على الانخراط في الأعمال التطوعية وغرس حب العمل التطوعي كقيمة إجتماعية، وذلك بجانب عدم اهتمام المدارس والمعاهد والكليات بهذا الجانب وخلو المناهج التعليمية نفسها من محفزات العمل التطوعي. فالأنشطة التعليمية تكاد تخلو من أي دفع وتطوير لقيمة التطوع ومساعدة المجتمع المحلي على النمو والتقدم.

 والمؤسسات الجامعية لا تلقى بالاً لتضمين أي مشروع تطوعي ضمن خطة نشاطها إلا نادراً، في اهمال واضح للبرامج والمشروعات الخيرية والتطوعية. اضافة إلى ذلك - وفق هذه الدراسات - أسبابا أخرى من أهمها عدم تشجيع الحكومات لمؤسسات العمل التطوعي داخل مجتمعاتنا، الأمر الذي أدى إلى نشوء حالة من عدم الوعي بمفهوم التطوع وفوائد المشاركة فيه على الفرد والمجتمع.

 وتؤكد هذه الدراسات على ان ذلك يعود الى طبيعة النهج السياسي والأيدلوجي الذي تتبناه الأنظمة السياسية في تلك البلدان والمتضمن عدم السماح للمواطن من المشاركة في الحياة العامة ناهيك عن العمل السياسي والاجتماعي. فالتشريعات الحكومية التي تتعلق بإنشاء مثل هذه المؤسسات الخيرية والتطوعية وتهميشها وتدخل الحكومات في سير عملها وعدم توافر بيئة تشريعية مشجعة للمبادرات التطوعية، كل ذلك يصنف كأحد أهم أسباب غياب ثقافة التطوع . كما انه من أسباب ضعف ثقافة التطوع القصور الكبير لدى وسائل الإعلام في نشر ثقافة التطوع، وإشكاليات ترتبط بضعف المكونات العلمية البحثية التي يمكن أن ترشد سياسات العمل التطوعي وأبرزها غياب المسوح الميدانية وقواعد البيانات، وأخيراً إشكاليات ترتبط بضعف بناء قدرات المتطوعين من ناحية التدريب. كل هذه العوامل تؤدي الى انحسار أعمال التطوع وقلة نسبة التفاعل معها في  بلادنا العربية والاسلامية مقارنة بحشود المتطوعين في الدول الأخرى. 

ورغم ذلك كله - وحسب هذه الدراسات - فان الرغبة والحماس في التطوع موجودة لدى الكثير من أفراد مجتمعاتنا ولكنها بحاجة إلى التنظيم والتوجيه.  فلا يكفي فقط وجود روح المبادرة والحماس والرغبة في العمل التطوعي لدى أفراد المجتمع ولكن لابد من فتح المجال لذلك وتوجيههم واعطائهم الثقة بالنفس وذلك من خلال إنشاء مؤسسات اجتماعية خيرية ومراكز للتدريب لدراسة امكانات المتطوعين وتوجيههم للمكان الصحيح وتلقيهم التدريب الفني والإداري ليكون التطوع بذلك قائماً على أسس علمية ومنهجية صحيحة حتى يحقق الهدف المطلوب منه.

 وانا لا اقصد هنا النشاطات التطوعية التي تقتصرعلى الكوارث فقط. فهناك حقائق مذهلة على الارض لا يمكن ان ننكرها. هناك حالات الفقر والمشاكل الاجتماعية التي تحتاج إلى علاج واستشارة وقضايا التعليم والتوجيه الديني والسلوكي وأمور البيئة وأوضاع المحتاجين إلى الرعاية، من مسنين ومعوقين وأيتام، وهناك البطالة والامراض و حاجات ملحة لفئات من المواطنين تبحث عن يد ممدودة بالخير. والقول بأن الدولة ترعى المواطن من المهد الى اللحد، ان هذا المفهوم لم يعد مناسبا ًفي العصر الحديث بسبب تعقيدات الحياة وتشعباتها وتطوراتها مما جعل الدولة لا تمتلك الأدوات الكافية التي تستطيع من خلالها ان تدير جميع شؤون المجتمع بكل تفاصيله، فلهذا جاء مبدأ الشراكة الأجتماعية ومفهوم العمل التطوعي الحر، وعادة ًما تقوم مؤسسات المجتمع المدني بهذا الدور المهم ، وتخفف عن كاهل الحكومات وذلك من خلال مشاركة المواطنيين في إدارة شؤون مجتمعهم ، وتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على انها علاقة تعاقدية أساسها القانون والحقوق والواجبات وشراكة تحدد فيها المسؤوليات والأدوار على الطرفين.

في ظل هذا الواقع الاجتماعي المتأزم الذي نعيشه، يظن البعض أن العمل التطوعي نموذج غربي حديث يمثل ظاهرة حضارية للمجتمعات الغربية المعاصرة، وهو ولاشك كذلك إن نظرنا إليه في هذه اللحظة التي نعيشها من عمر الزمن. فالمتتبع للشأن الاجتماعي في كثير من الدول الغربية يجد أن المؤسسات التطوعية هي ذات السبق في التصدي لكثير من الأمراض الاجتماعية التي باتت تؤرق الدول والحكومات . فخذ على سبيل المثال مشكلة المخدرات وسبل علاجها ، الشباب والفراغ ، الفساد الأخلاقي ، محاربة بعض العادات والتقاليد القديمة السيئة ، القضايا الأسرية ، الديمقراطية ، حقوق الإنسان ، البيئة ، السلام ، والكثير الكثير من الشؤون الإنسانية الأخرى التي لا تعد ولا تحصى. في حين ان المنظمات الخيرية في كل أقطار العالم العربي لا تتجاوز مجموع المنظمات الخيرية في ولايتين فقط من الولايات المتحدة الأمريكية!! وقد تعدت المنظمات الخيرية في أمريكا مليون جمعية ومنظمة غير ربحية.

الكثير من المنظمات في الغرب قامت بسبب حادث ما؛ طفل مات بالسرطان فقام والداه بإنشاء مؤسسة لدعم أبحاث السرطان، شاب قتل بسبب الكراهية والعنصرية فيقوم زملاؤه بإنشاء مؤسسة للقضاء على العنصرية. وكثير من المستشفيات الكبرى والجامعات الكبرى بالغرب لم تقم سوى على اكتاف المؤسسات التطوعية  الخيرية أو المؤسسات الوقفية. فهذا هو الثري الأمريكي (جون هوبكنز) الذي أراد انتشال مجتمع العشوائيات في محيط مدينة بالتيمور عاصمة ولاية ميرلاند من براثن الفقر والذي كان يسكنه الملونون المعدمون، هو من انشأ جامعة (جون هوبكنز) التي اصبحت من أعظم الجامعات الأمريكية بالتاريخ.. لقد حارب الفقر بالعلم، ولم تكن جامعة خاصة مثل جامعاتنا اليوم التي تقدم كمشروعات استثمارية. وجامعة أخرى مثل (كمبردج) البريطانية الشهيرة أو (اكسفورد) التي تنفق على نفسها من عائدات وقفية بالأساس .. بدأها الرواد الأوائل وتوالت الأوقاف الخيرية لدعم نشاطات تلك الجامعات التي اصبحت مقصد طلاب العالم الباحثين عن الجامعات المتميزة.

هذه الثقافة، وهذه الصور من التكافل الاجتماعي كان يفترض ان تكون اكثر ثفشيا ً واتساعا ً في مجتمعنا وبلادنا من بقية المجتمعات والبلدان، على اعتبار ان ذلك من صلب قيمنا الروحية والحضارية وما تحمله من مفاهيم موروثة تحضنا جميعا ً على عمل الخير والتطوع.

* كاتب عماني

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 28/كانون الثاني/2008 - 29/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م