الجريمة داء سرطاني ينخر في جسم المجتمع، مما دعا الجميع التضافر في
مكافحته ومن اجل ذلك ظهرت النظريات التي تعرف الجريمة وتشخصها والآليات
التي تكافحها وسنت القوانين، ولم يقتصر الأمر على المستوى الوطني بل
تعداه إلى الاهتمام العالمي، وأسست المنظمات الدولية لمكافحة الجريمة
بكل أصنافها، فهذا الاهتمام الواسع هل كان محل اهتمام المشرع في منح
المواطن دور في مكافحة الجريمة ؟ وسيكون التشريع العراقي محلا للتطبيق
في الإجابة على هذا التساؤل.
وقبل الولوج في الإجابة لابد من معرفة معنى الجريمة وكذلك معنى
المواطن في القانون وليس بالتعريف الفقهي أو السياسي أو سواه، لان كل
مجال لمن العلوم الإنسانية له رؤيا خاصة تجاه المعنى على وفق معطيات
تناوله في الدراسة أو التطبيق، حيث نجد في المنظومة القانونية العراقية
إشارة إلى معنى الجريمة وكذلك المواطن، ففي من قانون العقوبات العراقي
رقم 111 لسنة 1969 المعدل لم يعرف الجريمة مثلما ذكرها فقهاء القانون
الجنائي وإنما أعطاها وصفا حينما ذكر في نص المادة (1) منه على أن (لا
عقاب على فعل أو امتناع إلا بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه
ولا يجوز توقيع عقوبات أو تدابير احترازية لم ينص عليها القانون)،
بمعنى إن الجرائم هي الأفعال التي ينص على تجريمها القانون ويضع لها
عقوبة مناسبة وهذا ما يسمى بمبدأ المشروعية (لا عقوبة ولا جريمة إلا
بنص أو بناء على نص).
كما عرف في نص الفقرة (1) من المادة (19) المواطن بما يلي (المواطن:
هو أحد رعايا جمهورية العراق ويعتبر في حكم المواطن من لا جنسية له إذا
كان مقيما في الجمهورية)، لذلك فان المسؤولية تجاه الأفعال الجرمية هي
على المواطن الذي يعد من رعايا الدولة العراقية أو الذي يعتبر بحكم
المواطن على وفق ما تقدم بالدرجة الأساس، إلا إن ذلك لا يمنع غير
المواطن من تحمل المسؤولية تجاه الجرائم، إذا علم بوقوعها أو من الممكن
المساهمة في منعها لان الواجب الأخلاقي، الذي هو أسمى من الجانب
القانوني، يفرض على الجميع التعاون من اجل مكافحة الجريمة، ودعت إلى
ذلك اغلب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
اما في التشريعات العراقية نجد إن المشرع حمل المواطن مسؤولية
قانونية ورتب على إثرها عقوبة لمن يمتنع عن الإخبار عن وقوع الجريمة أو
الذي يتستر على الجاني، وكذلك الممتنع عن تقديم المساعدة إلى المكلفين
بحفظ النظام والقانون، وأشار إلى ذلك في نص المادة (47) من قانون أصول
المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل على ما يلي (لمن وقعت
عليه جريمة ولكل من علم بوقوع جريمة تحرك الدعوى فيها بلا شكوى أو علم
بوقوع موت مشتبه به أن يخبر قاضي التحقيق أو المحقق او الادعاء العام
او احد مراكز الشرطة) فأصبح من الواجب على المواطن ان يخبر السلطات
المختصة إذا علم بوقوع جريمة أو إنها ستقع مستقبلا، ورتب المشرع على
الامتناع عن ذلك الأمر عقوبة بمعنى أصبح الفعل جريمة يعاقب عليها
القانون على وفق أحكام نص المادة (245) من قانون العقوبات النافذ التي
تنص على ما يلي:
(يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة وبغرامة لا تزيد على مئة
دينار او بإحدى هاتين العقوبتين كل من كان ملزما قانونا بإخبار احد
المكلفين بخدمة عامة بصفته الرسمية عن امر فاخبره بأمور يعلم إنها
كاذبة وكل من اخبر احد المكلفين بخدمة عامة بصفته الرسمية بأمور يعلم
انها كاذبة قاصدا بذلك حمله على عمل شيء او الامتناع عن عمل خلافا لما
كان يجب عليه القيام به لو ان حقيقة الواقع كانت معلومة لديه).
كما ان المشرع العراقي لم يعاقب على الممتنع عن الإخبار، وإنما
أيضا على الذي لم يقدم المعونة إلى اعضاء الضبط القضائي المشار إليهم
في نص المادة (39) من قانون العقوبات العراقي النافذ، المقصود هنا،
رجال حفظ القانون، حيث اشار في نص المادة (242) من قانون العقوبات
العراقي النافذ على ما يلي (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة اشهر
وبغرامة لا تزيد على مائة دينار او باحدى هاتين العقوبتين كل من امتنع
بغير عذر عن المعاونة الواجب عليه تقديمها لمحكمة او قاض او محقق
تنفيذا لواجباته القضائية او لموظف او مكلف بخدمة عامة تنفيذا لواجبات
عمله بعد ان طلب منه تلك المعونة).
كما إن قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005 شدد عقوبة المتستر
عمدا على الأعمال الإرهابية بمعنى الذي لم يخبر عنها مع تحقق علمه وكان
ذلك عمدا وجعل العقوبة تصل إلى حد السجن المؤبد على وفق أحكام الفقرة
(2) من المادة (4) منه عندما نص على ما يلي:
(يعاقب بالسجن المؤبّد من أخفى عن عمد إي عمل إرهابي أو أوى شخص
إرهابي بهدف التستر).
وتوجد أحكام كثيرة ومتفرقة يستدل منها على إن الأمر هو من أهم
الواجبات التي تقع على المواطن في الأخبار وتقديم المعونة والمساهمة في
ردع المجرمين ومكافحة الجريمة، ولم يكتفي المشرع بذلك بل عمد الى مبدأ
الثواب والعقاب ففي نصوص أخرى أثاب على فعل الإخبار ومنح الجوائز
والمكافأة عليه، وعد الإخبار الذي سهم في كشف الجريمة قبل وقوعها من
الأعذار القانونية المعفية من العقاب وفي أحكام أخرى عده أعذار قانونية
مخففة للعقوبة على وفق التفصيلات الواردة في قانون العقوبات العراقي
والقوانين الأخرى.
أضف إلى ذلك سعي المشرع إلى تأمين الحماية للمواطن المخبر في عدم
ذكر اسمه او عنوانه على وفق ما ورد في نص الفقرة (2) من المادة (47) من
قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل وعلى وفق ما
يلي (¬ للمخبر في الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي او الخارجي
وجرائم التخريب الاقتصادي والجرائم الأخرى المعاقب عليها بالإعدام أو
السجن المؤبد أو المؤقت أن يطلب عدم الكشف عن هويته وعدم اعتباره
شاهدا، وللقاضي ان يثبت ذلك مع خلاصة الإخبار في سجل خاص يعد لهذا
الغرض ويقوم باجراء التحقيق وفق الاصول مستفيدا من المعلومات التي
تضمنها الاخبار دون بيان هوية المخبر في الاوراق التحقيقية).
وكذلك ما ورد في نص المادة (5) من قانون مكافحة الإرهاب رقم (13)
لسنة 2005 (1. يعفى من العقوبات الواردة في هذا القانون كل من قام
بإخبار السلطات المختصة قبل اكتشاف الجريمة او عند التخطيط لها وساهم
إخباره في القبض على الجناة او حال دون تنفيذ العمل.2. يعد عذرا مخففا
من العقوبة للجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية من هذا القانون
للشخص اذا قدم معلومات بصورة طوعية للسلطات المختصة بعد وقوع او اكتشاف
الجريمة من قبل السلطات وقبل القبض عليه وأدت المعلومات الى التمكن من
القبض على المساهمين الآخرين وتكون العقوبة بالسجن).
ومن خلال العرض لبعض النصوص القانون نتساءل، هل إن الإخبار عن
الجريمة او التي ستقع يعد حقا للمواطن شاء ان يستعمله او لم يستعمله،
ام انه واجبا عليه يلزم بأدائه على وفق أحكام القانون، أرى ان الأمر
هو حق وواجب فالحق ممنوح له بموجب القواعد الأخلاقية والإنسانية بان
يمنح المواطن دور في مكافحة الجريمة لان أثارها تقع عليه وتتعدى على
حقوقه ومن واجب الدولة ان تحمي هذه الحقوق.
في الدستور العراقي نجد انه كفل حق المواطن في حقه في الحياة ويعد
ذلك من الحقوق التي منحها الدستور للمواطن في نص المادة (15) على ما
يلي (لكل فردٍ الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه
الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرارٍ صادرٍ من جهةٍ
قضائيةٍ مختصة)، كما إن الواجب يحتم على المواطن أن لا يقف موقف
المتفرج تجاه هذه الجرائم، لان الدولة تتكون من عدة عناصر أهمها
المواطن فان لم يسهم في الحماية بالقدر الذي يتمكن عليه فإنها سوف لن
تتمكن من توفير الحماية له ولحقوقه من الاعتداء، وأساس الإلزام ورد في
نص الدستور العراقي في الفقرة أولا من المادة (27) على ما يلي (للأموال
العامة حُرمة، وحمايتها واجِب على كل مواطن)، ومن أوجه الحماية هو
الأخبار عن الجريمة، مثلما ذكر ذلك في نصوص القوانين النافذة وعلى وفق
ما ذكر آنفاً.
لذلك أرى أن المواطن يتحمل المسؤولية الكبرى في انتشار الجريمة،
إذا لم يمارس دوره في الإخبار عن الجرائم أو السلوكيات التي تؤدي إلى
ارتكاب جرائم، ويظهر ذلك على وجه الخصوص في جرائم الفساد الإداري
والمالي وجرائم الإرهاب، ومسؤوليته اكبر من مسؤولية الموظف الذي يتبؤ
المناصب الحكومية العليا أراه لسببين، الأول في اثر الجريمة الإرهابية
على المواطن اكبر من الموظف المحصن بارتال الحمايات أو القلاع المحصنة،
فان معظم ضحايا الأعمال الإرهابية هم من المواطنين العزل بينما لا يصيب
الآخرين المحصنين إلا اليسير أو إنها تصيب أفراد الحماية دون المسؤول،
فهذا وجه المسؤولية على المواطن في الإخبار عن الجرائم من اجل حمايته
ودرء الأخطار عنه وعن أمواله ومصالحه.
أما السبب الثاني يتعلق بجرائم الفساد الإداري فان المسؤولية تجاه
المواطن اكبر من غيره من الموظفين الحكوميين من أصحاب المناصب العليا،
لان الفساد صنو السلطة حتى إن منظمة الشفافية الدولية عرفت الفساد
المالي والإداري هو توظيف إمكانيات السلطة للمنافع والمصالح الشخصية،
والضحية يكون المواطن العادي لان الفساد المالي سيؤدي إلى هدر المال
العام المعد لتحقيق الرفاهية للمواطن، او قد يؤدي إلى سرقته واختلاسه
عمدا من قبل الموظف أو المسؤول، لذا لا يمكن تصور أن يقوم ذلك الموظف
بالإخبار عن جريمته، بل إن بعضهم يرى بان فعله هو من باب الصلاح وانه
مصلح وتراه يتمشدق بعبارات الإخلاص والتفاني تجاه المواطنين عند ظهوره
في وسائل الإعلام أو في المناسبات الانتخابية وهؤلاء لم يكونوا طارئين
او مستحدثين في المجتمع بل إنهم من العصور الغابرة يفسدون فيعدون
أنفسهم من المصلحين وأشار إليهم القرآن الكريم في الآيتين (11، 12) من
سورة (البقرة) (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون
* ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
ويرى البعض من هؤلاء إن مقامه من القدسية التي لا تمسها الشبهات
فتثير ثائرته، إذا ما أشير إليه حتى ولو من بعيد، مما يجعل المسؤولية
تقع حصرا على المواطن، وهذا سوف لن يؤدي إلى كشف المفسدين فحسب بل إلى
ردع الآخر الذي لازال لديه بعض من خشيته الله عز وجل، واخلص إلى الدعوة
إلى تفعيل دور المواطن في مكافحة الجريمة، وهذا يعد من باب الرقابة
الشعبية التي تمارس في مجال محاسبة الجاني، ولا تقف الدعوة عند الأشخاص
بل إلى منظمات المجتمع المدني التي تعد من أهم واجباتها حماية المجتمع
من التعدي على كينونته، وبكافة الوسائل سواء كانت تثقيفية أو تطويرية
او الإخبار عن التجاوزات على المال العام، ومما لابد من الإشارة إليه
إن الأجهزة الحكومية أو الشعبية الرقابية لديها عناوين على البريد
الالكتروني وهواتف مفتوحة تتيح للمواطن فرصة الإخبار عن الجرائم دون
عناء الذهاب إلى مكانها. |