(انني اعتقد انه من الواجب التنسيق
الكامل بين الجهازين التنفيذي والتشريعي في تنفيذ السياسة الخارجية
ولقد علمتنا تجارب الماضي القريب ان السلام الداخلي والخارجي مرتبطان
ببعضهما)
(هنري كيسنجر)
في الحلقة الأولى من هذا المقال، استعرضت على وجه الإجمال، أداء
المنظومة التشريعيّة والتنفيذيّة للدّولة العراقيّة، وطريقة تعامل
فرقائها السّياسيين، الذين انتخبهم الشّعب العراقي، ليجمعوا كلمته على
صعيد واحد. على مستوى القرار والأداء الحكومي، بالرغم من اختلافهم، في
رؤاهم وثوابتهم السّياسية، المنبثقة من تصوّراتهم المعتقديّة
أوالقوميّة، أوغيرها من التصوّرات. فالاختلاف هو لبّ وصميم العمل في
النظام الدّيمقراطي، إلاّ أنّه لا يُسمح بانعكاساته، كمواقف سلبيّة
تلحق الضرر بمصالح الناخبين. فيتحوّل الإختلاف إلى خلاف وصراع، يفتتّ
وحدة الدّولة، ويزعّزع أركانها. وخير مثال حيّ نعتبر به، في الإختلاف ؛
على صعيد التّجربة الميّدانيّة الدوليّة، ما قام به الرئيس (أوباما)،
قبل فترة وجيزة من الآن، فأجرى تعيينين مهمّين هما:
الأوّل: خصّ به منافسية من نفس هويّته/ حزبه، (تنافس على مستوى
الكفاءة والأهلية). فعيّن (هيلاري كلنتون) وزيراً للخارجية.
والثاني: أعاد تعيين (روبرت غيتس) الجمهوري الانتماء، بمنصب وزير
للدفاع في الحكومة الجديدة. و(غيتس) منافس من هويّة آخرى/حزب آخر، ليس
على نمطيّة (هيلاري). (غيتس) ينتمي لحزب آخر منافس لـ (أوباما)، من فكر
مختلف، وبرنامج سياسيّ مغاير، لبرنامج حزب (أوباما)، ويخالف آراء حزب
الرئيس (أوباما) جملة وتفصيلاً. ولوكان هذا الأمر، يحصل بالعراق في هذه
الأيام، وبنفس هذه الصيغة، لشاهدنا مايلي:
اختطاف الشخصية الأولى (هيلاري كلنتون)، وتفخيخ سيارة الشخصية
الثانية (غيتس)، وبذلك يحسم الأمر. وينتهي الموضوع، لصالح شخص واحد، أو
جهة واحدة. وشواهد الواقع العراقي، تشير بوضوح وجلاء، إلى تطبيق مثل
هذا الفرض، من قبل فاعل مجهول !!...
واستكمالاً لما تمّ طرحة في الحلقة السابقة، أبدأ بملاحظاتي على
مجلس النواب (مكرراً في البداية موجزاً للمقطع الأخير من الحلقة
السابقة) فأقول:ـ
من المؤسف حقاً أنْ نثبّت، بأنّ مجلس النواب منْذ تشكيله في نيسان
2006، ولحدّ الآن، لم يستطع أنْ يكمل سَنّ القوانين، التي نصّ عليها
الدّستور العراقي. فيوجد (حوالي (50) مشروع قانون معطل، داخل البرلمان
لم ينجز منها سوى (13) فقط، كونها لا تحظى بموافقة بعض الكتل، رغم وجود
نصاب كاف للتّصويت عليها.
وعلى هذا الأساس، لم يُسنّ قانون المعاهدات والاتّفاقيّات، كما نصّت
عليه المادة (61) من الدّستور التي نصّها: (تنظيم عملية المصادقة على
المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بقانون يسن باغلبية ثلثي اعضاء مجلس
النواب)(انتهى). هذه القضيّة تركت فراغاً كبيراً، في منطقة اتخاذ
القرار السّليم. فدخلت عمليّة التصديق على اتفاقية (سحب القوات
الامريكية من العراق/ كما تسميها الحكومة العراقية. بينما أبقت
الولايات المتحدة، إطلاق تسمية الاتفاقيّة الأمنيّة عليها، كما جاء في
البيان المشترك، الصادر عن السفير (راين كروكر) والجنرال (راي اوديرنو)
كما ذكرت وكالة (فرنس برس))، في تجاذبات جانبيّة. فاستغرق التّصديق على
الاتّفاقيّة، الكثير من الجهد والوقت، الّلذان كان بالإمكان
استثمارهما، لانجاز مهامّ أخرى. ولا بدّ من الاشارة هنا، بأنّ الوقت
كان يسير لصالح المفاوض العراقي، ليس بسبب قوّة الموقف العراقي. وإنّما
بسبب وجود ملابسات، داخل البيت الأبيض الأمريكي، أفرغتها المرحلة
الانّتقاليّة للانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة.
لقد كان وراء الحاح السّاسة الأمريكيّون، على توقيع الاتفاقيّة
الأمنيّة، إيجاد وضع قانوني، ينتزع اعترافاً شرعيّاً، من الحكومة
العراقيّة (المنتخبة)، مدوّن وموثّق ومودع لدى الأمم المتّحدة، يشرعن
تواجد قواتها العسكريّة، على أرض العراق. فذلك سيمهد الطريق أمام مهامّ
الرئيس (أوباما)، في طرح سياسته بشأن العراق، تحت سقف مؤطّر بفضاء
قانوي، واتّفاق دولي. دون أنْ تترك حكومة الرئيس (بوش)، ثغرة في
سياستها اتجاه العراق. قدّ يكون فيها ما يعرقل أويحدّ، من سياسة الرئيس
(أوباما). هكذا تحلب الأبل في أمريكا، لا كما نحلبها نحن في العراق !!.
فلا يوجد في منطق السّياسة الأمريكيّة، شيء اسمه (فراغ) سياسي...
قانوني... تشريعي... حكومي... إداري... الخ. فصناعة هذه الفراغات، تركت
لنا، وأصبحت من اختصاص السّياسي والبرلماني والإداري العراقي بدون
منافس !!.
وبما أنّ أمر تشريع قانون، ينظّم عمليّة المصادقة على المعاهدات
والاتّفاقيّات الدّوليّة، لم يشرع بعد. ونظراً لحراجة الموقف الذي مرّ
به مجلس النّواب، خلال أيام مناقشة اتفاقيّة سحب القوات الأمريكيّة من
العراق. صوّت مجلس النّواب، بجلسته الخامسة والثلاثين، المنعقدة يوم
الخميس 27 تشرين الثاني 2008، على مشروع قانونين هما: الاتّفاقيّة
الأمنيّة، واتّفاقيّة الإطار الاستراتيجي، إضافة إلى التصويت على مشروع
(قرار الورقة السّياسية الذي إتّفقت عليه الكتل البرلمانيّة).
كلّ هذه التّصويتات الثلاثة، وضعت في إطار ما يَصّطلح عليه مجلس
النّواب العراقي، (المصادقة على (سلّة مشاريع قوانين))، وهذه بدعة من
مجلس النّواب. فالدّستور العراقي، لم ينصّ على هكذا تصويت (بالجملة).
فالمادة (60) بفقرتيها ((أ) و(ب)) قد حدّدت نصاب انعقاد المجلس،
وكيفيّة التّصويت. وما ابتداع التّصويت على (السلّة)، إلاّ تجسيداً
للنفس المحاصصيّ بكلّ أبعاده. وهذه الممارسة اللا دستوريّة، تعكس
بوضوح، مدى انعدام الثقة، بين الأطراف المختلفة، في مجلس النّواب.
وارتباط نّواب المجلس، بتوجهات الكتل السّياسيّة المنتمين إليها، لا
بتوجهات ومصالح الشّعب العراقي.
فالخطر ابتداءً، يكمن في هرم العمليّة التّشريعيّة، وهو الدّستور
ومجلس النّواب، ومن ثمّ ينعكس ويتضخّم، في ممارسة تطبيق الدّستور،
بصيغةٍ محاصصاتيّة. وتنتهي العمليّة بالنتيجة، إلى توزيع المناصب
الحكوميّة بموجب المحاصصة، وبوتيرة متزايدة من الأخطاء أيضاً. فالنّائب
لا يزال يفكّر، بأنّه جزء من صفّقة سّياسية، فيتحتّم عليه أنْ يبقى في
إطار فلك كتلته السّياسية، وينفّذ توجهاتها السّياسية، داخل مجلس
النّواب. والمفروض أنْ يتحرر النّائب البرلماني من هذه الفكرة، ويضع
نفسه الآن، في موقع الشّخص المشرّع، لصالح كلّ مكوّنات الشّعب العراقي.
فهذا الخلط بين المهمّتين (انتمائيّة للكتلة، وتشريعيّة في المجلس)،
صفة شائعة وطاغية على أغلبيّة نّواب الشّعب العراقي. وهذا التوجّه يعدّ
مخالفة صريحة، لروح ونصّ الدّستور العراقي، الذي يفصل بين السلطات
الثلاث.
ملاحظات ختاميّة:
1. كان عدد النّواب الحضور، في جلسة التّصويت على الإتفاقيّة
الأمنيّة (198)نائباً، والغياب (77) نائباً، أي أنّ نسبة الغياب كانت
28% من مجموع النّواب، البالغ عددهم 275 نائباً. وبكلمة أخرى أنّ أكثر
من ربع النواب، لم يحضروا هذه الجلسة، أمّا لأسباب معتبرة، أو غير
معتبرة.
2. اتّفق مجلس النواب، على صيغة الّلجوء إلى الإستفتاء الشعبي، في
موعد أقصاه يوم 30 تموز 2009، ليقرر رأية بصدد قبول أورفض الإتّفاقيّة
الأمنيّة.
أقول: إذا كان مِسك الختام، الرجوع إلى الشّعب العراقي لاتّخاذ
القرار، فما الداعي من وجود مجلس للنّواب أصلاً ؟. إنّنا سننتقل وفق
هذه الصّيغة، من نّمط الدّيمقراطيّة التّمثيليّة، إلى نّمط
الدّيمقراطية المباشرة. وفي هذه الحالة، لا داعي أصلاً لوجود مجلس
لنّواب الشّعب.
وخلاصة القول: لقد كانت معالجة هذه القضيّة، من قبل مجلس النّواب،
تعبّر عن عدم وجود الثقة بيّن الأطراف بشكل سافر. وعدم الجرأة أيضاً في
اتّخاذ القرار، وبالنتيجة تقديم صورة باهتة للشّعب العراقي، عن أداء
مجلس النّواب.
* كاتب وباحث عراقي
Mj_sunbah@hotmail.com |