تعد ظاهرة هجرة الكفاءات من الدول النامية والفقيرة الى الدول
المتطورة والمتقدمة علمياً وتكنولوجياً من أهم المشكلات الاجتماعية
والاقتصادية لما تشكله هذه الظاهرة من استنزاف غير مرئي ومستمر للخبرات
والكفاءات العالية والتي يتطلب تكوينها وإنشائها الكثير من الوقت
والجهد والمال، وأن الاحتفاظ بهذه العقول والكفاءات يعد في غاية
الاهمية بالنسبة للدول التي تنشد التطور والتقدم ومواكبة الحياة
المعاصرة والمتسارعة الخطى حين بعد آخر.
وللاسف الشديد أن اهدار راس المال العلمي والمعرفي والفكري والذي
يتجسد على اوسع صوره في بلداننا المتخلفة عن الركب الحضاري بسبب
الايدولوجيات المتناحرة لهو من المشكلات غير المنظورة وغير المتحسسة
لما تؤول عليه الامور ولما تشكله هذه الكفاءات من ركيزة أساسية ومهمة
للنمو الاقتصادي والتربوي والاجتماعي والنهضة في مختلف الميادين
التنموية.
والحقيقة ان مفهوم هجرة الكفاءات له تعاريف عديدة ومختلفة، حيث يرى
الفرجاني بأنه يمثل إنتقال الافراد عالي التأهيل (خريجي التعليم العالي
فما فوق) من بلد الى بلد آخر بقصد العمل والاقامة الدائمة.
أما الياس زين فيرى بأن هجرة الكفاءات هي نزوح حملة الشهادات
الجامعية العلمية والتقنية والفنية كالاطباء والعلماء والمهندسين
والتكنولوجيين والباحثين والممرضات الاختصاصيات والاختصاصين في علوم
الاقتصاد والرياضيات والاجتماع وعلم النفس والتربية والتعليم والاداب
والفنون والزراعة والكيمياء والجيولوجيا ويشمل هذا التحديد الفنانين
والشعراء والكتاب والمؤرخين والسياسيين والمحامين وأصحاب المهارات
والمواهب والمخترعين وشتى الميادين الاخرى.
وتعرف منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)
هجرة الكفاءات بأنه نوع شاذ من انواع التبادل العلمي بين الدول يتسم
بالتدفق في اتجاه واحد (ناحية الدول المتقدمة)، او مايعرف بالنقل
العكسي للتكنولوجيا وهو نقل مباشر لاحد عناصر الانتاج الا وهو العنصر
البشري.
ان التاريخ الاسلامي يحدثنا من أن الدولة الاموية والعباسية كانتا
مركزاً لإستقطاب الكفاءات الاجنبية الاعاجم والاغريق والرومان، والذين
ساهمو في إدارة شؤون الدولة بما فيها جباية الضرائب وأمور الخزانة
والمحاسبة وتصميم وهندسة البناء، ونلمس كذلك بأن العصر العباسي قد شهد
وخاصة أثناء حكم المأمون نهضة علمية كبيرة ومشرقة ساهم بها علماء
المسلمين الذين قدموا من أسيا الوسطى وبلاد فارس لنيل المعارف في
المدرسة النظامية والمدرسة المستنصرية في بغداد أمثال الفارابي وأبن
سينا والرازي وأبن الهيثم والبيروني وغيرهم الكثير من العلماء
والمفكرين والفلاسفة الذين وجدوا في بغداد حاضنة لهم وملبية لحاجاتهم
فكانت بغداد المكان المناسب والارض الصالحة لترجمة أفكارهم الى نظريات
وإكتشافات علمية في مختلف الميادين والمجالات.
أما في هذه الحقبة الزمنية فأننا نشهد نزيف متواصل ودائم للعقول
العلمية والاساتذة والمبدعين وفي جميع الاختصاصات والذي اصبح ملموساً
منذ عقود عديدة والذي جاء في حقيقة الامر من جراء السياسات الرعناء
والعنتريات الفارغة والايدلوجيات الزائفة والتي لاتمت الى المنطق
والعقل بصلة، حيث تمثل هذه السياسات مناخات وبيئات طاردة ومنفرة للعقول
الابداعية والعلمية وبمعنى آخر أن مثل هذه السياسات والانظمة تجبر هذه
العقول للعيش على هامش السيرة أو تعاني من الاغتراب الدائم على المستوى
الذاتي والاجتماعي مما يدفعها هذا قسراً على الهجرة الى بلدان الله
الواسعة طلباً لتحقيق الذات وإرضاء للدافع الذي يكمن في نفوس هذه
الكفاءات العلمية من اجل خدمة الانسانية والكون، لأن البلد أذا تأسد
عليه الجهال بما يحملونه من رعونة في الفكر ولوثة في العقل وطيش
لامنتهي وعبادة للغريزة والملذات، يكون من المحال والحال هذا أن تنطلق
الكفاءات العلمية والعقلية للوصول الى مبتغاها وتحقيق أحلامها على ارض
الواقع.
ومن هنا يحدث النزيف الدائم والذي يكون على شكل ثلاث صور، أولهما
النزيف الخارجي اي هجرة الكفاءات من الدول المتخلفة الى الدول
المتطورة، وهذا يمثل أكثر أنواع النزيف شيوعاً.
والثاني وهو مايعرف بالنزيف الداخلي أي ميل بعض العقول والكفاءات
العلمية للمعيشة على هامش الحياة وذلك بحكم الايدولوجيات القسرية، حيث
يكون هدف العلم ليس من أجل تطوير سبل الحياة أو ابتكار الحلول المناسبة
وتسخيرها لخدمة المجتمع عملياً، أي قتل الروح الابداعية والمنتج العقلي
للخبرات العلمية في ذات الانسان.
أما النزيف الثالث والذي ينشأ نتيجة إخفاق الدول النامية للإهتمام
بكفاءاتها العلمية وهذا يرجع الى أمور كثيرة سبق الحديث عنها، وللأسف
الشديد أن هذه المجتمعات التي يجاملونها بالنامية لاتقدر قيمة العلم
لانها بعيدة عنه وعن فهم محتواه وأدراك مخرجاته ولذلك فهي تعمل من حيث
تدري ولاتدري الى اطفاء شعلة الاتقاد الذهني والتواصل الإبداعي في نفوس
وعقول كفاءاتها العلمية وهذا مايضطرهم للهجرة الى دول العالم المتطورة
وهم قد لايجدوا ضالتهم في هذه الدول المتطورة في اغلب الاحيان لأن
الغربة والابتعاد عن الوطن يبدأ ينهشهم من كل جانب وصوب وهم في حقيقة
الامر يعانون لوعتين، أحدهما ينشأ من الاحباطات التي يتعرضون اليها
ويمتلكون أزائها حساسية عالية مقارنتة باقرانهم المهاجرين ذات التعليم
الواطئ لأنهم يجدوا في قرارة أنفسهم ضياع كل سنين الدراسة والبحث
والتقصي فلذلك تراهم يعانون من هم دائم أزاء هذا الوضع الجديد، ورحم
الله ابو الطيب المتنبي حين يقول:
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن يخلو من الهم اخلاهم من الفطن
وأنمـــا نحن في جيـــــل سواسيـة شرعلى المرء من سقم على بدن
حـــولي بكل مكان منهــــم خلــق تخطي أذا جئت بستفهامها بمــن
فقــــر الجهول بلا عقل الى أدب فقــر الحمار بلا رأس الى رسن
واللوعة الثانية تنشئ من أحساسهم المرهف والشديد بالغربة والابتعاد
عن الوطن وخاصة بالنسبة للعراقيين، فأنا لاأريد ان أكون غير موضوعي
ولكنني اشعر بأنهم أكثر الناس نوحاً وبكاءاً على مفارقة الاهل والوطن،
وقد يبكيهم مباشرة سماع اغنية على التلفاز تذكر وطنهم وتتغنى به، ورحم
الله الشاعر الذي يقول:
بـــــلاد آلفناها على كل حالـــة وقد يؤلف الشئ الذي ليس بالحسن
وتستعذب الدار التي لاهواً بها ولا مائهـــــا عذب ولكنهـا وطــــن
أن الدراسات التي تصدت الى مفهوم هجرة الكفاءات ومنها الدراسة
المقدمة الى المؤتمر العالمي للعلوم والمنعقد في مدينة بودابست عام
(1999) والتي اسفرت بوجود (400000) عالم ومهندس من الدول النامية
يشتغلون في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في الدول الصناعية.
وقد افادت دراسة صادرة عن منظمة التعاون والتنمية في الميدان
الاقتصادي (OECD) بأنه يوجد في الولايات المتحدة (475000) طالب وفي
برطانيا (223000) طالب وفي المانيا (178000) طالب وفي أستراليا
(105000) طالب يتابعون دراساتهم العليا في هذه الدول وأن نسبة كبيرة
منهم يبقون كمهاجرين دائميين.
أن الخسائر التي تتكبدها الدول النامية من جراء طردها للكفاءات
العلمية والعقول المبدعة والتي قد تغير وجه الكون لايمكن تقديرها بثمن،
وحسب علمي بأن هناك وفي أمريكا عالم عراقي في تقنيات الانترنيت عرض
عليه عليه الكونغرس الامريكي العمل لديهم مقابل شيك مفتوح يحدد به
راتبه الشهري، أو ذلك العالم العراقي في الصناعات الغدائية والذي يعمل
لوكالة ناسا الفضائية حيث يعد من ضمن الخمسة الخبراء في تغذية رواد
الفضاء، والامثلة كثيرة لامجال لحصرها.
تشير بعض الدراسات في هذا المجال بان الخسائر الناجمة عن هجرة
الكفاءات العلمية في الدول النامية تقدر بحوالي (600) مليار دولار،
وهناك من الدراسات التي توضح بأن إستثمار علم وموهبة العالم المهاجر
يعود على الاقتصاد الامريكي بعائد مالي قدره (314) ألف دولار سنوياً
كما أن حامل شهادة الدكتوراه في العلوم يعادل رأس مال موظف بمقدار
(600) الف دولار.
وقد أشار ريفين برينز، في كتابه (القرن المالي) بأنه أذا أفترضنا
أن تعلم المهاجرين العرب يكلف بلده في المتوسط (10) الاف دولار، فأن
هذا يعني تحويل ماقيمته (18) مليار دولار من الاقطار العربية الى
الولايات المتحدة وأوربا سنوياً، بالاضافة الى ماتتركه الهجرة من تأثير
على أضعاف سرعة التنمية وفي جميع القطاعات والتي لاتقدر بثمن وما تخلقه
كذلك من نقص في الكوادر العلمية المطلوبة لتحقيق التقدم والتطور
والنمو.
أن وجود الانظمة المتسلطة والقهرية في عالمنا العربي يعد سبباً
رئيساً في قتل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وهذا يكون من استحواذ
هذه الانظمة على خيرات وثروات العباد وتعدمهم حق الكفاية في العيش لانه
لايوجد بلد على سطح هذه الخليقة لم يخصص الباري الكريم له كفايته من
العيش وسد رمقه فهو القائل جلت قدرته ((وأن من شيء الا عندنا خزائنه
وما ننزله الا بقدر معلوم)) وحاشى الكريم أن يبخل على عبادة الذين
خلقهم لانه يرزق المؤمن والفاجر، ولكن ذئاب الحياة دائماً تستحوذ
وتتمدد على حصص الاخرين.
بالاضافة الى ان هجرة الكفاءات العلمية تخلق نقص من ناحية الكوادر
المطلوبة لتحقيق التقدم والازدهار والرفاه وهذا مايؤثر وبشكل مباشر على
مستوى العيش وعدم حصول البلد على مردود نظير ماينفقه على تعليم هذه
الفئة من الافراد، من حيث أن هجرة الكفاءات العلمية تحرم الجامعات
والمؤسسات العلمية والتأهيلية من الكوادر التي تعمل على أعداد مؤهلين
محلياً وفقاً لمتطلبات وحاجة البلد، وهذا ما ينعكس سلباً على الانتاج
بشكل عام وانخفاض المردود وانتشار روح اللامبالاة ونمو العقلية
الروتينية القاتلة للإبداع والتطور والحماس والتجديد بالاضافة الى عدم
القدرة على انشاء مراكز للأبحاث العلمية التي تسهم بشكل فعال في مواكبة
حركة التطور وعلى كافة الاصعدة والميادين، ومن الطبيعي والامثلة كثيرة
بهذا الخصوص ان تخمد وتطفئ جذوة الروح العلمية والابتكارية لدى
الكفاءات في اطار تواجدها تحت هكذا أنظمة مستغلة وجائرة وجاهلة تنفق
على الطاولات الخضراء وعلى ملذاتها الغريزية والحيوانية ملايين
الدولارات وتبخل على باحث علمي صرف تذكرة سفر له لاشتراكه في مؤتمر
علمي، وهذا ماحدث فعلاً لصديق عزيز علي وباحث يستحق بجداره الوقوف له
اجلالا وتكريماً لروحه العلمية المتوقده، والامثلة كثيرة على ذلك.
أن من الطبيعي أن تكون مثل هذه الانظمة التعسفية والتي لا تحترم
العلم والعلماء طاردة ومنفرة للكفاءات العلمية، فعلى سبيل المثال يوجد
الان أكثر من الفي طبيب واستشاري عراقي وفي مختلف الاختصاصات ممن
يعملوا في برطانيا وحدها وهذا يشكل خسارة فادحة لبلد جريح كالعراق
فخسارة الاموال يمكن تعويضها ولكن خسارة العقول المبدعة لايمكن
تعويضها.
والان وبعد زوال الطاغية من العراق وتأملنا خيراً بالوضع الجديد،
ظهرت لنا شرارات ناره المتبقية وأحقاد الطامعين والكارهين من بلاد
الجوار لتنتج مجاهدين جدد وعلى الطريقة البهيمية حيث بدأو بفكرة تحرير
العراق عن طريق قتل وتهجير عقوله العلمية وكفاءاته المخلصة وهذه مهزلة
القدر في عراقنا الجريح أن يخلق الله وحاشى ربي، أناساً ليس لهم قلوب
يعقلون بها وأذان يسمعون بها فهم كالانعام بل هم أضل لانه حتى البهائم
تترفع وتتنجس من هذه الافعال المشينة التي يقدمون عليها، هولاء الرعاع
الذي يسفكون الدماء العلمية النابضة بالروح والحياة والابداع والذي
يعول عليها الانسان ورب الانسان في بناء وتعمير الكون والذي بلغ عددها
فقط من أساتذة الجامعات وحسب الدراسة المقدمة لمؤتمر مدريد عام (2006)
وبعنوان (محنة الاكاديمين العراقيين) بأن هناك أكثر من (286) أستاذاً
جامعياً قضوا نحبهم من جراء التقتيل.
أننا نناشد المسئولين الجدد في الدولة العراقية ان يأخذوا هذا
الامر بنظر الاعتبار وأن يجعلوه من أولويات مهامهم اذا كانت لديهم
نوايا صادقة ومخلصة لبناء العراق، وأن ينتبهوا لهذه المسألة المهمة
ويضعوا الخطوات والحلول المناسبة والجدية وليست الوعود الكاذبة الهشة
من أجل استقطاب الكفاءات العلمية العراقية في الشتات، لاننا نعلم ونفهم
بان البلد لايتغير بالخطابات الرنانة والسياسية وإنما يتغير ويزدهر
بنوابغ أبنائه وبإبداعاتهم العقلية والمعرفية ورحم الله افلاطون حينما
يقول :
(لايمكن أن تنصلح أحوال الدولة، مالم يحكم الفلاسفة أو يتفلسف
الحكام).
* أستاذ جامعي وباحث سايكلوجي
Mezban56@yahoo.se |