الفوضى الخلاّقة: هل العراق نموذج!؟

 د. محمد مسلم الحسيني-بروكسل

برهن العالم البلجيكي الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، إيليا بريغوجين، بأن كل فوضى أو بعثرة تحصل في محيط ما يحصل بعدها نظام وإستقرار في ذلك المحيط. وقد إستخدم هذا العالم الفيزيوكيميائي طرقا كيمياوية لإثبات ذلك! كانت تجاربه مركزة حول خلط محاليل كيمياوية متباينة في صفاتها وتراكيبها مع بعضها ووضعها بعد ذلك في حالة إستقرار تام. لقد لاحظ هذا العالم بأن هذه المحاليل المختلط حابلها بنابلها سوف ترجع الى حالتها الطبيعية قبل الخلط ويسترجع كل محلول صفاته وهويته الخاصة به.

كما نظّر بأن هذا القانون الطبيعي ينطبق على شؤون الحياة الأخرى بل وعلى ظواهر طبيعية اخرى كانت قد حصلت في الماضي أو ستحصل في المستقبل. إستشهد بظواهر وحقائق كونية تؤيد نظريته وأهم ما تطرق اليه هو كيف تكون الكون بعد حدث الكون الأول أي الإنفجار الكبير، حيث كانت السماوات والأرض قطعة واحدة ثم أنفلقت ونشأت عنها الكواكب والأجرام والشموس المختلفة التي بدأت تسير بنظام ثابت ومستقر بعد هول الإنفجار واضطراب الكون وبعثرته وكما ورد ذلك في القرآن الكريم " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما...".

أشار بعض المحللين السياسيين الى هذه النظرية في تحليلاتهم السياسية وتوقعوا بأن هدوءا واستقرارا سياسيا وعسكريا سيسود في مناطق ساخنة ومضطربة من العالم، مستشهدين بحالة الإستقرار العسكري في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وحالة الديمقراطية المستتبة في دولة جنوب أفريقيا بعد حالة التخبط السياسي والتمييز العنصري. أطلق بعض السياسيين مصطلح "الفوضى الخلاّقة" على حالة الفوضى وعدم الإستقرار التي تعم بعض المناطق الساخنة في العالم، متوقعين أن يسود السلم والأمن فيها مستقبلا تيمنا بنظرية البعثرة والإنتظام! وقد نظر الى الوضع في العراق من هذا المنظار وحسب هذا التوجّه.

إلاّ أن المتابع للأحداث الذي يتجرد عن تشاؤمه وتفاؤله وينظر للأمور بنظرة علمية بحتة تستند على الوقائع وتستشهد بالمعطيات لا يرى ما يدلل على توفر المقومات المطلوبة لحالة الإستقرار وولادة النظام بعد الفوضى. أن نظرية الفوضى والنظام لها مقوماتها وشروطها، فهي ليست حدثا إعتباطيّا تمليه الطبيعة أو تحدده نواميس الصدف. الكون لم يستقر بعد الإنفجار الكبير إلاّ بتوفر عامل الجاذبية وعامل الحركة، حيث تدور الأجرام حول نفسها وحول بعضها وتخضع لقوانين "العمركزية". المحاليل التي أخذت مستقرها واستعادت طبيعتها في تجربة بريغوجين كانت بفعل كثافات مركباتها. كما ان رجوع حالة السلم والأمان في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن الاّ بعدما وعت الأجيال وتفتحت عيونها على معنى السلم والحرية والحضارة والمدنية!

السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي مقومات الإستقرار المنظورة في العراق كي نتحدث عن فوضى خلاّقة أو نظام ما بعد الفوضى؟ ثم كيف ستتحول الفوضى وتصبح خلاّقة للأمن والإستقرار وأسبابها باقية ومزمنة؟ وما الذي سيجمع العراقيين بعد أن فقدوا وزنهم الكمي والنوعي في ظل إرتباك مفتعل ومحيط غريب على تأريخ العراقيين ومسار طريقهم؟ وكيف سيحصل التنظيم الداخلي أو الحث الذاتي وهو شرط اساسي في عمليّة النظام بعد البعثرة إذا صار المحتل الأجنبي شرّ لا بد منه!؟. هذه الأسئلة الحيوية وغيرها حريّ بها أن تطرح على المتفائلين الذين ينتظرون النظام بعد الفوضى وكأنه هدية السماء تنزل على أهل الأرض!

الأزمة في العراق هي أزمة سياسية بالدرجة الأولى ناتجة عن صراعات سياسيّة ظاهرة وخفيّة، ترفع شعارات طائفية وعرقية وتبتغي الوصول الى قمم السلطة. فقد أثبت الزمن صعوبة الإنسجام والتوافق بين الأطراف السياسية المتنازعة بسبب إفتقار النضج السياسي وسطحيّة المفاهيم الثقافية وعدم وجود رغبة حقيقية لإقامة هيكل راسخ لمشروع وطني مشترك.

 الإنفجار الكبير الذي أحدثته الديمقراطية المصدرة من الخارج في وحدة نسيج العراق قد أدى الى تبلور جزيئات ذات شحن متباينة تدور حول نفسها بمدارات عرقية طائفية ضيقة من جهة وتدور حول نواة الإحتلال بتأثير عامل الجاذبية القسري من جهة أخرى. أي إنفصام في عرى هذه الجاذبية سيؤدي إما الى تحرر هذه الجزيئات عن مداراتها وضياعها في الفضاء المجهول لتكون طعما سهلا للمجرات الحائمة القريبة منها، وأما أن تتصادم مع بعضها مخلفة اللهيب والنار!

 الحل المثالي الناجع، الذي ترفضه قطعا الجزيئات المشحونة بحب السلطة وحب الأنا، والذي يمكن أن يخرج العراق من محنته يكمن في تولي حكومة مؤقتة من التكنوقراط زمام الأمور في العراق. يتميّز أعضاء هذه الحكومة بإستقلاليتهم في أفكارهم ورؤاهم وعدم إنتمائهم للأحزاب أو محاباتهم لأطراف خارجية مهما كانت ومعروفين بوطنيتهم وإخلاصهم ونزاهتهم وعدم تعصبهم الديني أو الطائفي أو العرقي. تشرع هذه الحكومة فورا بتنفيذ ما يلي:

1- دعوة القوات الأجنبية المتواجدة على التراب العراقي للرحيل ضمن جدول زمني معروف ومثبت وسريع التنفيذ. كما تدعو هذه الحكومة المجتمع الدولي بإمداد العراق بقوات دولية تعمل على ترسيخ الأمن لحين إستعادة الجيش العراقي عافيته وكيانه.

2- إلغاء قوانين بريمر خصوصا تلك المتعلقة بالمحاصصة السياسية وقانون حل الجيش العراقي وغيرها الكثير من قوانين التهميش والإقصاء لأبناء الشعب العراقي الواحد. كما تدعو الى إقامة إنتخابات ديمقراطية تحت إشراف دولي لا تحددها قوانين بريمر وإملاءاته، وتشرع بإقامة برنامج حيوي يتضمن خطة لنشر الوعي الديمقراطي بين أبناء الشعب كي يحسنوا إختيار ممثليهم.

 3- تحسين الأوضاع المعاشية للمواطن العراقي وذلك من خلال إيجاد فرص العمل وتوفير المواد الضرورية والخدمات المعيشية الأساسية وإصلاح البنية التحتية المدمرة وبأسرع وقت. كما عليها أن تلغي الرواتب العالية التي يتمتع بها المسؤولون وجعلها متساوية مع رواتب الموظفين الآخرين من أجل غلق الأبواب أمام الراكضين وراء المنافع المادية وفسح المجال للكفاءات الوطنية أن تتبوّء أماكنها ويصبح الرجل المناسب في مكانه المناسب.

4- تفعيل القضاء العراقي المستقل وتنشيط وتوسيع مهام لجان النزاهة من أجل متابعة وملاحقة السرّاق والمزورين ومعالجة الفساد الإداري المستشري في داخل هذا البلد وخارجه، حتى أصبح العراق ثالث بلد في العالم في فساده الإداري! على القضاء العراقي أن يلاحق قانونيا كل من يحاول تهميش العراقيين ببث الدعايات المغرضة دون توفر الأدلة من أجل التسقيط والإقصاء وألاّ يكون هناك مقياس للتفاضل بين أبناء هذا الشعب غير مقياس الكفاءة والقدرة والإخلاص للوطن.

 5- تجميد أعمال البرلمان العراقي الحالي وتطبيق الأحكام العرفية بشكل مؤقت لحين إستتباب الأمن وسيطرة الدولة على شؤون البلاد ومؤسساتها. إضافة الى تأجيل النظر بكل قضية شائكة وحساسة من شأنها تهديد كيان العراق وتمزيق نسيجه الواحد لحين إستتباب الحالة الأمنية والسياسية إستتبابا كاملا. كما تدعو الى حل كافة المليشيات المسلحة بكل أنواعها وولاءاتها وتمنع أي مظاهر مسلحة داخل البلاد خارج نطاق القوات المسلحة العراقية.

6- إقامة علاقات حسن جوار متوازنة مع جميع دول الجوار دون إستثناء، على أن تتعهد هذه الدول بعدم التدخل بشؤون العراق الداخلية. كما تمتنع الحكومة الجديدة عن توقيع إي إتفاقات أمنية كانت أو ستراتيجية مع أي قوة أو جهة أو دولة لحين إنقشاع جنود الإحتلال بشكل كامل عن التراب العراقي.

هذه الإجراءات الناجعة ستوقف عملية جر الحبل بين السياسيين وتنهي دائرة السجال السياسي بينهم، ستعالج مواقع الخلل في العملية السياسية العراقية وتمكن العراق من الوقوف على قدميه. العراق يحتاج الى علاج لأسباب الفوضى وليس الى المسكنات أو المهدئات.... معالجة الأسباب بالشكل الجذري والجاد من شأنه أن يحوّل الفوضى السائدة الى إستقرار وتصح عندها نظرية النظام بعد الفوضى أو " الفوضى الخلاّقة" التي من دون ذلك ستبقى خنّاقة والى الأبد!

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/كانون الثاني/2008 - 12/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م