ظاهرة التمدين المتسارِع وانعكاسها على مستقبل الارض

 رؤية حول الآثار المترتبة على نمو المدن من الداخل

إعداد: محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: تشير التقديرات الصادرة عن المنظمات المختصة بعلوم الانثربولجيا إلى إن كوكبنا بدأ يشهد العديد من المتغيرات الديمغرافية والبيئية التي قد تشكل تهديدا على الاستمرارية الطبيعية للأجيال القادمة.

حيث يؤكد العلماء إن مع بداية القرن العشرين تشكلت العديد من المتغيرات الأساسية في حياة الأفراد أو المجتمعات، صاحبها تطور مطرد تكنولوجيا وصناعيا، بشكل بدء يترك آثار غير طبيعية على كوكب الأرض.

فتقلص أعداد السكان في المناطق الريفية، وظاهرة نمو المدن من الداخل، أخذت ترتب عليها العديد من النتائج السلبية والمؤثرة في حياة الإنسان، قد لا تكون منظورة على المدى القريب.

ظاهرة تمدين الكوكب

يعيش 3.3 مليار شخص في الوقت الحاضر في المدن والمراكز الحضرية حول العالم، وبحلول عام 2030 من المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى خمسة مليارات شخص. وسيحدث 95 بالمائة من هذا النمو في الدول النامية.

ففي العقود الثلاثة القادمة، سيتضاعف عدد سكان المدن في آسيا من 1.36 مليار إلى 2.64 مليار نسمة، كما سينمو عدد سكان المدن الإفريقية بأكثر من الضعف من 294 مليون إلى 742 مليون شخص. أما دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، فستشهد نمواً أبطأ من 400 مليون إلى 600 مليون شخص، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان. بحسب شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين).

وبينما تتصدر المدن الكبرى العناوين الإخبارية البارزة وجداول أعمال التنمية، من المتوقع أن يتوقف النمو العام في المراكز الحضرية التي تزيد عن 10 ملايين نسمة، وبدلاً عن ذلك، ستحصل المدن التي يقطن فيها أقل من 500,000 نسمة على نصف النمو الحضري الكلي خلال السنوات العشر القادمة.

وجه نظر أخرى

يقول ديفيد ساتروايت من المعهد الدولي للبيئة والتطوير، إذا كانت السرعة التي تنمو فيها المدينة استجابة للفرص الاقتصادية فهي تشكل فائدة وهي بذلك ليست بمشكلة. وأشار ساتروايت إلى أن "جزءاً كبيراً من القيمة الاقتصادية في أي بلد يتم توليده في المناطق الحضرية.

حتى في الدول [النامية] التي يعيش 60 إلى 70 بالمائة من سكانها في المناطق الريفية، فلا زلنا نجد أن أكثر من نصف الاقتصاد وغالباً أكثر من ذلك يتم توليده في المناطق الحضرية.

المشكلة إذن ليست النمو، وإنما النمو العشوائي. ففي عام 2001، سكن 924 مليون نسمة أو حوالي 31 بالمائة من سكان المدن في العالم في مستوطنات غير رسمية أو أحياء فقيرة، يقع 90 بالمائة منها في الدول النامية. وبحلول عام 2030، من المتوقع أن يصل عدد سكان الأحياء الفقيرة حول العالم إلى ملياري شخص.

في العاصمة البنغالية دكا، يعيش 3.4 مليون شخص في 5,000 حي فقير ومستوطنة عشوائية. وينحصر 60 بالمائة من سكان مدينة نيروبي في أكثر من 130 مستوطنة غير رسمية، تشغل 5 بالمائة فقط من المساحة الكلية للمدينة. أما في بومباي، فتنمو المستوطنات غير الشرعية 11 مرة أسرع من المدينة ذاتها حيث يصل إليها 300 شخص يومياً من الأرياف.

وكل هذه الأمور في نهاية المطاف تترجم إلى فقر مدقع وأوبئة وظروف معيشة مروعة. ففي دكا مثلاً، كلما ارتفع مستوى النهر تفيض مياهه وتُغرِق التجمعات غير الشرعية المؤلفة من الأكواخ الصغيرة المرفوعة على أعمدة. وقد بنيت هذه الأكواخ في أحواض الفيضان فوق مياه لا تنفك الروائح الكريهة من الانبعاث منها ولا تفارقها نفايات المصانع. أما في دلهي فمشكلة المياه هي الندرة حيث يتصارع سكان الأحياء الفقيرة مع بعضهم البعض للحصول على فرصة استخدام أحد أنابيب المياه الموجودة في منطقتهم، وفي كثير من الأحيان تمر أيام كاملة دون الحصول على قطرة ماء.

ويكون سوء التغذية في العادة في أعلى مستوياته في الأحياء الفقيرة، حيث تؤدي البطالة إلى انعدام قدرة السكان حتى على شراء الخضراوات التي تزرع محلياً.

ويركز تعريف "الأحياء الفقيرة" و"فقراء المدن" دائماً على ما يفتقده هؤلاء الأشخاص من التعليم والخدمات الاجتماعية والوظائف والماء النظيف والرخيص والصرف الصحي والسكن والصفة السكنية. وفي كثير من الأحيان يعيش الفقراء في مساكن دون المستوى العادي، وفي المساحات العامة الفارغة، أو في مستوطنات غير شرعية قرب المناطق الحضرية الرئيسية.

وعادة ما تفرض النظرية التي تقول "أن مستويات الفقر في المدينة أقل من مستوياته في الريف"، غير أن الأعداد المطلقة للفقراء والمصابين بنقص التغذية في تزايد مستمر في المناطق الحضرية. وقد أشار برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) في عام 2003 أن "الفقر بدأ عموماً بالانتقال إلى المدن... وهي عملية تعرف باسم "تمدين الفقر". وبينما يتجه موطن الفقر نحو المدن، تتعثر المساعدات التنموية في التحرك معه.

تقول هيلين جايلي رئيسة منظمة كير الأميركية، في تقييم صريح لقدرات التنمية الحضرية: "تعتمد المنظمات غير الحكومية على التمويل الخارجي وغالباً ما تعتمد أولويات التمويل على المكان الذي يركز عليه المانحون". ونتيجة لذلك "لم تتحرك المنظمات غير الحكومية ولا الأطراف المانحة لمواجهة الفقر في المدن بالسرعة التي انتشر فيها هذا الفقر".

سلبيات نمو المدن السريع

وقد نمت المدن بشكل رئيسي في القرن العشرين من خلال الهجرة من الأرياف إلى المدن. أما اليوم، فتنمو المدن في الغالب من الداخل، أي أن عدد الأشخاص الذين يولدون في المراكز الحضرية يزيد عن عدد الوفيات فيها. وعملية التمدين هذه – أو ما يسمها علماء السكان "النمو الطبيعي" – ما هي إلا مؤشر جزئي على التطور في المجال الطبي في الدول النامية ووصول أكبر للرعاية الصحية في المناطق الحضرية بشكل خاص.

ولكن حقيقة أن معدلات الوفيات أنخفض عموماً في المدن تخفي الأزمة الصحية التي تعاني منها الأحياء الفقيرة.

والأسوأ من ذلك، أن معظم المتأثرين بهذا الانفصام في الرعاية الصحية داخل المدن هم الأطفال. فقد وجدت دراسة نشرتها "المجلة الدولية للمساواة الصحية" عام 2006 أن الاختلاف في مجال سوء التغذية داخل المدن في 15 دولة إفريقية جنوب الصحراء الكبرى أكبر من الاختلاف الموجود فيها بين الريف والمدينة.

كما أشار تقرير أصدرته الأمم المتحدة عام 2006-2007 حول وضع مدن العالم إلى أن سوء التغذية لدى الأطفال في الأحياء الفقيرة والمناطق الريفية في أثيوبيا يصل إلى 47 بالمائة و49 بالمائة على التوالي، مقارنة بنسبة 27 بالمائة في المناطق الحضرية خارج الأحياء الفقيرة. وفي النيجر، تصل نسبة سوء التغذية لدى الأطفال في الأحياء الفقيرة والمناطق الريفية إلى 50 و 52 بالمائة على التوالي في العامين المذكورين مقابل 35 بالمائة في المناطق الحضرية غير الفقيرة. وفي الأحياء الفقيرة في الخرطوم، تصل نسبة انتشار الإسهال بين الأطفال إلى 40 بالمائة مقابل 29 بالمائة في المناطق الريفية. وبذلك يخلص التقرير إلى القول أن "العيش في الأحياء الفقيرة المزدحمة وغير الصحية هو أكثر خطراً على الحياة من العيش في القرى الريفية الفقيرة".

 توفر المياه

أما بالنسبة لتوفر المياه والصرف الصحي في المناطق الحضرية فهو كالرعاية الصحية أفضل حالاً عموماً في المدن عنه في الأرياف. ولكن من جديد تخفي مقارنة الأرقام الكلية للريف والمدينة الحقيقة، فعلى سبيل المثال، يتشارك 1,300 شخص في حي مباري في مدينة هيراري في زيمبابوي في مرحاض عمومي واحد توجد فيه ست حفر فقط لقضاء الحاجة.

ومع ازدياد عدد سكان المدن، يزداد أيضاً عدد الأشخاص الذين لا توجد لديهم مصادر مياه محسنة، حيث سيتضاعف عدد هؤلاء من 108 ملايين شخص عام 1990 إلى 215 مليون شخص عام 2010. وفي بيئات المدينة الكثيفة – وحتى في بيئات الأحياء الفقيرة الأكثر ازدحاماً – يمكن للأمراض المعدية أن تتحول بسرعة إلى أوبئة، مما يجعل عواقب المياه غير الآمنة وضعف خدمات الصرف الصحي أسوأ بكثير من المناطق الريفية. وسيتأثر بكل ذلك عدد أكبر من الناس في المدن نظراً للتجمعات السكانية الكثيفة.

وبالإضافة إلى التأثيرات الواضحة التي تظهر بسبب التوفر الضعيف للماء والصرف الصحي والخدمات الصحية (مرض إلتهاب ذات الرئة والملاريا والإسهال والسل وفيروس نقص المناعة المكتسب/الإيدز)، تؤدي ندرة الخدمات إلى استمرار الفاقة والفقر، إذ ينفق الفقراء في المدن نسبة أعلى من دخلهم على معالجة الأمراض وهم أكثر عرضة لفقدان الأجور وفقدان الأمن الوظيفي عندما يضطرون للغياب عن العمل. وكل هذا يؤدي إلى إضعاف قدرتهم على التحمل والاستمرار، مما قد يبقي العائلة المتنقلة حبيسة دائرة مغلقة من الفقر المستمر.

الكوارث الغير طبيعية

في الربع قرن الأخير وحده، كان 98 بالمائة من الجرحى أو المتأثرين بالكوارث الطبيعية يعيشون في 112 دولة تصنف كدول ذات دخل منخفض أو دخل متوسط منخفض، وفقاً لتقرير وضع العالم لعام 2007 الصادر عن معهد مراقبة العالم.

وبينما تستمر الزلازل وكوارث التسونامي في تصدر العناوين الإخبارية البارزة، تؤثر الفيضانات والانهيارات الأرضية على عدد أكبر من الفقراء في المدن. وقد شكل التسونامي الذي حدث عام 2004 ما نسبته 90 بالمائة من حصيلة الوفيات الناتجة عن الكوارث الطبيعية في ذلك العام. وبلغ عدد الأشخاص المتأثرين بهذه الكارثة 2.4 مليون شخص هو رقم صغير نسبياً مقارنة بحوالي 110 ملايين شخص من المتأثرين بالفيضانات في بنجلاديش والهند والصين في العام نفسه، وفقاً لتقرير كوارث العالم لعام 2005 الصادر عن الاتحاد الدولي للصليب الأحمر.

ومع توفر القليل من الأراضي في المناطق الحضرية، يعيش الفقراء بسبب الحاجة في أحواض الفيضانات وأطراف المنحدرات والجرف غير المستقرة وفي أطراف المنشآت الصناعية. في الدول النامية، لا يشكل الزلزال والإعصار الكارثة ولكنه محفز للكارثة من خلال تعريض البنية التحتية والمساكن غير المطابقة للمواصفات والتخطيط العشوائي للمدن وإجراءات الإغاثة المنعدمة – فكل هذا يشكل الكارثة الحقيقية التي تنتظر الفقراء في المدن.

القتال داخل المدن

 أشارت مقالة نشرت عام 2004 في مجلة "البيئة والتمدين" وتناولت موضوع العنف وانعدام الأمن في المدن، إلى انعدام المساواة كدافع رئيسي للجريمة.

وجاء في المقالة أن "التفسيرات المعتمدة على التنبؤ الإحصائي أظهرت أن عدم المساواة هي أكثر تأثيراً من الفقر فيما يتعلق ببيانات معدلات الجريمة، حيث يكون تفاوت الدخل أكثر وضوحاً في المناطق المدنية مقارنة بالمناطق الريفية".

وقد أظهرت دراسة للبنك الدولي عن العنف في المناطق الحضرية في أمريكا اللاتينية أن عدد جرائم القتل تراوح بين 6.4 جريمة بالسنة لكل 100,000 شخص في بوينس آيريس وحتى 248 جريمة لكل 100,000 شخص في ميديلين في كولومبيا. وتمثل جرائم القتل في مدن مثل ريو دي جانيرو وساو باولو أكثر من نصف عدد جرائم القتل في البرازيل مثلما هو الحال بالنسبة لمكسيكو سيتي في المكسيك وليما في البيرو وكاراكاس في فنزويلا.

والتحدي الأكبر لقياس الجريمة في المناطق الحضرية هو التفريق بين الأسباب الهيكلية التحتية (مثل علاقات السلطة غير المتساوية)، وعوامل التحفيز (مثل الكحول وتعاطي المخدرات) التي غالباً ما تشوب قضايا العنف الأسري.

ويعد الخطر في تحليل وقياس العنف في المدن في التصورات التي تبنى على مثل هذه الدراسات، فوفقاً للإحصاءات، تعاني المراكز الحضرية (وخاصة الأحياء الفقيرة) من معدلات أعلى للجريمة، ولذلك يمكن للعنف أن يصبح جزءاً مؤسسياً من المجتمع وبشكل أخطر تصبح صورة سكان الأحياء الفقيرة كمجرمين أكثر ثباتاً.

دور الحكومات

وفي عام 1990، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريراً عن التنمية البشرية تطرق الفصل الخامس منه بشكل خاص للتأثير البشري للتمدين في الدول النامية.

عند الحديث عن دور الحكومات المحلية والوطنية في مجال تقديم الخدمات للفقراء في المدن، أوصى القائمون على التقرير أن تقوم الحكومات "بالتحول من تقديم الخدمات بشكل مباشر إلى تمكين الآخرين من تقديم هذه الخدمات – مثل المنتجين الرسميين وغير الرسميين، أو المنظمات غير الحكومية المحلية أو سكان المدن أنفسهم."

وقد اكتمل هذا النموذج المعتمد على الاستعانة بمصادر خارجية بحلول عام 2007، وكما أوضحت الكاتبة راسنا وارا في تقييمها لدور الحكومة الكينية في التنمية الحضرية "يكمن حل مشكلة الأحياء الفقيرة في نيروبي في التدخل المتكامل والقوي للوكالات والجهات الحكومية".

فتطوير الرعاية الصحية والتعليم وتوفير المياه وخدمات الصرف الصحي، إلى جانب منع العنف والاستجابة للكوارث الطبيعية، يعتمد على الحكومات المحلية. وتبدأ الإدارة والحكم الجيد بالاعتراف بالحقوق القانونية لسكان الأحياء الفقيرة وغير الشرعية في الوجود وصياغة هذا الحق من خلال امتلاك الأراضي وتعليمات فرز وتخطيط مناطق المدينة. وقد تزامن الإدراك أن الحكومة متغيبة عن تخطيط المدن مع الإدراك أن الفقراء في المدن كانوا، في أحسن الأحوال، مستقبلين سلبيين، وفي أسوأ الأحوال، مغيبين كلياً عن التخطيط والتنفيذ لمشاريع تطوير الأحياء الفقيرة. كما أن فقراء المدن هم في أفضل موقع للدفاع عن حقوقهم أمام السلطات المحلية، ولتصميم وتنفيذ هذه المشاريع التي تهدف إلى تطوير أحيائهم الفقيرة.

وفي الوقت الحاضر، يكافح مسؤولو التنمية الحضرية لتحديد دورهم ولتأسيس توجه أكثر نشاطاً وتماسكاً نحو التمدين. وترى جايلي رئيسة مؤسسة كير، أن منظمتها غير الحكومية هي صلة وصل بين الحكومات والأحياء السكنية، حيث قالت "نحن لا نقول أننا نزحف إلى مواقع السلطة في هذه البلاد ولكننا نبحث جدياً عن الطريقة التي يمكننا من خلالها أن نقدم المساعدة على مستوى القاعدة لنعطي الناس الإحساس بقدرتهم على التفاعل وجعل حكوماتهم مسؤولة أمامهم".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 30/تشرين الثاني/2008 - 1/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م