مُسْتَقبَلُ العِراقِ بيَدِ مَنْ ؟

(الحلقة الأولى)

 محمّد جواد سنبه

ستبقى مصالح الدّول، هي الحاكمة في العلاقات الدوليّة، وهي اللاعب الرئيسي في قانون توازن القوى في العالم. وستبقى السّياسة هي الفن و الوسيلة، لإدارة معركة حفظ المصالح و توازن القوى. وكلما كانت دولة مّا، غنيّة بمواردها الطبيعيّة، أو امتيازها بموقع (جيو استراتيجي) (موقع جغرافي عن طريقه، تتمّ السيطرة على مواقع جغرافيّة أخرى، أو التحكّم بها)، فإنّ مثل هذه الدّولة، ستكون ميداناً تتصارع عليها الدّول الأقوى منها.

وحظّ العراقيين العاثر، أسكنهم في بلد يتمتع بامتياز، بهاتين الميزتين الفريدتين. فكان العراق و سيكون مسرحاً للصراعات الدّوليّة، حتى قيام الساعة. فلا العراقيون أقوياء فيخشاهم المعتدون، و لا هم فقراء فيزهد بعراقهم الطامعون، و لا جغرافيتهم غير مهمّة، فلا يكترث بوطنهم الطامحون.

وإذا أردنا أنْ نعرف ؛ مَنْ يمتلك مفاتيح مستقبل العراق، واستقراره و ازدهاره ؟.

لا بدّ أنْ تكون لنا نظرة ثاقبة، تطّلعنا بشموليّة و واقعيّة على شبكة المصالح الدّوليّة. وتعرّفنا كذلك، أيّة مرتبة يحتلّ العراق من اهتمام تلك المصالح ؟.

أوّل ما نركّز عليه في هذا المضمار، فهم مصالح الدّول الكبرى معنا، وبدون هذا الفهم، لا نستطيع إطلاقاً الإهتداء لحلّ المشاكل المحيطة بالعراق.

عندما سئل الدكتور (سليم الحسني) من قبل (طاهر بركة)، مقدم برنامج آخر ساعة، من على فضائية العربية، مساء يوم 15/11/ 2008:ـ (هل ستوقع الإتفاقيّة الأمنيّة الأمريكيّة من قبل الحكومة العراقية ؟. فكانت إجابة الدكتور (سليم الحسني) دقيقة فأصابت كبد الحقيقة عندما قال :ـ (يجب أنْ نعرف جيداً، أنّ نسيج الحكومة العراقيّة، يخضع في بعض جوانبه لإرادات دّول إقليميّة، لها مصالحها في المنطقة و في العراق، و ما لمّ توافق هذه الأطراف الإقليميّة، على نصوص الاتفاقيّة الأمنيّة، فلن توقع. بمعنى أنّ بعض الإرادة ستكون إقليميّة، ولكن التوقيع على الاتفاقيّة، سيكون بأقلام عراقية)(انتهى).

هذا التصوّر الدّقيق، لتداخلات القضيّة العراقيّة، المتشعبة المواضيع، والبعيدة المديات، يعطينا مؤشراً أنّ العراقيين ليس بأيديهم كلّ مفاتيح حلّ قضيّتهم، وإنّما يشاركهم في الحلّ آخرون، لهم تطلعاتهم و رؤيتهم، في رسم معالم عراق مستقر مزدهر آمن متطور... الخ. وهذه المشاركة ينفذها (الأقربون)، لكن يفرضها (الأبعدون)، وهي بالنتيجة نابعة من وجود مصالح متشابكة، للأقربين والأبعدين، تتعلق بحفظ اقتصاد وأمن و توازن نفوذ دّول كبرى في المنطقة. فهي عمليّة خارج نطاق الميل القومي أو الديني أو الهوى الشخصي، كما يتصوّر البعض.

 إنّ الحلقة الأبعد من دائرة المحيط الإقليمي للعراق، هي صاحبة المصالح الرئيسيّة في العراق، وإنْ كان للدّول الإقليميّة مصالح أيضاً لكنّها ثانويّة، و هذه المصالح لا تزاحم و لا تطغى على مصالح الدّول القويّة بأيّ حال من الأحوال.

في عالمنا اليوم يوجد نزاع أمريكي/ روسي، أشبه ما يكون بالحرب الباردة، ولكن بالخفاء، على مستوى سباق اسثمار الأسواق العالميّة، بعيداً عن جعجعة السلاح. و إنْ كان التلويح به من قبل هذا الطرف أو ذاك، يعدّ بمثابة رسائل احتجاج قويّة، يبعثها طرف لآخر وبالعكس. فزمن الحروب التعرضيّة والاستباقيّة بين الدّول العظمى، واستراتيجيّات الردع النووي، وحلّ الحرب بالحرب قد انتهى، على الأقل في هذه المرحلة التاريخيّة، التي أفرزت الكثير من البدائل، أقل تكلفة من خوض الحروب، وأكثر ابتعاداً عن مسارح الإبادة البشريّة، ومآسي التدّمير المرعبة. و إذا أخذنا تداعيات الأزمة الماليّة الحاليّة في الحسبان، واعتبارها محوراً له متطلباته الموضوعيّة، سنكون قريبين من الحقيقة بشكل كبير.

من الملاحظ أنّ المتضرر الكبير من الأزمة الماليّة الحاليّة، هي الولايات المتحدة الأمريكيّة، ومن ثمّ أوربا، وبلدان الخليج العربي، وجنوب آسيا فروسيا على التوالي. روسيا الآن على ضوء الوضع الاقتصادي العالمي، تمتلك فرص أكبر من الولايات المتحدة الأمريكيّة، للمناورة بتحقيق المكاسب. فالأزمة الماليّة التي ضربت الاقتصاد الرأسمالي (وهي تحسب في نظر الروس، انتصاراً آيديولوجيّا للفكر الماركسي)، أعطت لروسيا فرصة لاعادة تشكيل رؤاها المستقبليّة، على ضوء نتائج إنهيار الإقتصاد الرأسمالي. و إفرازات الواقع العملي تشير بوضوح، أنّ أوربا (القارة العجوز)، ما هي إلاّ تابع لمنطق الإستراتيجيّة الأمريكيّة، بالرغم من الدّور الذي تلعبه الدبلوماسيّة الفرنسيّة و الألمانيّة، في جعل أوربا ذات موقف مستقل، أو محايد عن السّياسة الأمريكيّة، إلاّ أنّ الواقع يحتّم، بأنّ أوربا ليست كذلك، فهي بحاجة دائمة إلى الوجود الأمريكي، ليعزز هيّبة أوربا في العالم.

لقد قدم ديمتري ميدفيديف، رؤيته عن اقتصاد بلده، منذ اعلانه رسمياً يوم 7 أيار 2008 رئيساً للاتحاد الروسي، حيث قال : (إنّ روسيا قامت منذ فترة طويلة بخطوتها على طريق تعميق تكاملها في الاقتصاد العالمي). وجدير بالذكر أنّ الاقتصاد الروسي يمر بفترة ازدهار، منذ الاصلاحات التي قام بها الرئيس السابق فلاديمير بوتين. وبالرغم من الأزمة الماليّة العالميّة، لكن الوضع الروسي أحسن بكثير من الوضع الأمريكي و الأوربي و العربي. و قد قال الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف لأعضاء مجلس الدولة، في 18 نوفمبر 2008، كما جاء في وكالة انباء (نوفوستي الرسمية الروسية) :ـ (بأن روسيا ستتمكن في السنوات القريبة القادمة من جعل الروبل إحدى عملات الاحتياط المضمونة آخذة بعين الاعتبار المصاعب التي يعاني منها الدولار في الفترة الأخيرة).

وتأكيداً لنهج التفاهم على تبادل المصالح، بيّن روسيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، الذي تجسّد في زيارة الرئيس بوش إلى روسيا بتاريخ 6/5/2008، و صدور ما يعرف باعلان قمّة (سوتشي) الذي جاء فيه : (... وفي حقبة جديدة من العلاقات، تعهد الرئيس الأمريكي جورج بوش، والرئيس الروسي المنتخب ديميتري ميدفيديف أمس، أثناء لقائهما الأول في (سوتشي) بروسيا، بالعمل سوياً من أجل حلّ المشكلات الثنائيّة.

 وعبّر بوش في مستهل محادثاته مع ميدفيديف في (سوتشي)، على ضفاف البحر الأسود، عن ارتياحه لفكرة إقامة علاقات مع خلف الرئيس فلاديمير بوتين (تسمح بحل المشكلات المشتركة). وعندما عقدت قمة مجموعة العشرين بتاريخ 15/11/ 2008، أكّد الرئيس ميدفيديف بالقول : (عن أمله بعودة الثقة المتبادلة بين بلاده والولايات المتحدة بعد تولي الرئيس الامريكي المنتخب باراك اوباما منصبه اوائل العام المقبل).

 وجدير بالذكر، أنّ بوتين وبوش التقيا شخصيا 23 مرة منذ عام 2000 لغاية انتهاء ولاية الرئيس بوتين، سواءاً على المستوى الثنائي، أو في إطار المحافل المتعددة الأطراف، ناهيك عن المكالمات الهاتفية وتبادل الرسائل بينهما. في الحلقة الثانية سأتناول مديات تأثير الصراع الروسي الأمريكي على العراق.

* كاتب و باحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/تشرين الثاني/2008 - 25/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م