عبقرية شامت

 قراءة أخرى للأزمة

علي المرهون

لم تكن سابق عبقرياته التي تفتّق عنها رأسه المخبوء تحت الشماغ الأحمر، بحجم الإبداع الذي جمع فيه عصارة علمه وتجاربه وقراءاته وسماعاته ومشاكساته ومناكفاته وهرطقاته وغباءاته التي لا حدّ يحدها ولا تنفد بفعل التناقص.

كان يحتمي بحيّز صندوق التكييف الذي انغرس في جدار المسجد وهو يراقب المغادرين لصلاة الجمعة وهم يتراكضون وقد رفع الواحد منهم أطراف ثوبه فبانت ساقاه و انغمست في بِرَك الماء التي صنعها المطر المنهمر من آخر مساءات أيام العمل الأسبوعية.. هل رأيت يا شيخ؟ أنهم يرفعون أثوابهم المسبلة، سبحان الله.. لا بُدّ لهذا الدين أن ينتصر ولهذه الأثواب أن تُقصّر،إنه انتقام العزيز الجبار وانتصاره لدينه الحق.

بنفس هذا الكم المفجع من "عبقرية الشماتة" رفد المجاهدون الجدد "المجاهدون بالشماتة" تحليلاتهم حول أزمة أسواق الائتمان التي ضربت اقتصاد العالم من أقصاه إلى أقصاه، فزخرت الصحف و مواقع الأخبار بمقالات من شاكلة " غزوة وول ستريت.. و الفتح الجديد"!!

لعل التجرد من هذه الحالة الفكرية يوقف أصحابها عند نقطة الجهل الفاضح في قراءاتهم وتحليلاتهم لأزمة شارك كل الناس في المعمورة في تحليلها والكتابة عنها، وهو ما لا يبحثون عنه وهم أتباع الدين الكامل والشريعة الوافية، لذلك غلبت على عطاءاتهم في هذا المجال السطحية والقصور العلمي والخلل المنهجي فبات أكبر نتاج كتاباتهم أن الإقتصاد الإسلامي هو المسيطر القادم بعد أن لحقت الرأسمالية الكافرة بسابقتها الاشتراكية الملحدة !!

إن التعاطي مع المشروع الفكري لفقه الاقتصاد في الإسلام بهذه الطريقة من التبسيط يؤكد الشكوك لدى الآخر بلا براءة المشروع الإسلامي ولا إنسانيته ولا عالميته، ويضع المسلمين في خانة المواجهة الفكرية مع العالم كله، ذلك العالم الباحث عن صواب الفكر والتطبيق لا عن فكرة و نظرية دينية منطلقها الشماتة والتشفي.

يكاد يُجمع أساتذة فقه الاقتصاد في الإسلام أن منطلق الملكية الخاصة و تسلط الناس على أموالهم لا بالإطلاق بل بتقنين يحدد هذه السلطة هو أنسب ما يُقرب الرأسمالية كمنهج اقتصادي من استنباطاتهم الفقهية التي استُخرجت من أحاديث ومعاملات وواقع حياة الرسالة في فجرها.

لكن الإنحراف الذي نخر في جسد الرأسمالية وقادها للانتكاسة تمثّل في تجرُّدها من أي ضابط أخلاقي يحكم أو يُنظم العلاقة بين سعي الفرد للثروة وسعي المجتمع للرخاء، فظهرت بوادر التحلل من مواثيق هذه العلاقة بظهور مؤلفات ومدارس تشجع على رفع شعار "تعظيم ثروات الملاّك"(1) كهدف مفرد للقوالب التنظيمية التي صيغت في أشكال أعمال وشركات وأفكار استثمارية.

هذه الحالة التي شاركت فيها البنية الفكرية المختلة بدعوى الحرية المطلقة وما رافقها من حماية الدولة حققت لمستفيديها أرباحاً وثروات ظنوا بها صواب منطقهم وسلوكهم، ما دفعهم لمزيد من الانحراف فأعمل مهندسو الأدوات المالية عقولهم و صاغوا قوالب جاهزة للسرقة بأسماء جميلة، لم يُخفِ جمالهُا قُبحَ التحلل الأخلاقي الذي تعانيه، فبعد أن حاول المستفيدون سابقاً تلميع ممارساتهم بأن ضمّوا للمدرسة التي يسيرون على نهجها فصولاً تتحدث عن الجانب الأخلاقي في عالم الاقتصاد والأعمال، تحللوا من كل هذا في ممارساتهم الجديدة وصار همّ التنمية الشاملة للمجتمع هدفاً يُحارب، وانتكس منطق الصواب وبَحثُ الإنسان عن رخاء نفسه برخاء محيطه إلى فكرة شاذة تجلب رخاء النفس بدمار المحيط.

استخدام أسلحة الدمار الشامل المالية كما وصفها وارن بافيت(2) أحد أساطين عالم المال قاد إلى جسد اقتصادي عالمي معتلّ يعاني اضطرابات جوهرية بات صعباً علاجها بالإبر الموضعية المسكنة للآلام.

بشارات هذه الانتكاسة ليست حديثة العهد بل لاحت علائمها منذ انسحقت أمم لتحيا أُخر في رخاء ونعيم مقيم،حاول حينها بعض الحكماء تنبيه العالم للخطر المحدق لكن لا صوت يعلو فوق صوت الورقة الخضراء. الأفريقي القادم من أمة نالها من العوز الذي صنعه ذوو الشعر الأشقر كوفي أنان "الأمين العام السابق للأمم المتحدة" خاطب ضمير العالم ذات صحوة ضمير أن طريقة تعاملنا مع الدول الفقيرة في مسألة إقراضها من البنك الدولي تفتقر لأدنى وازع أخلاقي فهي تسحقهم على المدى الطويل وإن ظنوا لبرهة أن العالم يمدهم بالخير.. طارحاً صيغة المشاركة في التمويل، هذه التي يطرحها فقه الاقتصاد الإسلامي كمنهج يساعد أرباب المال على تلبية احتياجاتهم التمويلية لصناعة اقتصاد يساهم في تنمية المجتمع كوحدة واحدة.

وليس بعيداً عن هذا المحور من مقاربة الأزمة ما صرح به الرئيس الفرنسي(3) من حاجة العالم لنظام مالي تحكمه الأخلاق وتقنن نوازعه التوسعية قوانين الحرية المحدودة التي تتيح للفرد سلطة على ماله بما لا يُفقد المجتمع سلطته على آماله وأحلامه برخاء وازدهار شامل.

تمنيت العودة بضع سنين للوراء لأجيب على تحدِ الأستاذ الأمريكي ذو الأصل الماليزي الذي طالبنا بنص إسلامي صريح يحرم التعامل بعقود الخيارات(4) هذا المنتج المالي البارع في تفوقه العقلي..لو تحققت أمنيتي لأجبته أن تحللها من أدنى لفتة أخلاقية وانتكاسة الناموس الطبيعي فيها هو أكبر دليل يحتاجه عاقل على سوء هذا المنتج الذي تفتقت عنه نوازع عبقرية لإنسان وضع أخلاقه في صندوق قديم وارتقى ذلك الصندوق ليخاطب أصحاب المال.. هاتوا بشارة المزيد.

..............................

1 العمود الأساس الذي تقوم عليه أهداف الشركات كتنظيم مؤسسي ربحي.

2 أحد أكبر أثرياء العالم و مؤسس شركة Berkshire Hathaway

3 الرئيس نيكولاس ساركوزي

4 أحد أشكال المشتقات المالية التي لا تستقي قيمتها ذاتياّ بل بالاعتماد على أصول أخرى وهذا النوع يتحقق فيه ربح المضارب بتحقيق الأصل المربوط به خسارة سوقية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/تشرين الثاني/2008 - 20/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م