لم نسمع به قبل الحملة الانتخابية الأمريكية، ومع أنه عارض
الحرب على العراق مع كثيرين من أعضاء مجلسي الكونغرس، إلا أنه لم
يقم بأي نشاط يستقطب نحوه الرأي العام الأمريكي أو العالمي.
وبالنسبة لنا في العراق، فلم يثر أسمه كثير اهتمام، إلا بعد أن دخل
معترك التنافس على البيت الأبيض، وبخاصة بعد أن أطاح بمنافسته
الشقراء السيدة كلينتون.
وفقط قبيل وبعد فوزه في انتخابات الرئاسة، بدأت تظهر كتابات عن
حياته ونشاطاته وتطلعاته وبعضا من آراءه السياسية وقيمه الأخلاقية
التي آمن بها. وقد كان تقدمه الواضح على منافسيه من كلا الحزبين في
المراحل الأولى للحملة الانتخابية، قد سرق آخر الأضواء عن منافسه
الأوحد المتبقي جون ماكين. وقد حاولت الحملة التي قادها ماكين
العزف على وتر معاداة اليسار والاشتراكية، الذي كانت روجت له (سي
آي أيه) كجزء من حملة معاداة الشيوعية واليسار عموما إبان عهد
الحرب الباردة، وبدرجة ما حاليا. لكن المجتمع الأمريكي الذي خبر
على ما يظهر مناورات ذلك الزمن، لم يبدي اهتماما لافتا لرسائل
ماكين التي عفا عليها الزمن، وبالعكس عملت تلك الحملة لصالح رغبة
التجديد التي ميزت حملة أوباما الانتخابية.
وبهذا الخصوص يكتب الصحفي الأمريكي " ايه جي ديون " في صحيفة
الواشنطن بوست ما يلي:
" نعم، لقد حان الوقت لكي نأمل من جديد، نأمل في أن يكون عصر
الحركة الرجعية العنصرية وسياسة إثارة الانقسامات قد انتهى. لقد
حان الوقت لنتخيل أن وطنية المنشقين لن تكون محلا للشك، وأن العالم
لن يعود منقسما بين «الناخبين ذوي القيم» ومن لا يملكون بوصلة
أخلاقية توجههم. لقد حان الوقت لنتوقع أن الطابع الإيديولوجي لن
يظل كافيا لاعتبار سياسي ما غير كفء ".
ويقول ايضا:
" لقد خاض أوباما الانتخابات كمرشح تقدمي وليس كمحافظ، ولكنه
كان أيضا واقعيا وليس مدافعا عن إيديولوجية، وهو بهذا المزيج يوضح
الشكل الذي ستكون عليه رئاسته. كان جون ماكين يعتقد أنه يستطيع
الفوز بالهجوم على أوباما ووصفه بـ«الاشتراكي» الذي يقول إنه «سيوزع
الثروة»، ولكن الأغلبية العظمى تريد توزيع الثروة إذا كان هذا يعني
تغطية الرعاية الصحية والمعاشات وفرص في الجامعات من أجل الجميع،
أو يعني الطلب من الأثرياء أن يتحملوا نصيبا أكبر بقليل من عبء
الضرائب ".
لقد انتهت الحملة الانتخابية وفاز السيد أوباما، وعند هذه
المرحلة نكون قد تعرفنا على أوباما الصورة، تلك التي قدمتها لنا
وسائل الإعلام من صحافة وقنوات فضائيات مرئية أو مسموعة. والمتتبع
لحملته الانتخابية، وحملة منافسه الجمهوري، يلاحظ أن أوباما قد
أنفق 745 مليونا من الدولارات لتغطية نفقات تلك الحملة، فيما أنفق
المرشح الآخر 345 مليونا من الدولارات فقط. و يعلم الخبراء في
الشأن الانتخابي الأمريكي في الولايات المتحدة وفي غيرها من
البلدان، أن الفائز في السباق نحو البيت الأبيض هو من يطل لأطول
فترة ممكنة على المجتمع الأمريكي خلال شاشات التلفزة، ويتردد اسمه
كثيرا على وسائل الإعلام الأخرى. يعني ذلك إن أكثر المتسابقين حظا
في الفوز، هو ذلك القادر على تمويل حملته الدعائية المكلفة جدا،
وكما أوباما فقد كان الفوز دائما من نصيب الأقدر على تحمل تلك
التكلفة.
و خلال الأسابيع القادمة سيباشر الرئيس المنتخب العمل على تحويل
الوعود الى واقع، وسيعاونه بطبيعة الحال فريق من ذوي الخبرة،
لصياغة السياسات اللازمة لمعالجة المشاكل العديدة والمعقدة التي
تواجه المجتمع الأمريكي. ومع اعتقادنا أن لا حلول سحرية أو سريعة
لتلك المشاكل، إلا أن اختيار فريق العمل الذي سيبحث تلك المشاكل،
سيكون شرط النجاح وضمانته، وتعتمد على الرئيس ومستشاريه اختيار
الأشخاص المناسبين للمواقع ذات العلاقة الذين عليهم سيعتمد إيجاد
الحلول لما يواجه الولايات المتحدة من تحديات. ومن هنا فقط سنبدأ
بالتعرف عن قرب على ملامح " الصورة الأصل " للسيد أوباما، بدون
رتوش الصحافة وألوان القنوات الفضائية.
المحللون السياسيون والاقتصاديون داخل الولايات المتحدة
وخارجها، قد أشبعوا نقاشا موضوعات مثل الأزمة المالية الحالية
وتبعاتها، و الركود الاقتصادي المتوقع الذي يذكر بسنوات الكساد
الكبير في فترة 1929 – 1934، والعجز الهائل في الميزانية العامة،
إضافة إلى الدين العام الذي تشكل نفقات حرب العراق وأفغانستان أحد
أهم أسبابها. و قد أجمع أولئك المحللون على أن المهمات التي تنتظر
فريق العمل الذي سيختاره أوباما، ستتمحور في الشأن الداخلي
الأمريكي حول الآتي:
أولا: السير قدما بالبرنامج الذي وضعه الرئيس الحالي لمعالجة
الأزمة المالية، والذي حاز على موافقة الحزبين الجمهوري
والديمقراطي. وكما هو معروف، إن الحزبين قد اتفقا على حزمة من
الإجراءات، أهمها ضخ 700 مليار دول في السوق المالي، لاعادة الثقة
الى المصارف والمؤسسات المالية، وإعانة البعض الموشك على إعلان
إفلاسه على الصمود أمام الإعصار الذي عصف بالنظام المالي وشل حركته.
وهنا تقع على الرئيس أوباما مهمة الوفاء بوعده لمساعدة أصحاب
المنازل المهددة منازلهم بالحجز بسبب عدم قدرتهم على سداد الرهان.
إن المشكلة هنا هي أكبر من مشكلة مالية، فأزمة الرهان العقارية
جاءت كنتيجة مباشرة لواقع الاقتصاد الأمريكي الواهن، الذي تعاني
قطاعاته الإنتاجية التباطؤ في النمو، في حين تتآكل منذ أمد البنية
التحتية في أمريكا كلها، مما يتطلب لمعالجتها تطوير تلك القطاعات
لتتمكن من رفع معدلات استخدامها للقوى العاطلة عن العمل. يقدر
الاقتصاديون أن هناك ما يزيد عن 3.8 مليون منزل مهددة بمخاطر الحجز،
وهو ما يتطلب تقديم المساعدة لهم وحمايتهم من الدائنين. ولذا يجب
أن يتزامن التدخل الحكومي مع عملية ضخ الأموال للمصارف والمؤسسات
المالية الدائنة لإنقاذها من الإفلاس.
لكن تأثير هذه الإجراءات لن يكون كافيا لوحده لانتشال
الاقتصاد من حالة الركود التي تنتشر في أرجائه انتشار النار في
الهشيم.
ما يحتاجه الاقتصاد الأمريكي الآن هو إعادة هيكلته عبر سياسة
اقتصادية أكثر جذرية، لحفز الاستثمار، وزيادة معدلات تشغيل الموارد
البشرية والاقتصادية. فمعدل البطالة المعلن قد تجاوز 7% من مجمل
عدد الأفراد المستعدين للعمل، وإذا ما أضيف اليهم الأفراد المحالين
على التقاعد مبكرا، وذلك العدد من الأفراد الذين لا ينظر اليهم على
أنهم جزء من قوة العمل، برغم أن أعمارهم تجيز لهم ذلك، فإن ذلك
المعدل سيكون أعلى بكثير، ما يعني أن الأعباء الاقتصادية للبطالة
في الواقع هي أكثر بكثير مما تعكسه الأرقام الرسمية.
ويندرج ضمن سياسة الهيكلة الاقتصادية، إعادة التوازن الى
الميزانية العامة، حيث يبلغ العجز السنوي لها بحدود 500 مليارا من
الدولارات. كما أن إيجاد مخرج للحرب في أفغانستان والعراق التي
بسببهما أرتفع مستوى الدين العام الأمريكي إلى أكثر من 11 تريليون
دولار، سيوفر المال الكافي لتحسين الخدمات الصحية والتعليمية في
الولايات المتحدة.
ثانيا: الخطوة الموازية هنا التي ينتظر من السيد أباما القيام
بها، هي إعادة النظر جذريا بالنظم الحالية التي تعمل بموجبها
المؤسسات المالية الأمريكية، تلك النظم في الحقيقة قد هيأت للمأزق
المالي الذي سقطت به تلك المؤسسات المنفلته. فما يسمى بالعولمة
والحرية المطلقة التي رافقت حركة رؤوس الأموال بين الدول، هي من
قاد العولمة والعديد من المؤسسات المالية واقتصاد الدول الغنية الى
الكارثة الحالية.
إعادة النظر بالأنظمة والقوانين وبدور الدولة في أنشطة المصارف
ومؤسسات المال، يشكل أحد أهم المهام التي ينتظر من الرئيس الجديد
ومن قادة الدول الغنية إنجازها في أقرب فترة زمنية ممكنة.
ويصف الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
الأستاذ جوزيف ستيجليتز إقتصاد بلاده بقوله " إن نظامنا المالي
المترنح، هو السبب لمعظم المشكلات التي نعاني منها في الوقت الر
اهن، ومن الواضح كذلك إن خطة الإنقاذ المالي التي أعدها بوش ووزير
خزانته " هنري بولسن " لن تكون كافية لإنقاذ الاقتصاد، وعلى فريق
أوباما أن يدلي بدلوه أيضا. القطاع المالي الذي كان يمثل يوما رمزا
للنجاح الاقتصادي الأمريكي، قد خذل الأمة الأمريكية. فمن المعروف
أن وظيفة البنوك هي تخصيص رؤوس الأموال، وإدارة الخطر، ولكن بنوكنا
بدلا من ذلك راحت تبعثر النقود هنا وهناك وتخلق الخطر. لذلك سيتعين
على أوباما أن يدفع باتجاه إدخال تغييرات جذرية في هذا القطاع،
خصوصا فيما يتعلق ! باللوائح والضوابط المنظمة، وسهولة حصول البنوك
المختلفة على قروض من بنك الاحتياطي الفيدرالي دون تمييز، بحيث
يقتصر منح هذه القروض على البنوك ذات السيرة الحسنة والسمعة
الطيبة".
أما في السياسة الخارجية، وما يخصنا منها الصراع العربي
الفلسطيني، فهو ما سيؤثر على تقييمنا للرجل أكثر من أي قضية أخرى،
بصرف النظر عن قضايا أخرى كالحرب والسلام والاحتباس الحراري التي
تحتل أهمية كبرى لنا وللعالم على حد سواء.
في كتابه الذي أصدره قبل سنوات تحت عنوان "جرأة الأمل " عبر
السيد أوباما عن جانب من أفكار يؤمن بها، التي إضافة إلى ما ذكر
سلفا، ربما شكلت الدفعة القوية التي قادته إلى النصر. ففي كتابه
المشار اليه ذكر " ليس مهما أن تكون غنيا أو فقيرا، أبيضا أو
أسودا، المهم أن يكون لديك حلم وأن تسعى لتحقيقه ". أنها بديهة لكن
ليس في معركة الرئاسة الأمريكية، فالسعي والتصميم هو عدة
المنتصرين عبر التاريخ، أما في الولايات المتحدة فيشترط لتحقيق
ذلك مالا وفيرا. |