نشبت الأزمة المالية الأمريكية بسبب عجز المقترضين الأمريكيين
عن تسديد أقساط الوحدات السكنية التي اشتروها فيما مضى، مما أثر
على المصارف الاستثمارية التي تقوم بتمويل عمليات الشراء من خلال
إصدار سندات قابلة للتداول في الأسواق المالية لفترات زمنية محددة،
تمتد من عشرة إلى عشرين عاما. وأمام توقف المقترضين وشركات الرهن
العقاري عن تسديد الأقساط المستحقة عليهم للمصارف، فلم يكن بوسع
المصارف الاستثمارية وشركات التأمين التي تتولى التغطية التأمينية
في حال عدم التسديد بنسب معينة ومتفق عليها من الوفاء بالالتزامات
المستحقة عليها للغير وخاصة قيمة السندات المصدرة.
ولأن النظام المالي- كمؤسسات – عبارة عن سلسلة متصلة، فقد أخذت
الأزمة تنتقل إلى الأسواق النقدية والمالية الدولية وبالأخص
الأوروبية واليابانية والصينية والأسواق الآسيوية الناشئة مثل
كوريا الجنوبية وهونغ كونغ واندونيسيا وسنغافورة والهند...الخ (
راجع جريدة القدس 15/10/2008، تداعيات الأزمة المالية الأمريكية).
ومن المفيد بداية وقبل الخوض في القنوات والآليات المتاحة
للحكومات لضخ الأموال في الأسواق المالية والنقدية على حدٍ سواء،
أن نشير إلى توصيف غير دقيق يطلقه بعض المحللين والمتابعين للأزمة
حين يقارن أو يماثل أو يشبه أو يطابق بين ما حصل في شهر أيلول
الماضي في السوق المالي الأمريكي بفترة الكساد الكبير(1929-1933).
ولا اعتقد بأن ذلك يحتاج الى جهد أو تحليل لدحض التشبيه من جميع
النواحي. سواء من حيث الزمان والأسباب والبيئة الاستثمارية والظروف
الدولية ودرجة التشابك والارتباط التي كانت قائمة بين الفترتين.
ففي تلك الفترة كانت الولايات المتحدة سوق ناشئ في طريقه لتحقيق
المعجزات الاقتصادية- لم يكن قد بلغها بعد- وكانت سيدة العالم
آنذاك بريطانيا بالدرجة الأولى وفرنسا بالدرجة الثانية ولم تكن
الصين موجودة على الخريطة الدولية المقررة، واليابان كانت مستعمرة
لمعظم الدول الآسيوية بما فيها الصين نفسها. وعدد دول العالم في
حينه لم يزد عن 44 دولة مستقلة أو شبه مستقلة والباقي كان خاضع
للاستعمار بالكامل. ووسائل الاتصالات كانت بدائية جدا جدا. وعدد
البورصات المنتشرة في العالم كان محدودا أيضا، وباختصار شديد لا
يمكن تشبيه ما حصل في الأسواق المالية الأمريكية في شهر أيلول
الماضي بما حصل في نفس الأسواق عام 1929 وخاصة بالنسبة للنتائج
المترتبة على الأزمة. ومن الممكن لمن يرغب في المزيد أن يرجع إلى
أسباب أزمة الكساد الكبير، ليرى أن أسبابها وظروفها وملابساتها
وحتى تداعياتها تختلف عن تلك السائدة حاليا.
قنوات ضخ الأموال
القنوات والأشكال والآليات والوسائل المتاحة أمام الحكومات لضخ
الأموال في الجهازين المصرفي والمالي عديدة وكثيرة وسوف نشير إلى
أهمها وأبرزها:
أولا: تدخل نفسي، فمجرد إعلان الحكومات عن نيتها التدخل وحماية
الودائع كما فعلت الإمارات والسعودية وقطر والأردن، يمكن أن يكون
كافيا لتهدئة الأسواق وتحول دون قيام المودعين بالتسابق لسحب
ودائعهم. وهذا حصل في أزمات عديدة سابقة، ولم تحتج الحكومات إلى ضخ
فعلي للأموال. وهذه الحالات تنطبق على الأزمات البسيطة وغير
المماثلة لما حصل في أيلول الماضي في الولايات المتحدة والاتحاد
الأوروبي. وإن كان البيان الحكومي ضروري وهام ولكنه غير كافٍ لوحده
لوقف تداعيات الأزمة.
ثانيا: إيداع مبالغ نقدية كبيرة حسب الحاجة لفترة زمنية طويلة
تمتد لأكثر من عشر سنوات يتم استردادها مع الفائدة على مراحل فيما
بعد، وهذا قائم ومعمول به كثيرا. فالبنك المركزي الأردني أودع مبلغ
48 مليون دينار لدى بنك الأردن والخليج (الذي أصبح أسمه البنك
التجاري الأردني) يتم إعادة الوديعة على سنوات محددة ووفقا لظروف
البنك على أن يرافقه إعلان من الحكومة بضمانها للودائع. وقد تطلب
الحكومة بأخذ موافقتها على عمليات تحويل الأموال أو قد يضاف توقيع
معتمد من البنك المركزي أو ممثل الحكومة على المخولين بالتوقيع على
أن يكون أساسيا.
ثالثا: شراء القروض المتعثرة، أو السندات (الأوراق المالية)
التي حان موعد استحقاقها ولم يتمكن البنك من الوفاء بتسديدها
للمستثمرين – حالة بنك ليمان برذارز وغيره.
رابعا: شراء حصة في رأس المال عبر شراء أسهم عادية، لفترة محددة
بأسعار يتم الاتفاق عليها، لكنها أعلى من سعرها السوقي الذي ساد
أثناء و/أو خلال الأزمة ودون سعرها الذي كان سائدا قبل الأزمة.
وذلك بغرض وقف جنوح أسعار الأسهم نحو الهبوط اكثر من ذلك، مما يشكل
مرحلة أولية لكن أساسية للحؤول دون تصفير قيمة (سعر) السهم (أي أن
يصبح سعره صفرا).
خامسا: قيام الحكومة أو البنك المركزي بشراء أسهم ممتازة، التي
لا يحق لها التدخل بالإدارة لكنها تأخذ الأولوية في الربح قبل
الأسهم العادية كما تحصل على حصتها أولا في حال تصفية البنك أو
بيعه، بأسعار متفق عليها ووفقا لحجم الأزمة وعمقها.
سادسا: قيام الحكومة أو البنك المركزي بشراء أسهم ممتازة قابلة
للتحويل الى سندات في المستقبل وفقا لرغبتها بعد فترة متفق عليها
أو إلى أسهم عادية يتم تداولها في السوق، بعد انتهاء الأزمة على
دفعات خشية التأثير على سعر السهم في السوق.
فالوسائل المشار اليها من (4-6) تعني عمليا رفع رأس مال البنك
بنفس قيمة الأسهم سواء كانت عادية أو ممتازة. بعكس الوسيلتين
الثانية والثالثة والتي لا تخرجا عن كونهما قروضا مباشرة على
المصرف يتم تسويتها بعد زوال مظاهر الأزمة.
وهناك وسائل دعم غير مباشرة أخرى يمكن للحكومات أو المصارف
المركزية استخدامها و/أو اللجوء إليها لدعم مراكز المصارف المتعثرة
مثل: تخفيض نسبة الاحتياطي على الودائع. فودائع بنك واشنطن ميتشويل
بلغت 188 مليار$ يتم إيداع 18.8 مليار$ كاحتياطي لدى المجلس
الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) على أساس 10% من الودائع، ففي
هذه الحالة يسمح له بتخفيض هذه النسبة إلى دون الـ 5% مثلا مما
يوفر سيولة جاهزة أمامه بامكانه استخدامها وسحبها من البنك المركزي.
كما أن هناك وسائل غير مباشرة مثل نسبة حقوق المساهمين إلى الودائع
أو الائتمان، حيث يسمح البنك المركزي بتخفيض هذا المعيار لكي يتمكن
من القيام بالأنشطة لفترة مؤقتة متفق عليها. كما بامكان الحكومة أو
البنك المركزي اعتماد البنك في تعاملاتها المالية لتعزيز مركزه
وتجديد الثقة به.
تلك هي أبرز الوسائل التي من المتوقع أن تلجأ إليها أو تستخدمها
الحكومات أو البنوك المركزية للتغلب على الأزمة المالية الحالية.
ومن البديهي بأن كافة الأموال المحولة إلى الجهاز المصرفي سوف تعود
إلى الحكومة أو البنك المركزي بعد زوال الأسباب وتسجيل بداية
انتعاش في الأسواق من جديد مع الأرباح المتأتية عليها. فالأموال
المدفوعة هي أموال دافعي الضرائب.
حجم الأموال المتدفقة إلى السوقين النقدي
والمالي
قامت الحكومات والبنوك المركزية للدول الغربية الرئيسة واليابان
وكوريا الجنوبية بضخ نحو 3.3 تريليون دولار، عدا ما قامت به الصين
وروسيا ودول الخليج العربي ودول أخرى.
وهذا يعني أن حجم الأموال التي تم ضخها إلى سوقي النقد والمال
لامس سقف الـ4 تريليونات$. كل ذلك بغرض تحقيق الاستقرار المالي
أولا، كنقطة لا بد منها نحو بحيث وضع أسس لنظام مالي دولي جديد.
فعبر التكليف الذي تم تفويضه للرئيس الفرنسي ساركوزي من قبل
الاتحاد الاوروبي، فقد اتفق الرئيسان الفرنسي والامريكي على عقد
الاجتماع التمهيدي في منتصف شهر تشرين الثاني القادم. أما فيما
يتعلق بالأرقام أو المبالغ التي تم تحويلها أو ضخها إلى الجهاز
المصرفي والمالي موزعة حسب الدول الرئيسة فقد قدرت كما يلي:
الولايات المتحدة الأمريكية 750 مليار$
بريطانيا 700 مليار$ نحو 500
مليار باوند(بأسعار شهر أيلول)
ألمانيا 700 مليار$ نحو 480
مليار يورو(بأسعار شهر أيلول)
فرنسا 532 مليار$ نحو 380
مليار يورو(بأسعار شهر أيلول)
اليابان 300 مليار$
كوريا الجنوبية 150 مليار$
أسبانيا 100 مليار$
3.232 تريليون$
وإذا أضفنا روسيا والصين وكندا ودول الخليج العربي ودول أخرى
فإن المبلغ قد طرق سقف الـ4 تريليونات دولار هذا إذا لم يتجاوزه.
ويتضح من مصادر الأموال المتدفقة سالفة الذكر أن نصيب الولايات
المتحدة المتسببة بالأزمة لم يزد عن 20%، بينما تحملت بقية دول
العالم النسبة الباقية. وهذا ليس بجديد على الأسلوب الأمريكي في
المعالجة. فهي دائما تنقل عبء حماية الدولار والنظام المالي على
غيرها من الدول. لقد باتت مصلحة كافة الدول في العالم الحفاظ على
الدولار وعلى إبقائه عملة تداول وحساب وتقييم دولية. فإذا كانت
الولايات المتحدة هي مصدر وسبب الأزمة المالية التي عصفت بالنظام
المالي كله إلا أن مساهمتها في المعالجة وفي إعادة الاستقرار لم
يزد عن 20%. ذلك هو الخلل الجوهري في العلاقات الاقتصادية الدولية
حيث تقف الولايات المتحدة على الطرف الأقوى في المعادلة بحكم
الواقع الذي أوجدته وأفرزته منذ نظام بريتون وودز عام 1944. لقد
أتضح للدول الأوروبية أولا – باعتبارها أكبر الخاسرين بأن استمرار
النظام المالي الحالي الدولي الحالي على ما هو عليه سيكبدها خسائر
غير عادية بسبب استئثار الولايات المتحدة بتقرير مصير النظام
المالي بمعزل عن مصالح الدول الأخرى.
الولايات المتحدة تريد من الدول الأوروبية واليابان والصين
وروسيا..الخ أن تتحمل وزر سلوكها غير السوي فقط وليس المشاركة في
صنع نظام مالي جديد. ذلك هو ما يجب أن يتم الوقوف أمامه في
الاجتماع المزمع عقده في منتصف الشهر القادم خاصة وأن أزمات أشد
خطورة قادمة ومتوقعة، إذا ما سمح للولايات المتحدة بالاستمرار في
ركوب أمواج المخاطر العاتية دون أدنى حس بالمسؤولية الدولية. ففي
الطريق أزمة بطاقات الائتمان وقروض السيارات المتعثرة وقبلهما سوق
المشتقات المالية والتي يصل حجمها نحو (480) تريليون دولار.
* محلل اقتصادي- القدس |