التفرّد الحزبي البحراني وفتاوى المقاطعة

عجزٌ في الكفاءة والمسؤولية

كريم المحروس

ساد الاتجاه الفقهي الأصولي الشيعي مدن البحرين وقراها في سرعة فائقة على وقع تطوّر الحركة السّياسيّة الدّينية عند نهاية عقد السّبعينات من القرن المنصرم، فغلب عليه النَفَسْ السياسي في الرؤية الاجتماعية العامة حتى اللحظة الراهنة. وإزاء ذلك خبت جذوة الاتجاه الفقهي الأخباري الذي كان حاكماً على مجتمع البحرين ثقافياً منذ عهد مرجعية الشّيخ يوسف البحراني ومن بعده ابن أخته الشيخ حسين العصفور.

وبحصد النتائج البسيطة والراهنة بين دور كلا الاتجاهين في شأن الوظائف المنوطة بهما على ظهر هذه الجزيرة؛ يبدو الوقع الثقافي المميّز الذي صنعه الاتجاه الأخباري القديم مازال ماثلاً، وظاهراً في الحاكمية على الوسط الاجتماعي، ولكن بلا اضطلاع بدور إبداعي يُذكر بين العقود الثلاثة الماضية. فهناك قوام شعبي عام ساد فيه نمط خاص من القيم والعادات والتقاليد والأعراف التي عبّرت عنها أدواتٌ شتى بعثت على التمكن البسيط من الوعي بالمحيط الاجتماعي، ولكن القوام هذا تراجع، واضمحلت مستوياته الثقافية شيئا فشيئا. وأما الأثر الثقافي للاتجاه الأصولي فيكاد يكون معدوماً حتى ساعتنا هذه بالرغم من تضخّم بعض أدواته، ومثالها الأبرز أعدادٌ مطردة في العناصر العلمائية، وانتشار واسع لهم بين نقاط الحشد الشعبي الدّيني. وليس مجانبة للحقيقة أو جحود الجزم بأن الأصوليين مازالوا يَحْيون بيومياتهم عيالا على النتاج الأخباري الثقافي التقليدي الدّارج.

إنّ كلّ ما تميز به الأصوليون الجدد خلال الثلاثين عاما الماضية عن أقرانهم، كان عدداً ضخما من الانشغالات المثيرة في الشأن السياسي التحزبي وتوابع الحشد الجماهيري المتضارب والمتصارع على غير هدى. وإذا ما أردنا أن نقيّم دوراً ثقافياً بين هذا الرّكام التحزّبي؛ فلا يعدو عن كونه تنظيراً لفحوى طرفة (خيسوا بلا ماي) المتداولة بين أهل القرى بعد الانقطاع المتكرر للمياه عنهم في مطلع عقد السبعينات.

تفيد الطرفة: أن أحد أبناء القرية وَجدَ في انقطاع الماء المتكرّر عن قريته تشويقاً لتحصيل الرزق وتكديساً له ديناراً من بعد دينار. صمّمّ صهريجاً صغيراً ألحقه بسيارته (الكَرْبَمعه)، وفي اليوم التالي قرّر جعْل سقاية الماء لمرةٍ واحدة تبدأ طليعتها من بعد صلاة ظهر كلّ يوم انطلاقا من البوابة الرئيسية للقرية، وصولاً إلى بوابتها الأخيرة، بلا عجلة أو فتور أو تمييز، حتى استأنست به القرية وأنس بها.

وعند طلوع فجر يوم الجمعة، شاءت ظروف الارتزاق أن يفدَ على القرية بشكل مفاجئ صهريجٌ آخر من قرية أخرى مجاورة، وعلى غير العادة التي ألفها أهل القرية، وفي دهشة منهم، ومن دون علم مسبق من السقاء الوافد الجديد بوقوع هذه القرية تحت تغطية صهريج السقاء إبنها، وانها ليست بحاجة للسقاية في مثل هذا الوقت من الصباح الباكر، فاليوم جمعة والناس مازالوا يغطون في نوم عميق. كرّر المرتزق الوافد نداءه عند بوابة القرية بأعلى صوته: (ماي .. ماي).

غطّى بندائه هذا الأزقة كافة، وما من أحدٍ يستجيب. بحّ صوته حتى وصل بصهريجه الى البوابة الأخيرة القريبة من آخر بيوت القرية. وعندها استولى الإحباط على نفَسه. هل يرجع خاوي الوفاض مذموما مدحورا؟! أخذته العزّة. استدار نحو بيوت القرية وصاح فيها بكلّ ما ادّخر من طاقة: ''سويت ليكم خير.. لكن ما أقول إلا: خيسوا بلا ماي''!

بداية المناوشات ونشوء نزعة التفرّد

في ذلك يبدو لنا الظاهر في مهام كلّ من الأصوليين والأخباريين. فهل يحقّ للتيار الأصولي الفقهي الأخباري أن يعتزّ بميراثه وتراثه القديم وتأصّله في البنية الاجتماعية والثقافية ولا حجّة أمام جموده الثقافي الظاهر إلا بمبرّر يتيم يُحتكر في حوادث انحسار أدواته الثقافية، وعدول الأغلبية من أهل البحرين لصالح الاجتهاد الأصولي المسيّس، ومن ثم تأهّل الأصوليين للاستحواذ على التمثيل السياسي الطائفي؟! وفي المقابل، هل يحقّ للتيار الفقهي الأصولي اليوم أن يستدير لبيئته الجديدة وينادي فيها بأعلى صوته: (سوينه ليكم خير بما قدّمنا في السياسة.. ولكن ما أقول إلا: خيسوا اليوم من غير وعي ثقافي)؟!

واقع الحال يشير إلى أنّ التيار الأخباري يعيب على التيار الأصولي منذ مراحل نموّه ولحظات التفوّق والسّيادة بين مناطق البحرين وقراها؛ فشله الذريع في إدراج الثقافة ضمن منهج تغيير مستقل أصيل خارج المعمول به عند منهج الأخبارية. وفوق ذلك، لم يدرج في ملاءته غير أرصدة سياسية محكمة بقيد التسويف غير المثمر، وبالغ في توظيف أظفاره بين مناوشات ومشاحنات حزبية جانبية لم تكن حاسمة لصالح الطائفة، وانتهت إلى جرّ التيار الدّيني العام إلى انسدادٍ حرْج في الرؤى والمسير، بحيث لن يقوى اليوم معه على النهوض الثقافي والأداء السياسي الفاعل إلا بمراجعاتٍ جادة يتقدّمها اعترافٌ بالقصور أو التقصير أو بكليهما. ثم اتسع الخرق على الراقع بين الأيام المتداولة!

بدأت المناوشاتُ الأولى مباشرة مع أولى مراحل التبلور على الصّعيد القيادي بين جهات التيار الفقهي الأصولي، ومن ثم انفصاله إلى شقين في مطلع الثمانينات. وعلى الفور أدخل الشق الأصولي ''الشيرازي'' غرف الإنعاش من بعد معركة لم تكن متكافئة، لا منطق فيها ولا عدل مطلقاً، أمام نظيره الشق ''الدّعوي'' الذي كان يترنّح في هويته الثقافية بين مباني الأصولية الوافدة والأخبارية القديمة ورموزهما العلمية والاجتماعية. ومنذ تلك اللحظة؛ حلّت على بلادنا أزمة التيار المرجعي الواحد المنفرد، وغاب عنها ميزانُ التعدّد الذي يُعدّ أهم ظاهرة إنسانية اجتماعية باعثة على التنافس الثقافي والاجتماعي وصناعة أحسن الخيارات والبدائل المؤسسية الحضارية. وعلى الفور حُرم مجتمعنا من أيّ دور ثقافي متأمّل للتيار الشيرازي الذي نازعته تبعاتُ الهزيمة الاجتماعية هذه ونازعها لمدة ربع قرن زادتها وقائعُ المواجهة المريرة مع المؤسسات الأمنية لسلطات قانون أمن الدولة سوءً فوق سوء.

ربما استأنس الشقّ الأصولي المتفرّد بين واقع الحال بأولى يوميات اغترابه بالساحة السياسية والاجتماعية ومن بعد تمكّنه في الحدّ من مظاهر التعدّد المرجعي وتبادل درجات التفوق السياسي، إلا أن يوميات الأنس هذه لم تلبث أن حاقت به سوءً، فاستدار إلى قوامه الجديد يقوّمه، فتراءت له نفسه محور سراب عازل بين اتجاهي استقطاب داخلي شديد جداً، لم يَمل له كثيراً ليزداد رسوخاً، حتى أفضت الأيام إلى تشتت قواه بين رمزيتين سياسيتين: متشدّدة سرية واقعية، ومفرطة الاعتدال بواقعية. ثم أسقط في يده على إثر تمدّد دوائر الاعتقال الشاملة التي شنت على كوادره مستتبعة لاتهامات داخلية خطيرة بالخذلان في العلاقة بين القواعد والكادر المتقدم من جهة، والرموز المتشددة والمعتدلة من جهة أخرى سواء بسواء.

الشيرازيون والدّعويون.. وما يُسمّى بالسّفارة

كادت هذه الانشغالات السّلبية الداخلية الطاحنة تطيح بكلّ رموزه الشخصية لولا تداركه الأمر بخيارين: نبذ العمل الحزبي وهياكله جملة وتفصيلاً، والعدول عنه الى الحال الجماهيرية المعتدلة الشفافة غير المكلفة، ثم استتبع ذلك خيار التصعيد في معركة ما يُسمّى بـ''السفارة'' والزّج بكلّ الحال الجماهيرية في أتون منازعاتها المرجعية.

فجمدت على الأثر فكرة صناعة واقع ثقافي أصولي مختلف يتناغم مع واقع الحال المستجد. لم يكن هذان الخياران الأصوليان منقذين البتة، لسببٍ وجيه وخطير مازال هذا التيار يدفع ثمنه باهظاً من جهوده وطاقاته وربما من منهج عمله السياسي الراهن، تمثّل في كون العدول الأول والتصعيد الآخر مستهدفاً الإطاحة برموز كانت إلى وقتٍ قريب قيادية، وتمثّل الصّف الأول والثاني لحزب الدعوة وجدت نفسها ضحية الخذلان التنظيمي والقيادي في ظروفٍ أمنية كانت صعبة للغاية، حيث رزحوا فيها تحت وطأة طاحونة العزل في السجون والمنافي على مرحلتين زمنيتين.

كان الإحباط والانطواء على الذات واستدرار سكينة الأحلام ملجأ أخيراً لنزلاء السجون منهم. وعندما ازداد حملهم الثقيل كيلاً؛ تقعَّدت بينهم فكرة ''السفارة'' وأخذت طريقها للتداول بين من تبقّى من عناصر الاستياء الحزبي، وبان رموزها على ردّ فعل عنيفٍ جداً ضدّ جهة انتمائها الحزبي المنحل وقيادته. وزاد في ضراوة التعاكس والتناوش بينهما وضوح حدود الخيارين الآنفي الذكر: نبذ التنظيم الحزبي بعد صفقة ترضية مع السّلطات الأمنية، وتوظيف الحال الجماهيرية ضد متبني ''السفارة'' من نظرائهم في الصف القيادي تمهيداً لبناء بديل سياسي عن ''الدعوة'' بمنأى عنهم. بعد ذلك، صُرفت طاقات البلاد الاجتماعية كلها بمعركة ''السفارة''، وبتوالي الفتاوى والخطب المناهضة لها. ثم عمّت أرجاء البلاد انتفاضة داخلية انشغل فيها التيار العام بمناوشاتٍ مع بعض الأقطاب القيادية الأخبارية ''الدعوية'' التي لجأت بدورها الى السلطات الأمنية طلباً لتوفير الحماية لمؤسساتها ولعناصرها، فزاد الشيخ سليمان المدني (رحمه الله تعالى) الى التيارات المتناوشة تياراً ثالثا مستقلا عزّز نفوذه في الوسط الرسمي للدّولة وتسلّم بعض جهات القضاء والأوقاف!

أتباع «الشّيرازي» والملاحقات المزدوجة

لم يكن أتباع المرجع الرّاحل السّيد محمّد الشيرازي على أحسن حال من رموز الصفوف الأولى لحزب الدعوة المنتمين لفكرة ''السفارة'' ولاتجاه الشيخ المدني، وذلك من حيث حجم الضّرر الذي لحق بهم. لم تصدر بحقهم فتاوى مضادة، ولم تعلن ضدهم إجراءات مقاطعة اجتماعية مناوئة لقاعدتهم وقيادتهم، ولكن جرت عليهم أحكام العزل الاجتماعي والنبذ الشرعي بأشد ضراوة وإيلام. ومن خلال تدابير خاصة لاستكمال منهج حكم العزل والنبذ الحزبي والشرعي ضد أتباع المرجع الشيرازي؛ أُلحِقت فكرة تأسيس ''السفارة'' بـتيارهم بلا وجه حق! وعلى أي حال، خفّت الآن حدة المناوشات في زحمة ''الاستحقاقات السياسية''، إلا آخرها: ''السفارة''. وعلى التلّ يقف الأخباريون انتظاراً لساعات الحسم من غيرهم!

كنتُ أمثّل أحد العناصر السياسية الشيرازية الذين عاصروا حرب النبذ والعزل منذ أولى أيامها. ولم يكن أحد من أتباع الشيرازي معنياً بفكرة ''السفارة''، لا من قريبٍ ولا من بعيد، لكونها شأن حزبي داخلي يختصّ به حزب الدعوة ورموزه، وعليهم وزر منشئها واقعاً، لأنها ولدت في أحضان قادته ورموزه واتخذت سبيلها بين الحشد من أبناء قاعدته سربا في أيامها الأولى، وكان عليهم يقع وجوب البحث عن الوسيلة الفضلى لحلّ معضلاتها، فصاحب الدار أدرى بها وبطرق حلّ مشكلاتها. ولكني كنتُ متيقنا آنذاك - بحكم خبراتي واطلاعي على تبعات العزل في السجون - بأنّ ''السفارة'' وُلِدتْ حال عاطفية أجّجتها الملازمة بين قسوة ظروف السجن والإحباط النفسي الناجم عن الاعتلال الحزبي، في مقابل الشعور اللطيف الذي تولّده سكينة الأحلام.

لم تأخذ هذه الحال العاطفية طريقها للتقعيد عند تلك المرحلة الخطيرة، فكان الأجدر بقيادات الدعوة تبني مبدأ الاحتواء والمعالجة الثقافية والروحية عوضاً عن استغلال فكرة مناهضة دعاة ''السفارة'' كوسيلة لمجاوزة مأزقهم الأمني والحزبي الاجتماعي والسياسي الحرج، وتخطّي مراحل متقدّمة من مشروع بناء الرمزية الجماهيرية الجديدة على وقع نبذ الحزبية تناغماً مع تحولات ولاية الفقيه؛ الوافد الفقهي السّياسي الجديد.

وقبل مرحلة تصعيد الخطابات في الحسينيات ضد جماعة ما يُسمّى بـ ''السفارة''، التقيتُ، ولمدة ثلاث ساعات تقريباً، بأحد الرّموز التنظيمية القيادية لحزب الدعوة ممن تابَ عن تبنّي فكرة ''السفارة''، ورفع لواء الحرب ضدّ دعاتها. فأخذتُ عنه تفاصيل رحلته، ابتداءً من مرحلة التبنّي وانتهاءً بمرحلة التوبة والانفصال عنها. فأقرّ في منتهى الحديث ما ارتآه نظري من قبل حول نشوء فكرة ''السفارة'' بوصفها حالاً عاطفية بسيطة جداً لم تكن لتستحق غير مراحل علاج تراتبي مناسب وتسوية حزبية داخلية مرضية، عوضاً عن كلّ هذه المناكفة والضجّة والفتاوى والحشد الجماهيري الهائل. ولكن فكرة مواجهة ''السفارة'' بالمقاطعة - بحسب رأي هذا الرّمز الدعوي - قد أتى على بنيتها القيادية الداخلية وقضى على أسسها، ولن تقوم لها قائمة من بعد ذلك قطعا!

ذكّرته بأيام النّضال الأولى، وكيف كانت علاقتنا الوثيقة المتبادلة في العمل الثقافي الجماهيري البسيط جداً رغم طغيان موجة التصعيد الخطير الذي أجّجته خلافات تياري المرجع ''الشيرازي'' و''الدعوة''، ولم يكن أحد منا يأبه بها وبمخلّفاتها السّلبية.

لقد عجبتُ لعلم الرّمز التنظيمي المذكور التفصيلي والقاطع بأحوال أتباع مدرسة المرجع الشيرازي، وهم من أكثر الناس تشدداً ضد الفكرة المجعولة حديثا بإعادة النظر في بعض ضرورات التشيع القاضية بفرض مراجعات ثقافية جذرية تاريخية وعقدية وتوابعهما الفكرية، تمهيداً لصناعة مبادئ التقريب المذهبي والاعتدال الحزبي السياسي. وترى هذه المدرسة الفقهية في المراجعات التي تبناها التيار الأصولي الساحق في البحرين قصوراً ثقافياً وعلة محكمة من علل ظهور الابتداع في العقيدة المهدوية وغيرها الأشد خطورة، كمعتقد وحدة الوجود والموجود الذي يمسّ جوهر عقيدة التوحيد ويُروّج اليوم له عبر وسائل إعلامية مختلفة. بل إنّ بعض المثقفين الشيرازيين المتشددين باتوا يعتقدون بأن مرشد الإخوان المسلمين الرّاحل حسن البنا هو المفكّر الحاكم على دعوات التجديد وإصلاح عقائد وفقه التشيع، ولا تعدو هذه الدعوات عن كونها خاضعة لمنهج الإخوان بشكل غير مباشر، وتخلو من أية أصالة ثقافية شيعية. وتأسيسا على ذلك، بات القول بوجود علاقة بين نشوء فكرة ''السفارة'' ودور''شيرازي'' اختلاقاً سياسياً وتجنيّاً وافتراء، وتطرّفاً مستهجنا في المناوشة إلى حدّ التمرد على النصّ الشرعي.

ما يُسمّى ''السّفارة''.. من العاطفيّة إلى الظاهرة

خالفتُ بعض قياسه في وجود نتائج قاضية للفتاوى والمقاطعة ضد جماعة ''السفارة'' يُعتدّ بها، لأن مجتمعنا كان يغطّ في سباتٍ وبيات شتوي، والبلاد كلها صيف لاهب، وإنْ صحا من سباته فعلى وقع جعجعة السياسة لا الوعي الثقافي، فمن أين للنتائج هذه أن تأتي؟! استبنت له كلّ الدلائل الملموسة القائلة بأن ''السفارة'' انتقلت على حدة الفتاوى المضادة وضجة المقاطعة من كونها ''حالاً عاطفية'' بسيطة مبنية على سكينة الأحلام ويسهل علاجها، إلى ''ظاهرة'' ثقافية واجتماعية خطيرة معقّدة تستعصي على الحلّ، وسيدفع ثمن تضخّمها شقّ التيار الأصولي الذي استجمع قواه بالأمس في مرحلة نشوء ''السفارة''، وألّب الشارع والمرجعيات في معركة الحسم ضدها. وعندها سيصدق حدس الأخبارية الذين اعتزلوا هذه المعركة! وقد تأكّد لي ذلك من خلال مشاهدات ميدانية اضطررتُ في منهج استحصالها إلى حضور ندوة عقدت في ''جمعية التجديد الثقافي'' مرافقاً لبعض الأصدقاء الشيرازيين، كانت لنائب مدير تحرير جريدة ''الوقت'' وعضو جمعية ''وعد'' السيد رضي الموسوي بعنوان ''دور الصحافة في تعزيز المواطنة ومعالجة الطائفية والتمييز''. فتأكّد لي من خلال استقراء المشاهدات هذه أن ''السفارة'' أصبحت ''ظاهرة'' بـ ''الفعل''، بعد أن كانت ''حلما عاطفيا'' مثيراً، لكني لم أكن لأقطع أمراً وأبتّ في شيءٍ يُوحي ببقاء فكرة ''السفارة'' على هيئتها الثقافية الأولى أو عدمها عند أعضاء الجمعية، فذلك أمر أجهله مطلقاً، وأفضّل أن يكون مرهوناً بلجنة استقراء واحتواء عمدتُها بعض العلماء المتخصصين أرجو تشكيلها بديلاً عن فكرة ''المقاطعة'' وامتداداً لمبدأ ''النصح'' الذي ورد في فتوى آية الله العظمى السيدمحمد رضا الكلبيكاني الصادرة في (24 ربيع الأول 1411هـ) وأصاب بها الواقع في قوله: ''ينبغي للمؤمنين أن ينصحوا الشخص المذكور ليرتدع عن أعماله وادعائه''. واعتقد أن كلفة المقاطعة والفتاوى على الصّعد الاجتماعية كانت ضخمة جداً، ولو أنها صُرفت على مبدأ الاحتواء والنصح في العقود الماضية لما شهدنا اليوم بدعة أو ظاهرة تمرّد على النص الشرعي وضروراته.

في جميع الأحوال، أقدّرُ كلّ المظاهر الأخيرة التي حاولت بسط سلوك التآخي مع تيار المرجع الشيرازي وتناسي هفوات الماضي، والاعتدال الأخير في الخطاب الموجّه لفتح أبواب اللقاء مع مختلف أطياف البيت الوطني الذي يحتضن الجميع في إطار جغرافي وتاريخي وزمني موحّد، نحن مسؤولون فيه بالدّرجة الأساسية عن صناعة وصياغة واقع يسمو بكثير على مناوشات الكسب السياسي غير المشروع. كما أرى أيضا في ''المناظرات'' و''النصح'' مع ما يُعرف بجماعة ''السفارة'' أو أعضاء جمعية ''التجديد'' وظيفة حضارية معقّدة تتجاوز بعناصرها وأدواتها - فضلاً عن نتائجها الإيجابية - وظيفة مشروع ''المقاطعة'' وأكثر منها دقة إذا ما أحسن الجميع استخدامها. فمتبنى ''المقاطعة'' ضد كلّ تيار منافس أو لا ينسجم مع النصّ الديني وضروراته لا يخرج في عالم الانفتاح الحضاري الكبير عن كونه مظهراً بارزاً من مظاهر العجز الثقافي والاجتماعي، وأكثر دلالة على مبتغى الهروب عن تحمل المسؤولية في أداء الواجب على أكمل وجه، وأجلى شهادة على الغياب الصارخ للكفاءة العلمية في ساعة لا تعزب فيها عن أحد فكرة أو نظرية ثقافية إذا ما سعى لكسبها من خلال هذا العدد الهائل من وسائل الاتصال.

 كما لا عذر للقائلين بأن مجتمعنا لم يكن يمتلك الوعي الكافي للتباين مع فكرة ''السفارة'' عند بدايات منشئها فكان اللجوء إلى الفتاوى والمقاطعة خير منقذ؛ لأن في هذا القول كشف لمسؤولية بناء ثقافي خطير عمرها يربو على العقدين من الزمن تكفي للشهادة على الهروب الكبير من قبل أصحاب الشأن الثقافي بين مختلف التيارات الأصولية والأخبارية عن الأداء الأمثل، والانحياز لصالح مناوشات سياسية ذهب ريحها وتفاقمت تبعاتها حتى أصابت مجتمعنا في مقتل، وخلّفته طريحاً على فراش الجمود والتواكل، ثم اكتفى كبار قومنا بين ذلك بفرض الوصاية والولاية. فأين هذا البناء، وأين مظاهره في واقع الحال، وهل وصل مجتمعنا منذ تلك المرحلة حتى الآن إلى مستوى ثقافي يؤهّله لكسب وعي تفصيلي بوقائع بيئته الاجتماعية ومحيطه الثقافي ويستقلّ به في مجيئه ورواحه؟! 

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 12/تشرين الثاني/2008 - 12/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م