الأوبامية وتقنية الـ"هولوغرام"

د. ظافر مقدادي

ليس حديثنا هنا عن الأسباب الدعائية و التنظيمية التي أدت الى فوز السيناتور باراك أوباما، فهذه قد تم تداولها باسهاب في وسائل الاعلام، ولكننا سنحاول تقصي الأسباب التاريخية الحضارية التي أفرزت الظاهرة الأوبامية ان صحّ التعبير. ونقصد بالأسباب التاريخية الحضارية عوامل التاريخ لجهة تعريفها على أنها قاطرات التاريخ ومحفّزاته، ولهذا يجب علينا التركيز على سمات أنماط الانتاج الحضاري في بداية القرن الحادي والعشرين وما نتج عنها من بنى فوقية للتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية وغيرها.

بداية، فلندع جانباً نظرية المؤامرة المحببة عربياً في تفسير حركة التاريخ، فهذه النظرية تناسب الانسان الكسول حركياً وفكرياً، إذ أنها تعطي جواباً شافياً لكل من لا يريد أن يبحث ويدرس ويحلل ويستنتج. ولندع جانباً أيضاً القول بأن أوباما ليس إلا "ديكوراً" سطحياً وأن من يحكم فعلاً هو "الأيدي الخفية"، فهذه المقولة تناسب من تعوّد على حكم الدكتاتوريات "غير الديكورية" الناصعة، ولم يتعوّد على أن العمل هو عمل فريق أو أفرقاء يتحلّون بثقافة فن الاختلاف وادارته.

قال الأقدمون إن "لكل زمان دولة ورجال" وهذا صحيح لجهة أن الزمان هو بُعد الفعل الحضاري، وهذا هو زمان أوباما. فقد نضجت المقدمات الحضارية على كافة مستوياتها لإنتاج الزمان الأوبامي، بكل ما تحمله كلمة "أوبامية" من سمات وأفكار حضارة القرن الحادي والعشرين.

 وعلينا أن لا ننسى أنه زمان سقوط مقولات "نهاية التاريخ" وتراجع أصحابها عنها. فهناك، في قلب الأكاديميات، تصاغ الأفكار التي يتم التوصل اليها نتيجة دراسة حركة التاريخ، سواء كانت هذه الأفكار تنتمي الى علم الاجتماع أو الاقتصاد او العلوم الطبيعية او الآداب. فهذه الأفكار الأكاديمية هي خلاصة علمية توضح لنا آفاق المستقبل. ومن يسر مع هذه الأفكار يصل، ولهذا وصل أوباما.

أثناء تغطية شبكة الـ"سي إن إن" للانتخابات استعملت تقنية علمية تُدعى الـ"هولوغرام"، وهي تقنية تذكرنا بالساحرة التي كانت تظهر فجأة حين تفرقع بأصابعها وتختفي حين تفرقع مرة أخرى. ولكن هذه الساحرة أصبحت حقيقة في ظل التطور الهائل في علم فيزياء الضوء وتطبيق أشعة الليزر على سطوح المُخزّنات الضوئية التي تسمح بالتخزين تحت السطح ما يُعطي للصورة بعداً ثالثاً، وكأن الصورة حقيقية كونها مُجسّمة. هذه التقنية كانت في السبعينات في بداياتها وقد ظهرت في بعض أفلام ومسلسلات الخيال العلمي. ولكن ما علاقة الهولوغرام بفوز أوباما؟ إنها علاقة عضوية، ففوز الهولوغرام يعني فوز أوباما والعكس صحيح.

تنهار الإمبراطوريات حين تُقصّر فلسفاتها وعقلياتها وبالتالي تشريعاتها واداراتها عن محاكاة التطور الحضاري، ونظرة سريعة على تاريخ الحضارات تثبت لنا أن حضارات رعوية قد تقهقرت لأنها لم تحاكي نمط الانتاج الزراعي، وحضارات زراعية قد دالت لأنها لم تحاكي النمط التجاري، وحضارات تجارية ارستقراطية انهارت لأنها لم تلحق بركب التطور العلمي التكنولوجي الجامح باتجاه التصنيع والرأسمالية البرجوازية (وهذا ينطبق على الحضارة الاسلامية بالمناسبة).

والآن نحن أمام انبثاق نمط حضاري جديد.. نحن على حافة "فتح" جديد (او Breakthrough) يذكرنا ببدايات عصر النهضة والتنوير ولكنه أعلى وأحدث. وما الأزمات والتحديات الماثلة الآن سوى ارهاصات هذا النمط الجديد. هذا الفتح الجديد طال الفيزياء أولاً كونها أم العلوم، ثم ألقى بظلاله على باقي العلوم الطبيعية والطب، ووجد له تطبيقات ونماذج في علوم الاجتماع والأديان والاقتصاد والأدب والفن، فلا يمكننا الفصل بين نظرية الانفجار العظيم وبين نظريات ميكانيكا الكم وبين هندسة الجينات، ولا بين نظرية الاحتمالات ومبدأ اللايقين وفوضى ما بعد الحداثة في الأدب والفن، ولا بين كل هذه ونظريات علم البيئة المعاصر. هذه معطيات حضارة القرن الجديد، ولا يستطيع الفكر المحافظ محاكاتها، وما تجربة الثماني سنوات الأخيرة سوى دليل على ذلك. إنها بحاجة الى فكر ليبرالي بالمفهوم الايجابي، الى فكر منفتح على احتمالات الحدوث والتغيير.

لقد فهم أوباما حقيقة هذه التطورات الحضارية وهذه الارهاصات، وهضم مجموعة الأفكار الأكاديمية التي رسمت ملامح العصر القادم، والتي تقف خلفه في الظلال وتدعمه، فرفع الشعار المناسب الذي احتقنت بداخله كل المعاني وهو شعار "التغيير"، فهو فعل حضاري ترمّز في شعار. ولم يكن أوباما نفسه سوى تجسيد هذا الشعار، فقد تماهى به، فأصبح صعباً التفريق بين الإثنين، لقد مدّ هذا الرجل الأسيض (الاسود-الابيض) والغنير (الغني-الفقير) شعار التغيير بالطاقة الحضارية اللازمة لإنجاحه. لهذا كان بمثابة الماء الكوثر الذي روى عطش الجماهير على كافة مستوياتها الطبقية والاثنية والدينية، باستثناء الفكر المحافظ الذي يحتاج الى فسحة زمنية للتأقلم مع كل ما هو جديد.  

لقد فاز أوباما لأنه الرجل الاستثنائي في زمن استثنائي: إنه زمن "الأوتار الفائقة" في الفيزياء، وزمن "هندسة الجينات" في البيولوجيا والطب، وزمن "أخلاقيات البيئة" في التعامل مع محيطنا الحيوي، وزمن "الطاقة النظيفة" في عالم ملوّث، وزمن "الانفتاح الديني والحرية الدينية" في ظل عالم معولم شبكياً، وزمن "الانثقاف على الآخر" في نهاية عصر التمييز العنصري وديكتاتورية الحاكم بأمر الله، وزمن "اقتصاديات التشارك" في ظل الأزمة الرأسمالية العالمية.

لم تصوّت أمريكا فقط لأوباما، بل صوت له العالم كله، فهذا هو زمن "الأوبامية" بامتياز. إن هذا العالم هو عالم أوباميّ.

* مجلة الفينيق الثقافية-هيوستن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 12/تشرين الثاني/2008 - 12/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م