دعاية انتخابية من  دون (إكسباير)

محمد علي جواد تقي 

تحركات هنا وهناك لتنشيط الدعاية الانتخابية تجري بعضها خلف الستار والبعض الآخر امام الملأ، ليحين الموعد غير المحدد حتى الان لانتخابات مجالس المحافظات؛ فالمرشحون والطامحون يطرقون الابواب ويقلبون وجه الرأي ليقدموا الصورة المطلوبة للمرشح المفترض منه إنابة الناخبين وابناء الشعب في مجالس المحافظات التي هي بالحقيقة مجالس تشريعية صغرى في حكومات محلية متفرعة عن السلطة التنفيذية والتشريعية الكبرى في العاصمة بغداد.

كل ذلك حسنُ، والاحسن هو ان يرى الناس افعال وأعمال المرشحين على الارض وليس اقوالهم في اطار الحملات الدعائية، لانهم عرضوا ـ بحكم التجربة ـ ان هذه الدعاية لها تاريخ صلاحية ـ إكسباير ـ ينتهي بانتفاء الحاجة وانخفاض ممر السباق نحو مقاعد المجلس، واعتقد جزماً ان تكاليف الحملات الدعائية للبعض قد تكفي لانشاء مدرسة واحدة على الاقل، او مستوصف او حديقة عامة او... والقائمة طويلة، وقد سمعنا غير مرة من الناس ان التكاليف الباهضة لاطعام مدعوين الى حفل ديني بهيج بامكانه تزويج عدد كبير من الشباب الطامح لاحراز نصف دينه والحفاظ على ما عنده من قيم وتقاليد اجتماعية محافظة؛ إذ للناس رأيهم، كما ان لهم حقوقهم.

والغريب حقاً ان نسمع هذه الايام من بعض الشخصيات ورغم مرور خمس سنوات على التغيير وخوض ما يسمى بـ(العملية السياسية)، ما يشبه تقاذف الكرة في الملعب الواحد، وكل طرف يحاول ان يسدد على الطرف الآخر ثم يطرب فرحاً بان: (الكرة في ملعبك)!؛ ابتداءً من معضلة الكهرباء والنقل ومروراً بالبناء والاعمار والخدمات وليس انتهاء بالتخصيصات المالية والامتيازات، فالبعض يتحدث عن تجاوز المحافظة الفلانية، والآخر يكشف عن استيلاء وهيمنة التيار الفلاني وهكذا الدوامة المفرغة تدور وليس فيها سوى المواطن الذي يكاد يضج ويصيح باني: (انا المسؤول والمقصر وليس المسؤول...)!

والحقيقة نقولها: ان كل الاعذار غير مقبولة على غياب المشاريع والاعمال التي كان ولا يزال العراق بحاجة لها في مختلف الميادين لاسيما في البنية التحتية بالنسبة للانسان والارض.. ولنا في تجارب الشعوب خير عبرة، منها ـ القريبة طبعاً ـ ايران ولبنان، حيث المسافة القريبة بين الناس ومسؤوليهم، ولنقل بين النخبة والجماهير، وهذان البلدان عاشا اسوأ الظروف السياسية والاقتصادية بسبب حروب استنزفت طاقاته وقدراته، لكن لا نجد أية مشكلة نفسية بين تيار او جهة سياسية او فكرية وبين جماهيرها..

وعليه فالناس عندنا لم يقتنعوا حتى الآن بان الزرقاوي كان سببا في عدم تفعيل حركة جمع النفايات وردم المستنقعات الموبوءة في عموم العاصمة بغداد ـ مثلاً ـ او ان الامريكيين حالوا دون إنشاء حديقة عامة في كربلاء المقدسة تزيل انعكاسات الكآبة والهموم عن نفوس الاطفال الابرياء.

سمعت ذات مرة ان احد المسؤولين الكبار صرح بملء فيه لمرجع ديني كان يزوره في مكتبه بانه مكبل ومقيد من قبل الامريكان ولا يسمحون له بالعمل وانجاز المطلوب، فهل ان تبرير كهذا مقبول من قبل المرجع، ويستحق ان يربت على كتف المسوؤل ويطيب من خاطره؟! علماً ان استباق الحديث عن المشاكل والقصور الموجود، غاية واضحة عند كل لبيب من وراء هذا التباكي، في كل الاحوال؛ اذا كان الجواب بالنفي وهو كذلك، فان رفض الناس والجماهير لهكذا تنصل وتخاذل يكون اكثر شدة وعتقاً، لان مرجع الدين يقوم ـ في معظم الاحيان ـ بدور الوسيط الخير بين الناس والحكومة لحل المشاكل ورفع الازمات بما يرضي الله تعالى ويرضي خلقه، اما اليوم فنحن امام عملية يطلق عليها منظروا السياسة بـ(العقد الاجتماعي)، اي ايجاد العلاقة المثالية بين الشعب والحكومة.

بعد كل ذلك ما الحل يا ترى؟ هل نستسلم لهذا الواقع الخاطئ ونترك كل شيء؟ كلا بالطبع.. اذ يمكننا البدء والانطلاق من اليوم، فكل ذو قوة سياسية وذو سعة مالية او ذو سندٍ من مؤسسة دينية وثقافية كبيرة، ان ينطلق في رحاب الجماهير ويقدم ما يتمكن من عطاء "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا"؛ فهذا العطاء هو الذي يحمل صاحبه الى حيث محل الثقة العالية في النفوس حتى وان كان عازفاً عن الظهور او الترشيخ او غير ذلك، وهذه هي الدعاية الصادقة والحقيقية وغير القابلة للتلف والفساد.

نعم.. هكذا يمكن ان نفس الظاهرة المحيرة في مجتمعاتنا، حيث الناس لا يتوجهون صوب شخص الا بعد ان يحمل على الاكتاف ميتاً او شهيداً! وتقرأ مؤلفاته وافكاره وتكتشف الكم الكبير من مسيراته واعماله الخيرية، لان المفقود كما المحظور، مرغوب؛ فاذا نجد لمحاضرات آية الله السيد محمد رضا الشيرازي ـ رحمه الله ـ أذان صاغية بعد وفاته فلأن الناس بحثت عنها لما فيها من التوجهات والاثارات العميقة في الاخلاق والعقيدة، وكذلك الحال بالنسبة لافكار ورؤى والده الراحل الامام السيد الشيرازي وشقيقه السيد الشهيد حسن الشيرازي وعلماء دين ومفكرين عظام آخرين، دخلوا قلوب وعقول الناس قبل ان يحملوهم ويثقلوهم بشيء، وكانت النتيجة ان يتبن الناس افكارهم ومشاريعهم كما يحملون جثامينهم في مسيرات مليونية وهم جدّ آسفين.

والعلم للجميع، اننا لا ندعو الناس لان ينتظروا موت العالم والمفكر والانسان المعطاء لنتعرف على شخصيته، بقدر ما نتمنى حقاً ان نجتمع ضمن مشاريع حضارية ومنجزات تخدم الدين والانسان، وما البقاء الا لله العلي العظيم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/تشرين الثاني/2008 - 11/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م