يعرف العلامة القرضاوي في كثير من الأوساط العربية على أنه رمز
من رموز التسامح والوسطية والإعتدال، وداعية إلى التيسير والتبشير
ونبذ االتطرف والغلووالتكفير. وقد تبنى في الفترة الأخيرة وخصوصا
بعد أحداث سبتمبر 2001 المريعة، مشاريع الحوار الاسلامي المسيحي
والتقارب المذهبي بين المسلمين، ويترأس حاليا إتحاد علماء
المسلمين.وكتب عددا من الكتب دعا فيها إلى الحوار والتقارب ونبذ
التكفير والتطرف. ولكن على الرغم من ذلك درج منذ فترة غير طويلة،
وتحديدا منذ 2006 على إدلاء بعض التصريحات والكلمات التي تحمل
خطابا معاكسا لروح الإعتدال والتسامح ومواجهة الغلو والتطرف.
فقد أخذ يطرح خطابا تبديعيا وتضليليا ضد من يخالفه في الفكر
والرأي، ويستدعي خطاب مؤرخي الفرق والمقالات والملل والنحل من
أمثال البغدادي والملطي وابن حزم وماشابه. فقد صرح في نقابة
الصحفيين المصريين في 31/8/2006، والتي نشرتها صحيفة المصري اليوم،
أي بعد مرور حوالي أسبوعين على الصمود الأسطوري للمقاومة الإسلامية
اللبنانية وانتصارها التاريخي على الصهاينة في حرب تموز، والتي
توقفت في 15/8/2006. وفي هذا الظرف الدقيق، وبشكل معاكس لإتجاه
الجماهير نحوالمقاومة وأمينها العام وقائدها المغوار، فاجأ الشيخ
القرضاوي الجماهير بتصريحاته التي حذر فيها مما أسماه بالإختراق
الشيعي لمصر ونسب إلى أغلبية المسلمين الشيعة بعض ما يردده متطرفوا
السلفية حول القرآن الكريم، ووصف السيد نصر الله بأنه لا يختلف عن
الشيعة المتعصبين، فهو متمسك بشيعته ومبادئه ويقول ياعلي.
وفي سنة 2008 عاود الشيخ فأدلى بتصريحات مماثلة وبشكل مثير
ولافت، ومن مصر العربية أيضا، حيث صوب نيرانه - ربما دون قصد -
تجاه الحوار الإسلامي الإسلامي وإلى التقارب بين مذاهب المسلمين
وفرقهم، وذلك باستدعاء الخطاب الموروث ضد الفرق الإسلامية كلها،
باستثناء فريقه الذي إعتبره مرجعية الحسم والحد الفاصل بين النجاة
والهلاك. فقد قال في لقاء صحفي نشر في صحيفة المصري اليوم، بتارخ
9/9/2008 "ان الشيعة مسلمون ولكنهم مبتدعون " وحذر مما أسماه
بمحاولاتهم إختراق المجتمعات السنية والتبشير بالتشيع، ثم نسب إلى
كثير منهم ما درج المتطرفون والتكفيريون نسبته إليهم حول القرآن
الكريم والسنة النبوية المطهرة، طبقا لأسلوب الملازمات.
وفي بيانه الذي أصدره، إثر الإنتقادات التي وجهت إليه، والذي
أكد فيه على وحدة الأمة الأسلامية بكل فرقها ومذاهبها، و لكن سرعان
ما حكم عليها كلها بالهلاك، باستثناء فريق محدد، فقال " هناك فرقة
واحدة من الفرق التي جاء بها الحديث "حديث الفرقة الناجية " وهي
وحدها الناجية، وكل الفرق هالكة أوضالة " وأضاف " كل فرقة تعتقد في
نفسها انها الناجية، والباقي في ضلال " وأردف " ونحن أهل السنة
نوقن بأننا وحدنا الفرقة الناجية وكل الفرق وقعت في البدع
والضلالات، وعلى هذا الأساس قلت عن الشيعة انهم مبتدعون لا كفار".
والواقع ان أحاديث الشيخ القرضاوي عن فرق المسلمين وعن المسلمين
الإمامية بدت متعارضة وغير متسقة مع منهجه، بالإضافة إلى ان بعض
آرائه حول حديث الإفتراق وقعت في عدد من المفارقات، منها :
1- إن إطلاق إتهامات التضليل والتبديع في الدنيا وإصدار أحكام
بالهلاك الأخروي، وبشكل جماعي على معظم فرق المسلمين، باستثناء
فرقة محددة، لا ينسجم مع منهج الإعتدال والتسامح الذي يتبناه الشيخ،
بل إنه أكثر إنسجاما مع منهج التطرف والتكفير، حيث يمهد الأرضية
الفكرية لدعاة التطرف لكي يبنوا عليه تنظيراتهم التكفيرية.
2-لقد سبق للشيخ القرضاوي أن بحث حديث الإفتراق، في أكثر من
كتاب وفتوى، كما في كتاب الصحوة الإسلامية في التسعينات، وفي فتواه
الصادرة ردا على سؤال جاءه من الكويت سنة 2001، وفي كتابه حول
التاريخ الإسلامي سنة 2005، وقد تناول فيها بالبحث والنقد طرق هذا
الحديث، ونقد الذين قووه بكثرة الطرق، وانتهى إلى ضعفه. وأشار الى
ان عددا من العلماء شككوا في الزيادة التي مفادها "كلها في النار
إلا واحدة " ونقل عن العلامة ابن الوزير، انها زيادة فاسدة، وعن
ابن حزم الظاهري، بأنها موضوعة. وبناء عليه كيف جاز له أن يستند
على معطيات هذا الحديث ويقرر بضلالة وهلاك جميع فرق المسلمين
باستثناء فريق محدد ؟
3-إن من الإشكالات التي وجهها فضيلته على متن حديث الفرقة
الناجية، هو قوله بالحرف "وهناك إشكال أي إشكال في الحكم بافتراق
الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق
كلها هالكة وفي النار، إلا واحدة منها، وهو يفتح بابا لأن تدعي كل
فرقة انها الناجية وان غيرها الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق
للأمة وطعن لبعضها في بعض مما يضعفها جميعا ويقوي عدوها عليها
ويغريه بها " والسؤال الذي يطرح، ما الذي حدا بالدكتور القرضاوي
إلى أن يضرب بكل تلكم المناقشات المتينة والحجج القوية التي تنبض
بروح التسامح والإعتدال والحرص على وحدة الأمة وقوتها في وقت هي في
أمس الحاجة إلى التماسك والتلاحم؟
4-وفي ضوء ما سبق، فمن حق كل فرد مسلم أن يعتب على فضيلة
القرضاوي، لأنه بإطلاقه إتهامات التبديع والتضليل والحكم على كل
فرق الأمة بالهلاك ، باستثناء واحدة منها، قد فتح الباب واسعا
للمتشددين من مختلف الفئات، ممن لا يؤمنون بقضية وحدة الأمة وضرورة
التقارب بين مذاهبها وفرقها، لقد فتح أمامهم بابا واسعا لتبادل
التبديع والتضليل. إن أحاديثه قدمت لهم الذرائع لإصدار أحكام
الهلاك الأخروي على غيرهم خصوصا بعد أن غدت الكتب الصفراء في
متناول الجميع، وصار بوسع كل فئة أن تستدعي ما يروق لها من آراء
وإتهامات ضد غيرها، من كتب التراث، مثل، الفصل لابن حزم، والفتاوى
الحديثية لابن حجر، وشفاء السقام للسبكي،والمنهاج لابن تيمية
والصواعق المرسلة للتستري والمحرقة لابن حجر ، وما شابه، وعندها،
لا قدر الله، سوف تعم نيران الفتنة وتأكل الأخضر واليابس !
5-من جهة أخرى،لا يظنن ظان بأن نيران فتنة التضليل والتبديع إن
شبت،بأنها ستطال بعض فرق الأمة دون أخرى. والتاريخ الماضي والحاضر
ماثل أمامنا، فلقد شهد الدكتور القرضاوي ظاهرة التكفير كيف ظهرت في
مصر العربية في السبعينات، واستهدفت المجتمعات السنية، كما شهد
الجميع ما حدث في الجزائر، وما يحدث في القارة الهندية بين الفينة
والأخرى، وما وضع العراق عنا ببعيد، بل وكذلك بعض المجتمعات
العربية الأخرى،التي صارت تعاني من هذه الظاهرة العمياء.
أما التاريخ الماضي، فليس خافيا على المتابعين، ما كان بين
الأشعرية وأهل الحديث من فتن، وقد إمتدت إلى أدبيات السلفية في هذه
الأيام، وكذلك الحال ما بين كثير من طرق الصوفية والسلفية وكذلك في
أدبياتهم المعاصرة، وما كان بين الظاهرية والأشعرية والحنفية، وما
كان من صراع حاد بين أتباع المذاهب الأربعة، حتى بلغت الحالة
ببعضهم إلى التضليل والتفسيق ووضع الأحاديث ضد بعضها البعض، هذا
إلى جانب ما بين السنة والشيعة والخوارج من خلافات تاريخية وفكرية
غير قليلة. فهل يراد إستدعاء هذا التاريخ ؟ أم المطلوب من العقلاء
والحكماء من كل المذاهب الإفادة من تجارب الماضي والعمل على سد هذه
الفجوات والثغرات بين المسلمين ؟
6-كما انه لا بد من وضع حد لمنهج التضليل والتبديع وإصدار أحكام
الهلاك على كل فرق الأمة وحكر النجاة لواحدة منها، لأن فتح هذا
الباب ينشر ا البغضاء والكراهية بين أهل القبلة، وبالتالي يضعف
الأمة، بالإضافة إلى ان الغلاة والمتطرفين سيتجاوزونه إلى التكفير
ثم إباحة الدماء وتعدي الحرمات - لا قدر الله - وقد حصلت نماذج من
ذلك في أكثر من فترة من التاريخ.
وتأسيسا على ذلك، فالمرجو من القيادات الفكرية والدينية
والتربوية و السياسية والإعلامية في الأمة، بالأخص من قادة التسامح
ورادة التقارب من جميع المذاهب، أن يتجاوزوا المطبات والعقبات التي
تعترض طريقهم بحكمة، وأن لا يتفاجأوا بها ولا يضيقوا بها ذرعا، لأن
المشوار طويل ويحتاج إلى كثير من الإنضباط والصبر والتحلي بالوعي
واليقظة.
* كاتب عماني |