العديد من الأصدقاء والأشخاص سواء عبر البريد الالكتروني أو
بالاتصال المباشر، طلبوا مني ومن غيري ربما توضيح وتفسير ما يجري
من جنون غير مسبوق في الأسواق المالية الدولية والتي بلغت خسائرها
وفقا لتقديرات مدير عام صندوق النقد الدولي 1.4 تريليون في أسبوع
واحد قابلة للزيادة.
وحتى نتمكن من الاحاطة المعقولة بالأزمة، في مقالٍ محدود
الكلمات والمساحة، لا بد من أن نشير أولا الى الأسباب المباشرة –
أي القشة التي قصمت ظهر البعير – وغير المباشرة- من خلال التعرف
على البيئة التي وقعت فيها الأزمة. فالأسباب المباشرة – كما يقولون
– ليست هي جوهر المشكلة وأساسها وإنما هي تحصيل أو تتويج أو تجميع
للبيئة الاقتصادية التي أفرزت هذه المشكلة. فالسبب المباشر – أو
القشة التي قصمت ظهر البعير – كان توقف أو عجز المواطنين
الأمريكيين المقدر عددهم بنحو "3" ملايين مقترض عن تسديد أقساط
منازلهم التي اشتروها من مكاتب وشركات الرهن العقاري المنتشرة
بكثرة في كافة الولايات المتحدة الأمريكية. وبافتراض منطقي ومعقول
جدا، بأن سعر الوحدة السكنية يصل الى 200 ألف دولار، فهذا يعني أن
حجم أزمة الرهن العقاري يصل إلى 600 مليار$. وفي العادة فإن شركات
التمويل العقاري تحصل على تمويل بالقيمة ذاتها من المصارف
الاستثمارية المتخصصة بالتمويل العقاري مثل" ميريل لنش" و " ليمان
برذارز" و "واشنطن ميوتشل"، التي تقوم بما يسمى التوريق أو التسنيد،
أي تحويلها الى سندات وبيعها للمستثمرين بضمانة شركات الرهن
العقاري وتدفق التسديدات من المقترضين مقابل فوائد مجزية.
وبالعادة أيضا فإن المصارف الاستثمارية تسوق هذه السندات في
الأسواق المالية الدولية حيث يتم تداولها بيعا وشراءً كأي ورقة
مالية. وهنا أول أسباب الأزمة المباشرة. ولان أبرز مستثمري أو
مشتري هذه السندات (الأوراق المالية) هم الأشخاص والصناديق والدول
التي تملك فوائض مالية كبيرة وهؤلاء موجودون في اليابان والصين
ودول الخليج العربي وأوروبا والقليل في روسيا وبعض الدول الآسيوية،
فإن هذه الصناديق أو الدول تقوم بشراء الأوراق المالية بفوائد
مجزية ومشجعة وتصنفها ضمن أصولها الاستثمارية الآمنة والمدرة
للعائد والربح. وعند حلول موعد استحقاقها تقوم المصارف الاستثمارية
بدفع قيمتها مع الفوائد الى المستثمرين، بغض النظر عن التزام
المقترضين الأمريكيين بتسديد الأقساط لشركات الرهن العقاري أم لا.
ومما يزيد في الطين بلة – كما يقولون- أن الحكومة أو الخزينة
الأمريكية تقترض من الأسواق الدولية عبر إصدار ما يسمى بالسندات
السيادية المسحوبة على الخزينة الفيدرالية، مما يعني أن أسواق
الاقتراض الأمريكية (الرسمية والخاصة) مفتوحة شهيتها وبلا حدود
للاقتراض.
وأمام محدودية أو قدرة المصارف الاستثمارية الأمريكية
بالمقارنة مع وزارة الخزينة المضمونة بنسبة 100%، فإن من شأن ذلك
أن يحد من قدرة المصارف الاستثمارية على الاقتراض، مما يضعها في
مشكلة أو عجز عن الحصول على أموال إضافية لتسديد قيمة الأوراق
المالية(السندات) التي أصدرتها للمستثمرين. من هنا أعلنت مصارف
ميريل لانش – المصنف رابعا في الولايات المتحدة – وليمان برذرز
وواشنطن ميتشويل عجزها عن الوفاء وبالتالي توقفها عن تسديد قيمة
السندات وفوائدها للمستثمرين. وقد كرت المسبحة فيما بعد، فهذه هي
الأسباب المباشرة لأزمة الرهن العقاري باختصار شديد.
الاسباب غير المباشرة
وباعتقادي فهي مصدر ومولد الأسباب المباشرة، لأنها تعكس البيئة
الاستثمارية والتمويلية والاقراضية والمصرفية التي تعمل في إطاره
المؤسسات والمصارف والشركات فهي الأساس بل ومصدر القشة التي قصمت
ظهر بعير التمويل العقاري الأمريكي وهي الآن في طريقها لقصم ظهر
بطاقات سوق الائتمان وصناديق الاستثمار – وقروض السيارات مستفيدة
من البيئة الاستثمارية السلبية والضارة التي أفرزتها السياسات
الحكومية الأمريكية المتعاقبة على امتداد العقود الماضية.
نعلم جميعا بأن الولايات المتحدة الأمريكية اكبر دولة مدينة في
العالم. فمن أصل 45 تريليون دولار قيمة وحجم السندات السيادية التي
تصدر عن البنوك المركزية و/أو وزارات المالية لصالح الدولة منها 25
تريليون $ تخص الولايات المتحدة الأمريكية فقط. هذا عدا السندات
التي تصدرها الشركات والمؤسسات والمصارف الأمريكية للحصول على قروض
طويلة الأجل تمتد لفترات تتراوح ما بين 10-20 سنة من الأسواق
المالية الدولية.
وجميعا ندرك أيضا بأن سوق إصدار السندات من القطاع الخاص اكبر
إن لم يكن مساويا للسندات السيادية. ووفقا للمعلومات الإحصائية
التي يصدرها مجلس الاحتياطي الفيدرالي ( البنك المركزي
الأمريكي) ووزارة المالية فإن حجم الإنفاق الأمريكي يتجه صعودا
وبشكل غير مسبوق بفعل الحروب المتنقلة التي تقودها الولايات
المتحدة في العالم.
فبعد أن كانت تنفق 166مليار$ عام 2007 ارتفع الى 195مليار حتى
الأشهر التسعة من العام 2008، وبحسبة بسيطة فإن الولايات المتحدة
الأمريكية كانت تنفق 245 ألف$ في الدقيقة عام 2007 ارتفع الى 371
ألف$ في الدقيقة العام الحالي(2008)، أي أن الولايات المتحدة تنفق
نحو مليون$ كل"3" دقائق. وكل هذا يتم على الحروب الخارجية في
العراق وأفغانستان ومساعدات عسكرية للدول الحليفة لها، ومما يزيد
من ثقل الإنفاق أنه استهلاكي غير مسترد ماليا. فكل الذي أنفق في
العراق منذ اجتياحه وحتى الآن وقبلها في أفغانستان.. ألخ ذهب أدراج
الرياح بدون فائدة. ليس هذا فحسب، بل أن الولايات المتحدة هي
الدولة الوحيدة في العالم التي تطبع النقود بدون حسيب أو رقيب سوى
لقوة اقتصادها. فالذي فعلته الولايات المتحدة انها نقلت عبء
المحافظة على الدولار وقيمته على الغير. فعلى سبيل المثال ليس من
مصلحة اليابان والصين الشعبية تراجع قيمة الدولار أو النتائج
الناجمة عن الأزمة الحالية.
فاليابان أول دولة مشترية( مستثمرة) بسندات الخزينة السيادية
الأمريكية – عدا تلك الصادرة عن القطاع الخاص – فهي تملك سندات
سيادية( خزينة) بمبلغ 593 مليار$ أما الصين فتملك 518 مليار$. وقد
اتفقت الدولتين مع وزارة الخزانة في مفاوضات عقدت على عجل على هامش
الأزمة، على عدم قيامهما بطرحها للبيع في البورصات الدولية. وإذا
أضفنا إلى ذلك ما تقوم به الشركات والمؤسسات والمصارف اليابانية
والصينية مع نظرائها في الولايات المتحدة لأدركنا على الفور أنهما
من اكبر الدول تضررا بعد الاتحاد الأوروبي من الأزمة الحالية.
الأزمات القادمة أعظم
يواجه الاقتصاد الأمريكي مجموعة أزمات متوقعة الحدوث خلال العقد
القادم. فالذي حصل في سوق تمويل الرهن العقاري لم يكن إلا البداية
في سلسلة متصلة من الأزمات القاسية والتي ستعصف بالاقتصاد الأمريكي
بسبب السياسات الطائشة التي تتبع من قبل البيت الأبيض في أرجاء
العالم. ولأن الأزمات متصلة ومترابطة فإن وقوع واحدة يعتبر مقدمة
لوقوع الأخرى. وابرز الأزمات (متوقعة) الحدوث في العقد القادم هي:
1- سوق المشتقات المالية بأنواعها والمقدر قيمتها بنحو 480
تريليون$.
2- صناديق الاستثمار الأمريكية المخولة بشراء أو الاستثمار في
كافة المجالات ومن ضمنها سندات تمويل الرهن العقاري وغيره وقد قدرت
قيمتها بنحو 3.3 تريليون$.
3- بطاقات الائتمان (الفيزا والماستر كارت وغيرهما) والمقدر
عبئها بنحو 900 مليار$ حتى تاريخه.
4- قروض السيارات وهي كبيرة جدا، حيث من النادر أن يقوم أمريكي
بشراء سيارته نقدا ومما يعني أن الأزمة سوف تصيب صناعات عديدة
مرتبطة بإنتاج وتصدير السيارات في الداخل والخارج فور وقوعها. أي
توقف المشترين عن دفع الأقساط.
5- القروض المقدمة للطلبة أثناء فترة الدراسة والتقدير الأولي
المتوفر والذي يحتاج الى تدقيق هو 50 مليار$.
وعلينا أن ندرك بأن أزمة تمويل الرهن العقاري في الولايات
المتحدة ما هي إلا البداية وسيتبعها ارتدادات تماثل تلك التي تعقب
الزلزال والتي في أحيان كثيرة تكون نتائجها أكثر تدميرا وضررا من
الهزة الأولى، لأنها تحول دون الإنقاذ والقيام بالإسعاف أو بسبب
الخشية من وقوعها يتأخر الإنقاذ وتقديم الحلول الناجعة خشية أن
تذهب هباءً.
من أجل هذا فإن ما يحصل في البورصات الأوروبية والآسيوية
والخليجية والإسرائيلية ليست أكثر من ردات فعل أولية على الرغم من
التفاوت النسبي القائم بين كل بورصة وأخرى. لكن بحكم كون الأسواق
المالية عبارة عن سلسلة متصلة فإنه من المستحيل أن لا تتضرر
الأسواق الإقليمية والدولية الأخرى. لكن أكبر تلك الأضرار سوف تلحق
أولا بالأسواق الأوروبية فاليابانية ومن ثم تنتقل الى باقي الأسواق.
وأمام الأزمات التي تعاني منها المصارف الأمريكية والأوروبية فمن
غير المستبعد أن تبدأ قطاعات أخرى بالتأثر السلبي. لقد ضخت
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا والصين خلال
أسبوع واحد ما يفوق 330 مليار دولار في الاسواق عبر المصارف
والمؤسسات المتخصصة في محاولة لتهدئة النفوس وتقليص الذعر والقلق
الذي بدأ ينتشر الى عموم المستثمرين. وقد بدأت الأسواق العقارية
بالتأثر المباشر والسريع بالأزمة حيث انخفضت أسعار المساكن في
الولايات المتحدة وأوروبا وخاصة في بريطانيا بنسبة 35% عن مستواها
أي بنحو 55 ألف $ لكل وحدة.
أما فيما يتعلق بسوق المواد الغذائية وطبقا لما أعلنته أسواق
ماركس آندسبنسر فإن مبيعاتها الغذائية قد انخفضت بنسبة 6% كما لوحظ
بانخفاض الطلب على السلع الغذائية ذات الثمن المرتفع وازدياده على
المواد الرخيصة بشكل ملحوظ، وفيما يتعلق بالأسواق العامة
الاستهلاكية فقد حذر أحد المختصين بالإفلاس بأن نحو 323 من تجار
التجزئة البريطانية قد تم إدراجهم على اللائحة التحذيرية، حيث أن
70% منهم سيفشلون في أعمالهم في العام القادم. وسوف تنتقل الأزمة
إلى قطاع التصنيع مما ينذر بشيوع انتشار البطالة والكساد.
وحتى ندرك حجم الخسارة المتأتية عن إفلاس المصارف فإنه يكفي أن
نعطي مثالين الأول عن بنك ليمان برذارز حيث قدرت خسارته بنحو
120مليار$، وقد تبين بأن مجموع موجوداته (أصوله) لم تزد عن 640
مليار$ أما حجم ديونه للغير فقد بلغت 615 مليار$ قسم كبير منها
عبارة عن سندات أصدرها للمستثمرين.
أما البنك الثاني واشنطن ميتشويل Washington mutual فإن
خسارته قدرت بـ 30 مليار$ علما بأن أصوله بلغت 307 مليارات$ ولديه
ودائع للجمهور بمبلغ 188مليار$ وكلا المصرفين قد أفلسا وهذا يعني
أن السلطات المتولية أمرهما ستتولى أمر الودائع وتسديد قيمة
السندات...الخ هذا اذا كانت القوانين في الولايات المتحدة تسمح
بذلك.
الأزمة بالأساس هي أزمة مالية أمريكية ناجمة عن أسلوب النموذج
الرأسمالي الأمريكي. هذا ما ذكرته جريدة الواشنطن بوست الأمريكية
والتي عنونت صفحتها بعبارة : أهي نهاية الرأسمالية الأمريكية. فقد
كتب انتوني فاجولا مقالا تحليليا عميقا تحت عنوان النموذج
الرأسمالي الأمريكي يقع ضحية أسوأ أزمة مالية منذ الكساد الكبير.
حيث أشار فيه إلى أن الامتعاض والاستياء يتزايد من النموذج
الرأسمالي الأمريكي مقابل النموذج الألماني مثلا، لازدراء النظام
المالي الأمريكي بكافة الأنظمة القائمة وميله لتمجيد المخاطر بعكس
الثاني. فنقل الدماء الى مريض ينزف بشدة، لن يفيده بشيء، فالمطلوب
وقف النزيف الداخلي أولا عبر عمليات جراحية قاسية ومؤلمة وبعد ذلك
يمكن للدم المنقول إليه أن يكفي ويحقق أهدافه.
الإنفاق الأمريكي غير العادي على الحروب لم يعد ممكنا
الاستمرار به على نفس معدلاته الحالية، فقد حانت ساعة الحقيقة.
البداية كانت في سوق تمويل الرهن العقاري وهو بسيط أمام بطاقات سوق
الائتمان وصناديق الاستثمار والمشتقات المالية ؟ فكيف ستتم
المعالجة ؟! من اجل ذلك نقول أنه قد حان وقت وزمن طرح مفهوم جديد
للنظام المالي الدولي يخلف ما تم الاتفاق عليه في يريتون وودز عقب
الحرب العالمية الثانية. وعلى جميع الأحوال فقد خرقت الولايات
المتحدة أسس هذا النظام عام 1972 حينما أقدم الرئيس نيكسون على
إلغاء قاعدة الدولار /الذهب، ( تحويل الدولار الى ذهب بسعر 35.25$/
اونصة).
لقد كشفت الأزمة المالية الأمريكية والتداعيات الدولية التي
نجمت عنها، بأن عصر استئثار دولة ما بالاقتصاد العالمي قد ولى بلا
رجعة، وأن إمكانية التنصل من المسؤولية ونقل عبئها على الغير، لم
يعد وسيلة ناجعة لمواجهة الموقف وطرح الحلول الحالية والمستقبلية.
العالم بحاجة إلى نظام مالي جديد لا يستأثر أو يحتكر فيه طرف ما
مهما كان، مفاتيح وتواقيت خلق الأزمات بناء على مصالحه هو أو سلوكه
وحده. ذلك هو ما يجب التفكير به جديا في المرحلة القادمة.
Kirresh_mohammed47@yahoo.com |