قراءة في المجموعة القصصية: "في انتظار الغريب"

محمود البياتي وتصوير الوحدة وآثارها في النفس والجسد

 

 

 

 

الكتاب: مجموعة قصصية "في انتظار الغريب"

المؤلف: محمود البياتي

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر

عدد الصفحات: 237 - قطع متوسط

 

 

 

 

شبكة النبأ: للكاتب العراقي محمود البياتي كما تعكس مجموعته القصصية الجديدة "في انتظار الغريب" ظرف حتى في المبكي والمفجع بل خاصة حيث يصورهما.. وسخرية تلتقط اللحظة فتجعلها نافذة تطل على الكابوس او باباً له.

وفي كتابته تصوير دائم للوحدة واثارها في النفس والجسد وتصوير دقيق دائم الحضور للخيبات والتناقضات اليومية وللامور المزعجة والغريبة احيانا التي تلاحقنا وتقوى هذه الملاحقة عندما نحاول تجنبها.

انه بارع في التقاط لحظات الغرابة والتناقضات هذه وتصويرها في حزن مضحك وفي ضحك حزين احيانا اخرى.

وفي قراءة قصصه الممتعة القصيرة والقصيرة جدا احيانا قد يجد القارىء نفسه في اجواء لا الكوابيس فحسب بل الاحلام المضحكة ايضا والبعيدة الغور. وخلال ذلك يجد في بعض ملامح اسلوبه وقسماته مشابه تعيد إلى الاذهان ودون انتقاص من هذا الاسلوب اسماء منها فرانس كافكا وايضا "شقيق" كافكا الروحي سامويل بيكيت كما يقول البياتي ومنها ايضا في المجال العربي بعض ما كتبه ابراهيم عبد القادر المازني في زمنه ويوسف الشاروني في زمننا خاصة في "مطاردة منتصف الليل" بصرف النظر عما تذكرنا هي ذاتها.

كتاب محمود البياتي ورد في 237 صفحة متوسطة القطع وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وانطوى على 46 عنوانا "قصصيا".

حمل غلاف المجموعة مقتطفات نقدية تناولت نتاج البياتي ومن ذلك كلام ف. جاف في مجلة الكتب الاجنبية وهي مجلة تصدر في السويد وقد جاء في هذا الكلام "للكاتب محمود البياتي قدرة فريدة على القبض على الاساسيات وهو يطرح اسئلة وجودية باسلوب آسر." بحسب تقرير لـ رويترز.

وقالت الناقدة اللبنانية يمنى العيد "هكذا تقول القصة العميق من المعاناة بالبسيط من الحدث الفني." ومن قول اعتدال رافع في صحيفة تشرين السورية و"الواح" الاسبانية عن البياتي وتصويره للتشرد واللجوء الى بلدان العالم هربا من الظلم ومن الموت "استطاع الكاتب بلغته الشفافة الذابحة ان يجسد لنا معاناة انسان هج من الموت ليقع فريسة ما هو اشد هولا من الموت."

يقول محمود البياتي في مقدمة المجموعة كلاما نفاذا في ايضاحاته واضاءاته على "اغترابه" واقامته سنوات عديدة في تشيكوسلوفاكيا ثم في السويد وكذلك على "غربة" شخصياته وحتى على بعض سمات نتاجه ويوحي بتبنيه فكرة "الصمت" و"الفراغ" المدويين.

ومن هذا القول ما استهل به المقدمة.. "رافقني شبح فرانس كافكا نحو عشرين عاما داخل العاصمة التشيكية براغ... الكاتب الذي اعتبره شقيق كافكا الروحي (الروائي والمسرحي الايرلندي) صوموئيل بيكيت (1906-1989) المشكلة الجوهرية ذاتها.. اغتراب الانسان والوجود الملتبس.. بطله مقهور.. ضائع.. عاجز.. ومعزول كسمكة خرساء في حوض ضيق.

"ارى في "الصمت" غير الاعتباطي الملازم لمسرح بيكيت وظيفة تشبه وظيفة "الفراغ" في منحوتات جياكوميتي "في اشارة الى البرتو جياكوميتي (1901- 1966) النحات السويسري الذي ارتبط اسمه بالحركة السريالية.

تحت عنوان "العكس يحدث دائما" ترد قصص بعناوين فرعية ونلتقي فيها او في كثير منها فكرة بل حالة انسانية ومواقف من الحياة تتشابه وان وردت في البسة فنية مختلفة.

ما جاء تحت العنوان الفرعي الاول "دموع" يمثل من ناحية نموذجا حديثا نوعا ما في روايات الكتاب العرب عن الغرب اذ هو مثلا نقيض لنموذجي توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق" محسن وسوزي اللذين بدا انه صورهما "بالابيض والاسود".اما عند البياتي فربما كانت الالوان تتبادل الادوار من حيث تصوير الكاتب للشرق والغرب او فلنقل "لنا" و"للاخرين".

يقول البياتي "اترك بغداد الى براغ لدراسة علم النفس. اتعرف الى فتاة بوهيمية في مقهى. تحبني في قوة واخلاص. اخونها. تذرف الدموع وتنهي العلاقة. اتعرف في بار الى راقصة من تايلند. تحبني بقوة واخلاص. اخونها. تذرف الدموع وتنهي العلاقة. اتعرف الى عربية في لقاء حول الديانات وحقوق الانسان. تخونني. تذرف الدموع وتنهي العلاقة."

في "تأخير" تصوير لضياع من النوع الذي يتخذ شكل النسيان المتمادي لامور يومية. وفي "اثلام" وصف مضحك وواقعي من يوميات غريبة في الحياة ذات جذور نفسية كما يبدو. التقطها وصورها فكأنه يتحدث عن احداث يومية لكثير منا يقول فيها مثلا "اذا استخدمت في مناسبة واحدة قدحين احدهما غال والثاني رخيص.. ينكسر الغالي. اكسر في الشهرين عشرة اقداح ولكنني اجهل لماذا تعمر الاقداح الارخص. فما ان امسك برفق قدح كريستال .. ينكسر او يفلت من قبضتي وكأنه صابون لزج اما القدح العادي المثلوم المكروه فيبقى الى الابد..."

في قصة "الحصار" تصوير نفاذ رائع للوحدة والارتياب والاوهام التي تنتج عنهما وللخوف المتبادل على "وهميته". وهو كذلك تصوير رمزي لوضع "وطني" عام نستطيع ان نقرأ فيه العراق او اي مكان اخر تنشب فيه "حروب الاشقاء".

جار "قناص" يمنع البطل من الخروج من الدار فاذا خرج اطلق عليه النار. لم ينفع الكلام ولا محاولات الصداقة والمودة والاحتجاج في ردعه فاضطر صاحبنا الى احتجاز نفسه في منزله. يقول البطل "ها انا اهرم في بيتي وهو يهرم في بيته..." وقرر اخيرا ان يعامله بالمثل فاخرج بندقية جده القديمة وجهزها للاستعمال واخذ يطلق عليه النار بلا توقف.

وفي تساؤل بعيد الاغوار عن اقتتال لاسباب ودواع حقيقة له قال " اصبح كلانا محاصرا. ما جدوى ذلك بالنسبة الي.. يجب اللجوء الى وسيلة اخرى لفك الحصار. لم اعد احتمل وحدتي في البيت الموحش." اما الحل فهو في الالتقاء بعد توهم ان اللقاء ممنوع او مستحيل.

قال الكاتب "يوم مشمس.. انا مليء ثقة وبهجة... حلقت الذقن.. تعطرت بماء الورد.. ارتديت ابهى الثياب.. وخرجت دون سلاح. عبرت الشارع الى حيث يقع بيت الجار. استقبلني بصليات متلاحقة من الرصاص... لم اكترث... واصلت التقدم بعناد. ترك المتراس مرفوع اليدين. اقتربت اكثر. ظل يحدق في عيني بهلع لا يدري ماذا ستكون خطوتي التالية. تمعنت فيه.. لكم هو فاتن فتحت الذراعين فألقى برأسه على كتفي وانفجر منتحبا."

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 2/تشرين الثاني/2008 - 3/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م