تراكم الخبرة

(12) حتى يغيروا.. قراءة في حلقات

نـزار حيدر

ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا.

هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.

وقلنا، بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛

اولا: ثقافة الحياة

ثانيا: ثقافة التعايش

ثالثا: ثقافة المعرفة

رابعا: ثقافة الحوار

خامسا: ثقافة الجرأة

سادسا: ثقافة الحب

سابعا: ثقافة النقد

ثامنا: ثقافة الحقوق

تاسعا: ثقافة الشورى

عاشرا: ثقافة الاعتدال

حادي عشر: ثقافة الوفاء

ثاني عشر: ثقافة المؤسسة

العاقل لا يبدا من نقطة الصفر كلما هم بعمل، اما غيره فبعكسه، لان العاقل يستفيد من تجارب الاخرين، اما غيره فلا يثق باحد، بسبب اعتداده بنفسه، ولذلك لا يطمئن الى تجربة سبقه اليها غيره، ولذلك، فان العاقل لا ينطبق عليه القول المشهور (ان التاريخ يعيد نفسه) بل تنطبق هذه المقولة على الاغبياء الذين لا يعرفون معنا للتعلم من التجربة.

العاقل، كذلك، يعتبر بان الحياة الدنيا سلسلة واحدة مترابطة الحلقات، والتي تمثل كل واحدة منها تجربة انسانية او اكثر، ولذلك فهو يرى بان من يريد ان يستفيد من حياته باقصى درجات الاستفادة، عليه ان يجد مكانه في هذه الحلقات فلا يبدا من نقطة الصفر، والا اضاع الفرصة ولم يكسب النجاح.

ولو كان عقلاء البشرية يبدا كل واحد منهم من نقطة الصفر ويرفض البدء من حيث انتهى الاخرون، لما تطورت البشرية ولما شهدنا الفارق الكبير جدا بين حياة الناس في القرن الواحد والعشرين وحياتهم في القرن الثامن مثلا او غيره، من القرون الماضية، ان كان على صعيد الفكر والثقافة والعلاقات الاجتماعية او على صعيد المدنية والتكنلوجيا والعمران والتطور المادي، والى ذلك اشار الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بقوله {لولا التجارب عميت المذاهب، وفي التجارب علم مستانف}.

لقد اشار علماء الاجتماع في بعض بحوثهم الى واحدة من اهم مميزات الانسان عن مثيله في صنف الخلق، القرد، بقولهم، ان الاول يستفيد من تجارب الاخرين ولذلك لا يبدا من نقطة الصفر كلما هم بعمل او مشروع، اما القرد فيرفض الاستفادة من تجارب الاجيال التي سبقته فهو يأبى الا ان يبدا من نقطة الصفر في كل مرة، اي انه يابى الا ان يجرب بنفسه كل شاردة وواردة، ولذلك فالانسان يتطور، اما القرد فلا يتطور بشئ ابدا، فهو على حاله منذ ان خلقه الله عز وجل، لم تشهد فصيلته تطورا في شئ.

لمن يريد ان ينجح، اذن، عليه ان يستذكر التجارب سواء الشخصية منها او تجارب الاخرين، الموغلة في القدم، او الحديثة، لا فرق، فالتجربة من الاشياء التي لا تنتهي صلاحيتها ابدا، ولذلك يمكن الاستفادة منها متى ما قرر المرء ذلك، وهي مشاعة للجميع وليست حكرا على احد دون الاخر، لانها عمل انساني لا يحده حدود ولا تؤطره جغرافيا، و {التجربة تثمر الاعتبار} كما قال امير المؤمنين عليه السلام، وما احوجنا للاعتبار نحن العراقيون لنختزل الزمن ونوقف عجلة الدمار والقتل والذبح والصراعات العبثية التي لا طائل من ورائها، اولم يقل رب العزة سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز {لقد كان في قصصهم عبرة} لمن يا رب العالمين؟ {لاولي الالباب} وفي آية اخرى يامر تعالى الناس بالاعتبار شريطة البصيرة والبصر السليم، كما في قوله عز وجل {فاعتبروا يا اولي الابصار} ما يعني بان اول شروط الاعتبار هو ان يكون المعتبر(بكسر الباء) عاقلا راشدا، اما اذا كان مجنونا فلا يعتبر حتى من قصصه الشخصية، بمعنى آخر، فاذا صادفنا يوما امرءا يكرر الاخطاء ويغرق في مشاكل غيره او في مشاكله السالفة، فماذا يمكن ان نصفه الا بالجنون، الذي يحول بينه وبين الاعتبار من التجربة؟.

ان التغافل عن التجربة، يفقد المرء فرصة الاستفادة من علم جديد يمكن ان يكتسبه من دون عناء كبير، فالتجربة بمثابة علم جاهز، لا يحتاج المرء للاستفادة منه اكثر من قليل من عقل وبعض بصيرة، مع الاخذ بنظر الاعتبار الظروف الخاصة التي يعيشها.

و {الامور بالتجربة، والاعمال بالخبرة} كما يقول الامام علي عليه السلام، كما ان {الايام تفيد التجارب} كما في قوله عليه السلام، اي ان كل يوم بالنسبة للعاقل بمثابة تجربة جديدة يجب ان يختزنها للوقت المعلوم، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام {من قلت تجربته خدع، من كثرت تجربته قلت غرته} و {من احكم من التجارب سلم من العواطب، من غنى عن التجارب عمى عن العواقب} او كما في قوله عليه السلام {كفى بالتجارب مؤدبا} و {في كل تجربة موعظة}.

والعاقل لا يمكنه ان يظفر بمشروع او ينجح بمسؤولية اذا كان عديم التجربة او يرفض الاطلاع وتاليا الاعتبار بالتجربة، والى هذا المعنى اشار الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بقوله {الظفر بالحزم، الحزم بالتجارب} و {من حفظ التجارب اصابت افعاله}.

كما ان قيمة مشورة الرجال بقدر تجربتهم، والى ذلك اشار امير المؤمنين عليه السلام بقوله {راي الرجل على قدر تجربته}.

اما المتصدي للشان العام، الرئاسة مثلا، فيجب ان يكون مستنفر القوى العقلية ليقتنص اية تجربة تفيده وهو في موقع المسؤولية، ولذلك حذر امير المؤمنين عليه السلام من مغبة تصدي غير المجرب، صاحب الخبرة، للشان العام بقوله عليه السلام {لا يطمعن، القليل التجربة المعجب برايه في رئاسة} فمثله جاهل مركب، فهو بلا تجربة ولا يقبل ان يستفيد من تجارب غيره.

كما ان العقل ينمو وينشط بالتجربة، واليك هذه الحزمة الرائعة من اقوال امير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد:

{العقل غريزة يزيد بالعلم والتجارب}.

{العقل حفظ التجارب}.

{حفظ التجارب راس العقل}.

{دراسة العلم لقاح المعرفة، وطول التجارب زيادة في العقل}.

{العاقل من وعظته التجارب}.

{التجارب لا تنقضي والعاقل منها في زيادة}.

لقد ضحى العراقيون خلال قرن مضى من الزمن، كثيرا، وصرفوا من الجهود والوقت الشئ الكثير، فسالت دماء وازهقت ارواح وسحقت اعراض، ومع كل ذلك، فان الحال هو الحال وان الاوضاع هي الاوضاع، لماذا؟ لاننا لا نقرا التاريخ، فنبدا في كل مرة من نقطة الصفر، ولذلك فالنتيجة واحدة بالرغم من مرور (100) عام على احداث تتكرر ومنعطفات متماثلة ومتشابهة.

ان بعض العراقيين يستنكف الرجوع الى التاريخ، ويرفض الاطلاع على التجارب، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع ان التاريخ والتجارب ناصح امين لا يغش من استنصحهما، لان هذا البعض يرى نفسه اعقل الناس طرا، فيرفض الاتعاض بتجارب التاريخ لانه يعد نفسه فوق التجارب.

لقد اكتشفت شخصيا، وانا اقرا تاريخ العراق الحديث (1900 ولحد الان) ومذكرات القادة والزعماء والساسة العراقيين، ومن مختلف الاتجاهات السياسية، على مدى القرن الماضي، بان واحدة من مشاكلنا، نحن العراقيون، تكمن في اننا لا نستفيد من تجاربنا، فضلا عن تجارب الاخرين، ولذلك ترى التاريخ يتكرر عندنا على راس كل عقد او عقدين، بحذافيره وبتفاصيله، او كما يقولون حذو النعل بالنعل، سواء السئ منه او الجيد (والاخير عن طريق الصدفة) لان كل جيل من السياسيين العراقيين، فضلا عن الناس، يحاول ان يبدا من نقطة الصفر فلا يبذل اي جهد من اجل ان يرجع الى تجارب من سبقوه، ولذلك تتكرر عندنا المآسي والمذابح والسحل بالشوارع والحروب العبثية والاقتتال العنصري والطائفي والسرقات المسلحة (الانقلابات العسكرية) والفساد المالي والاداري والانشقاقات الحزبية، والتصفيات الجسدية والسياسية، كما تكثر عندنا الشائعات والدعايات وبشكل جنوني، والمضحك المبكي في الامر، ان كل من يعترف منهم باخطائه وجرائمه اليوم، يحاول ان يسجل اعترافه مشفوعا بالندم والعظ على انامله حسرة على ما فرط في الايام الخوالي، مرددا بالقول (لو عدت اليوم الى موقع المسؤولية لما ارتكبت جريمة ولما اعتديت على احد، بل ساكون اطوع للضمير ولشرف المسؤولية التي لم استحضر منها شيئا فيما مضى من الايام) وهم بالمناسبة يذكرونني بالقول المشهور الذي ظل يردده كل ظالم يواجه مصيره المحتوم لحظة الموت، اولئك الذين يثبت القرآن الكريم لسان حالهم بقوله عز وجل {حتى اذا جاء احدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي اعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون}.

ان امثال هؤلاء يرفضون الاعتبار بتجربة الاخرين ولا يقبلون الاصغاء الى نصيحة او تحذير او تنبيه، متذرعين بعلمهم وعبقريتهم وجهل الاخرين بفنون القيادة والزعامة، حتى اذا انتهت صلاحيتهم، قالوا {رب ارجعون} ولكن هيهات فقد سبق السيف العذل، وياليتهم قالوا ذلك او ندموا على ظلم يوم كانوا في السلطة وفي موقع المسؤولية، اذ كانت تنفعهم الندامة وينفعهم اعادة النظر باعمالهم، اما وقد انزلوا من معاقلهم {فلات حين مندم} اليس كذلك؟.

وتمر الايام، لنعود اليوم نمارس ما شهده العراق على مدى نيف وثلاثين عاما الماضية، وكاننا لم نشاهد الطاغية صدام حسين وهو يستخرج من ثقب بالوعة بعد كل الذي فعله بالشعب العراقي، لناتي اليوم ونكرر ما فعله على مدى نيف وثلاثين عاما، وكل ذلك بسبب اننا لا نستفيد من التجربة، فاصبحنا عكس ما قاله الامام علي بن ابي طالب عليه السلام {من احكم من التجارب سلم من العواطب، من غنى من التجارب عمى عن العواقب}.

لقد قلت مرة، مازحا، لعدد من الاخوة المسؤولين العراقيين، في جلسة اخوية غير رسمية وليس فيها من تكلف الرئيس والمرؤوس، جمعتني واياهم خلال زيارتي الاخيرة للعراق ربيع العام الحالي، وقد كان فيهم عضو البرلمان والوزير ووكيل الوزير والمستشار وغير ذلك، قلت لهم:

ان بامكانكم ان تسرقوا من المال العام ما استطعتم الى ذلك سبيلا، ولكنكم سوف لن تسرقوا اكثر من الطاغية، كما ان بامكانكم ان تظلموا الناس وتعتدوا على حقوق الرعية، ما استطعتم الى ذلك سبيلا، ولكنكم سوف لن تظلموا اكثر مما فعله الطاغية، واذا كانت نهاية الطاغية الاعتقال بذلة واستخراجه من بالوعة مذموما مدحورا، فما بالكم انتم؟ واردفت بالقول، لا اعتقد بان حالكم سيكون اكثر من حاله {فاعتبروا يا اولي الالباب} قلت لهم.

نعم، فان مشكلتنا هي اننا لا نستفيد من تجربة الاخرين، بل لا نستفيد حتى من تجاربنا الذاتية، والا بالله عليكم، هل يوجد في العالم عاقل يرى مصير الطاغية امام عينيه ثم يكرر ما فعله من افعال واعمال؟.

وكمثل على تغافلنا عن تجاربنا، اسوق هنا قضية الاتفاقية (الامنية) المزمع التوقيع عليها بين العراق والولايات المتحدة الاميركية، التي كثر الحديث عنها بين العراقيين وباتت حديث المجالس والمدارس والاسواق وفي كل مكان.

فاذا تساءلت وقلت:

ترى، من من العراقيين عاد الى التاريخ وقرا ظروف ونصوص الاتفاقيات الاربع التي وقعها العراق مع بريطانيا ابان احتلالها للعراق وحتى العام 1930؟.

اقلص مساحة السؤال لاعني به المعنيين في امر الاتفاقية، واسالهم:

كم من القادة والسياسيين والزعماء العراقيين راجع تلك الاتفاقيات، نصوصها، ملاحقها، الظروف التي احاطل بها، هوية من وقعها، وما الى ذلك؟.

كم عدد اعضاء مجلس النواب الذين اطلعوا على تلك الاتفاقيات؟.

لا اريد ان استعجل الجواب فاظلم احدا، متمنيا ان يسال المعنيون انفسهم هذا السؤال ويجيبوا عليه بصراحة ولو بطريقة سرية، او عن طريق الاقتراع السري تحت قبة البرلمان، كتلك التي تجري احيانا للامور الحساسة والخطيرة.

الا انني، ومن جانب آخر، استطيع ان اخمن الجواب فاقول وبضرس قاطع، انه لا احد راجع تلك الاتفاقيات الا اللمم منهم.

وان سبب تخميني بهذه الطريقة، الظالمة ربما، هو ما اقراه من تصريحات على لسان المعنيين، والتي تشير الى انهم لم يقراوا التاريخ، ولم يعودوا الى تلك التجربة الذاتية، ابدا، علما بان الاطار العام للاتفاقية الحالية التي يجري مناقشتها تشبه الى حد كبير نصوص تلك الاتفاقيات وملاحقها وبروتوكولاتها، فلو كانوا قد عادوا الى الماضي لما تعاملوا مع الحاضر بهذه الطريقة الفجة، اليس كذلك؟ وقديما قيل (ان البعرة تدل على البعير، والاثر يدل على المؤثر).

ان مثل من لا يستفيد من التجربة كمثل الاعمى الذي يسير بلا دليل، لا ينهض من حفرة الا ويسقط في غيرها، ولا يقوم من كبوة الا ويكررها في اخرى، فالتجربة بالنسبة للانسان، خاصة الذي يتصدى للشان العام، كمثل الدليل الذي يقود المرء الى بر الامان، ولذلك فان العاقل لا يستغني عن تجارب غيره، بل يسعى الى ان يطلع على احدثها فلا يكتفي بقديمها فقط، ولقد استحضرني قول رائع يكرره الاميركان عادة، يقول (لا تقد سيارتك اليوم بالاعتماد على خارطة الامس) فقد تكون ادارة البلدية قد استحدثت طريقا خلال الاربع والعشرين ساعة الماضية وانت لا تدري، فلذلك يجب ان تجدد خارطة الطريق كل يوم، بل وفي كل مرة تهم بقيادة سيارتك.

ان (التجارب علم مستفاد) كما يقول امير المؤمنين عليه السلام، فكيف يستغني العاقل عنه؟

والمرء مهما اوتي من قدرات خارقة، لا يمكنه بمفرده ان يستفيد من التجارب فيوظفها في حياته، ولذلك فهو بحاجة الى الاخرين ليساهموا معه في تنظيم التجارب وتبويبها وفرزها بما يحولها الى خبرة متراكمة ومتجددة، ولهذا السبب عمدت الشعوب المتحضرة الى بناء المؤسسات المتخصصة في هذا العلم، فكانت مشاريعها مؤسسات، وبرامجها جمعيات، تراكمت فيها الخبرة من خلال توظيف التجربة.

والمؤسسة خبرة متراكمة، من خلال العمل الجمعي الذي يتكامل بجهود متنوعة في الاساليب والوسائل وطريقة التفكير والاستنتاج، الا انها متوحدة في الهدف والنتيجة.

نحن في العراق الجديد بحاجة ماسة الى ان نحول مشاريعنا الى مؤسسات لتتراكم فيها الخبرة، وتوظف فيها التجربة، لتاتي انجازاتنا نوعية وتاريخية ومتميزة، والا فستبقى حلقات حياتنا متقطعة لا يربطها شئ، وبالتالي ستضيع عندنا الخبرة ولا نستفيد من التجربة، ما يعني اننا سنظل نبدا في كل مرة من نقطة الصفر، وهذا ما سيكون سببا في ضياع الزمن والطاقات والخبرات وكل شئ، لان عمر الانسان المحدود لا يمكنه من ان يجرب كل شئ بنفسه.

الى متى نظل نعمل منفردين لا تربط بعضنا اية مؤسسة متخصصة؟ ان ذلك سبب مباشر من اسباب تضييع العمر والوقت والخبرة والتجربة، فالمرء مهما اوتي من عبقرية ومن عمر مديد، فسيظل عاجزا عن ترك ما يمكن ان يستمر في التاثير بواقع الشعب والبلاد، ما لم تكن هناك مؤسسة تبوب نتاجاته وتنظم انجازاته على شكل تجارب تستفيد منها الاجيال اللاحقة.

ان واحدة من عوامل تقدم ونجاح الغرب هو اعتماده على المؤسسات التي تتراكم فيها الخبرة، ولذلك نرى مثلا ان عمر مؤسساته الاعلامية قد يزيد على القرنين فيما لا نجد في بلداننا مؤسسات بمثل هذا العمر الطويل، ولذلك تتراكم الخبرة عندهم ويتم نسيان وتجاهل الخبرة والتجربة عندنا.

والسؤال هو؛

كيف يمكننا ان نعتمد المؤسسة بدلا من العمل الفردي؟.

للجواب على هذا السؤال، اعتقد باننا بحاجة الى ما يلي:

اولا: تغليب العمل الجمعي على العمل الفردي، من خلال تحكيم روح الجماعة على الروح الفردية.

ثانيا: ان يكون معيار العمل في المؤسسة هو الخبرة والنزاهة والتجربة والنجاح، بعيدا عن اية قيم اخرى لا تساهم في النجاح، كالمحسوبية او الحزبية او الانتماءات الدينية او المذهبية او الاثنية او ما الى ذلك.

ثالثا: تغليب قيم الايثار والاعتراف بالفضل للاخرين اذا ما حققوا نجاحا والتعاون والتمكين، على كل صفة سيئة كالاستئثار والتربص والتعاون على الاثم والعدوان، والانانية وحب الذات وغيرها.

رابعا: ومن اجل ان ياخذ الرجل المناسب موقعه الطبيعي في المكان المناسب، ينبغي ان تتميز ادارة المؤسسة بالديمقراطية لتحكم المشاركة بابهى صورها، وبالشفافية لتحكم قيم النقد والنقد الذاتي والمساءلة والرقابة، حتى لا يضيع حق احد، ولا تتورط في اي فساد مالي واداري.

وان من اهم ما يجب ان يحكم المؤسسة هو تغليب راي الاغلبية سواء من خلال الانتخابات او الاستفتاءات او الاستبيانات العامة التي ترسم معالم الاتجاهات العامة التي تحتاجها اية مؤسسة للنجاح.

خامسا: كما ينبغي ان تتميز ادارة المؤسسةوقيادتها بقوة الشخصية المعنوية والقانونية لتتمكن من ادارة المؤسسة بانضباط وعدم تسيب، وهذا ما يتطلب من الادارة ان تكون بيضاء اليد وغير متورطة باي نوع من انواع الفساد حتى لا تتعرض للابتزاز، وتاليا للفشل.

كذلك يجب ان تتميز القيادة بتعاملها الانساني مع المنتسبين، من خلال التحلي بصفات العدل والاحسان، فلا تظلم احدا من منتسبي المؤسسة، بحجب معلومة مثلا او تقليص صلاحيات وتوسيعها لآخر، او ما الى ذلك.

سادسا: ان توزع الامكانيات بشكل عادل ومنصف ولا اقول بالتساوي، فالتساوي بمثل هذه الحالة ظلم للمتميز، اذ كيف يمكن ان نعطي للمنتج في المؤسسة من الامكانيات بنفس المقدار الذي نعطيه لغير المنتج او للذي انتاجه ضعيف؟ اوليس في مثل هذا الامر ظلم واجحاف، ليس للمنتج فحسب، وانما كذلك للمؤسسة بمجموعها، لان ذلك سوف لن يساعدها على النجاح ابدا.

سابعا: ان نبني مؤسسات متخصصة ونوعية، فلا نعمد الى بناء المؤسسات العامة والشاملة، فكما هو معروف فان الزمن اليوم هو زمن التخصص، فلا مجال للشمولية ابدا.

ان المؤسسة كلما تخصصت في امر ما، واهتمت بحيز محدود، كلما ابدعت وانتجت واثمرت اكثر، والعكس هو الصحيح، فعندما تكون المؤسسة شاملة وعامة، فستكون هلامية ومبعثرة، لا يمكن ان تركز على بؤرة رؤية محددة، وسيكون مثلها كمثل بائع علبة الدواء على الرصيف في يوم الاربعين في مدينة كربلاء حيث يزدحم الزوار، فهو يدعي ان علبة الدواء التي يبيعها هذه تعالج امراض القلب والاوردة والشرايين والمفاصل والبواسير والاسنان والاظافر والجهاز العصبي والعظام والمعدة والكليتين والامعاء والقدمين وكل شئ يحتاجه مريض، اي مريض.

لا يجوز لنا ان نضيع الوقت ببناء مثل هذه المؤسسات، فهي عبثية ولا داعي لها وليس من ورائها اي طائل، بل يجب ان نبذل الجهد المركز لبناء مؤسسات متخصصة باصغر شان ممكن من شؤون الحياة، ليرتادها ذوي الحاجة كل حسب اختصاصه.

لندع الحالة (المصرية) التي تنتشر اليوم على شاشات الفضائيات العربية جانبا، فـ (المصري) في هذه الشاشات خبير في كل شأن، ولذلك يطل براسه متحدثا ومحللا كل القضايا المصيرية والهامة، بدءا من القضايا السياسية وليس انتهاءا بقضايا الفضاء مرورا بقضايا الجنس والانجاب والدين والحضارة والتاريخ، فهو موسوعة في كل شئ، وان كانت فارغة، لان الظهور في الفضائيات اصبح (تجارة) لا تحتاج من (الخبير) اكثر من اطلاعه على السياسة العامة للفضائية ليعرف كيف يتحدث لارضائها وليس للحقيقة.

على كل حال، فان التخصص مطلوب عندما نفكر بتشييد اية مؤسسة.

ثامنا: ان نبني المؤسسة على اسس عصرية حديثة، من خلال الاستفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة في التبويب والبحث والتصوير والنشر والوصول الى متناول الباحث، وغير ذلك، ما يجعلها اكثر انتاجية وابداعا، واكثر سهولة في الوصول اليها في الوقت المناسب.

تاسعا: الاهتمام جدا وبشكل متميز بالتدوين، فلا ندع شاردة وواردة الا دونتها المؤسسة، من دون الاستهانة بمعلومة او تجاوز فكرة، واذا كانت الحوادث اليوم واقعا معاشا يرسم معالمه الجيل الحالي، فانها بالنسبة للاجيال القادمة تاريخ وتجربة قد تفيدهم وتنفعهم ايما منفعة.

اننا في العراق بحاجة ماسة الى (بنك معلومات) شامل يكون في متناول الجميع، ليستفيد منه كل من يريد ان ينشط ذاكرته من خلال الرجوع الى التاريخ العراقي، القريب منه خاصة.

اذكر ذلك وقد استحضرتني قصة طريفة تشبه الى حد بعيد النكتة، فقد نقل لي من اثق به ان مجموعة كبيرة من المرشحين لشغل منصب ما في سفارات وقنصليات العراق في الخارج، تقدموا بطلب التوظيف، في اطار المحاصصة طبعا، الى الدائرة المعنية في وزارة الخارجية، ولان عليهم ان ينجحوا في اختبار الديبلوماسية، فقد جرى اختبارهم وكان احد الاسئلة، يقول، متى تحول العراق من الملكية الى الجمهورية؟ وكانت النتيجة ان (2) فقط من مجموع (40) اجابوا بصورة صحيحة، اما الباقون فقط اجابوا خطا، اي ان (5%) فقط عرفوا الجواب الصحيح.

سؤال آخر يقفز الى الذهن، ونحن نتحدث عن التجربة وتراكم الخبرة، الا وهو:

متى يمكن ان نستفيد من التجربة، وكيف يمكن ان نساهم في تراكم الخبرة؟.

الجواب، بما يلي:

اولا: في بنك المعلومات يجب ان ندون كل التجارب والخبرات، وان من الجريمة بمكان ان نتعامل مع التجارب بانتقائية، ومن منطلق الحب والبغض، فاسجل واحتفظ بالتجربة اذا أعجبتني، هكذا، واتجاهلها اذا لم تعجبني، او اثبتها اذا كانت التجربة تعود الى احد او عهد محسوب علي، واتجاهلها اذا كانت من تجارب العهد البائد او اي عهد اعتبره غير جدير بالاهتمام.

ان اهمية التجربة تكمن في كونها (حدث) مر على البلاد او الشعب بما هي كقصة، بغض النظر عن حبي لها او بغضي لصاحبها، وكذلك بغض النظر عن تفسيرها، فالنص شئ، والتفسير والتحليل شئ آخر، والا فسيكون بنك المعلومات هذا الذي اريده مصدرا للتنوير واليقضة، مجرد مؤسسة جديدة للتضليل والخداع والتجهيل كما فعل مرة الطاغية الذليل الذي اراد ان يعيد كتابة التاريخ فوضع شروطا سماها معايير لتدوين حوادث التاريخ، منها تجاهل اي اسم او حادثة في تاريخ العراق الحديث ينتمي عنوانه الى الاكثرية العراقية (الشيعة) حتى اذا كان صاحب الاسم قائدا لاعظم ثورة في تاريخ العراق الحديث، غيرت مسار الاحداث وحققت اهداف العراقيين، الا وهي ثورة العشرين الاسلامية التحررية، كالمرجع الفقيه الشيخ محمد تقي الشيرازي، وقس على ذلك، فاي تاريخ هذا الذي سيكتبه النظام؟ واي خبرة سيقراها العراقيون في مثل هذه الكتب التاريخية التي يسمونها بالاكاديمية؟.

ثانيا: يجب ان نقرا التجربة بعقل منفتح، وليس بعقلية منغلقة، فالاول مستعد لان يقرا اية تجربة حتى اذا كان المسطر لها اعدى اعدائه، اما المنغلقة فلا تقرا الا تجاربها وتجارب من تحبه، ولذلك فالامر بالنسبة لمثل هذه العقلية لا يعدو اكثر من كونه ترفا وضحكا على الذقون.

كذلك، يجب ان لا نقرا التجربة باحكام مسبقة، لان ذلك سيدفعنا دفعا الى ان نوجه التجربة بالمسار الذي نحب، ولا نتركها تمشي باسترسال في الاطار الطبيعي الذي ينبغي ان تسير فيه.

ثالثا: كما ينبغي ان نقرا التجربة بحيادية، فلا ننحاز لتجربة دون اخرى، فان ذلك سيفقدنا فرصة تراكم الخبرة.

رابعا: ولمن يريد ان يستفيد من التجربة، عليه ان يقرا ما وراء السطور، فقد يكون النص جامدا بلا روح، الا انه سينشط اذا قراه المرء بوعي وادراك وبصيرة، فانه سيكتشف المغزى والعبرة من وراء السطور، لان هذه الطريقة من القراءة، تمنح النص الميت روحا متجددة.

ان ذلك يتطلب من المرء ان يستحضر ذهنه وذكاءه، ليقرا ما وراء السطور او ما بينها، وذلك هو الاهم في القصة، فلا يقرا التجربة بذهنية شاردة.

خامسا، واخيرا: ليحذر من يقرا التجربة من مغبة الوقوع في شراك المضللين والوضاعين والكذابين، فان هناك من يسعى لتضليل القارئ من خلال دس المعلومات الكاذبة بين ثنايا بعض الحقائق، ولذلك فان نصيحتي لمن يريد ان يقرا التجربة، ان يقاطع من اشتهر بالكذب والدجل والتزوير، فلا يقرا له، لانه بذلك يضيع وقته وقد يساهم في الغش والتزوير لعقله الذي ينبغي ان يقرا المواد السليمة.

واذا كان المرء مضطرا للقراءة لكذاب او وضاع لسبب او لاخر، فعليه ان يفتح عينيه جيدا حتى لا تمر عليه كذبة، ولا ينطلي عليه (قرش قلب) كما يقول المثل العراقي المشهور.

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 1/تشرين الثاني/2008 - 2/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ/1999- 2008م