التكافل طريقنا إلى السلم الاجتماعي

محمد علي جواد/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

للتكافل الاجتماعي علاقة وطيدة وعميقة بالسلم الاجتماعي وتحقيقه على الأرض، إذ أن التكافل يهتم بحاجات الإنسان الأساسية من مأكل وملبس ومسكن وغيرها، وفي حال عدم تغطية هذه الاحتياجات لسبب أو لآخر تضع الإنسان في عنق زجاجة، وبالتالي تدفعه للخروج عن طوره ووضعه الطبيعي؛ فيلجأ إلى كل السبل والأساليب للخروج من أزمته فيشق طريقه من حيث يريد أو لا يريد باتجاه عصابات الجريمة، ويكون رقما في أعمال العنف وحتى الحرب الأهلية بدلا من أن يكون مساهما في السلم الأهلي والاجتماعي.

ورب قائل يلقي كل المسؤولية على الحكومة لتحكمها بالموارد المالية الهائلة العائدة من تصدير النفط، هذا أولا، وثانيا: تمكنها من اقتراح القوانين على مجلس النواب لسنّها فيما يتعلق بنظام الحماية الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي المتداول في العراق أو كثير من الدول الإسلامية.. وبحساب بسيط لوارد العراق من العملة الصعبة يتضح أن (200) مليون دولار يرد للعراق يوميا من تصدير النفط  باحتساب سعر البرميل الواحد مائة دولار وبطاقة إنتاجية تقدر بمليوني برميل نفط يوميا، ثم إذا حولنا هذا المبلغ إلى عملة محلية نحصل على (200) مليار دولار عراقي يوميا على أقل التقادير.

ورغم أن هذا يعد أحد الاستحقاقات أمام الحكومة، إلا أن الرؤية الإسلامية تفتح آفاق واسعة في هذا الميدان يشارك فيها جميع أفراد المجتمع، فكما يقال في الوقت الحاضر بان الجميع مسئولون عن تطبيق القانون وتحقيق الأمن، فان الصحيح أيضا بان الجميع مسئولون عن أعداد الأرضية المناسبة لهذا الأمن والأوضاع السلمية التي باتت ضالة المجتمع، وإذا القينا نظرة على الطوابير الطويلة عند أبواب شبكة الحماية الاجتماعية نجد في هذه الطوابير وفي هذه الشبكة إحدى الانعكاسات  السلبية لافتقاد التكافل في المجتمع، هذا فضلا عما يسمعه الجميع عن حالات الاختلاس المخجلة التي طالت هذه الشبكة في بعض مدن العراق.

وعليه فانه فكرة الضمان أو الحماية السائدة في كثير من البلدان ومنها العراق، لن يحل المشكلة من جذورها، إذا لم نقل بأنه يؤدي فقط إلى تمييعها وسط المجتمع بدلا من اجتثاثها كما يطمح إلى ذلك الدين الإسلامي منذ إنشاء أول دولة إسلامية على يد الرسول الأكرم – صلى الله عليه وآله وسلم- في المدينة المنورة، ومع أننا نشجع، بل، ونطالب بدور حكومي ليس في العراق بل في جميع البلاد الإسلامية بتفعيل الضمان الاجتماعي وتطبيقه بصورة متكاملة وصحيحة وبشكل يكون اسمه على مسمى، لكن عندما نبحث عن السلم الاجتماعي في هذا الحقل لابد من معرفة الفروقات لنعرف بعدها سبب عدم تأثير (الضمان) الموجود على السلم الاجتماعي.

ففي كتاب (الفقه.. السلم والسلام) ضمن موسوعة الفقه الكبيرة لسماحة الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- سلط المؤلف الضوء على نقطتين جوهريتين: النقطة الأولى: مصدر العطاء، والنقطة الثانية: شمولية التكافل على العطاء المادي والمعنوي.. بالنسبة للنقطة الأولى فان الضمان – كما يقول الأمام الراحل- يأتي من مصدر واحد لا غير وهي الحكومة، فهي التي تقترح القوانين على مجلس النواب وتنظم الإجراءات المختلفة والتي تتدخل فيها عوامل متعددة ومتضاربة مثل الشعور بالمسؤولية والقيم الأخلاقية والمصالح الفئوية والخاصة، ومجرد تضارب هذه العوامل يؤدي إلى فشل في التطبيق وخيبة عند الناس، فالتكافل الذي ينشده الإسلام يكون مصدره جميع أفراد المجتمع، وعامل النجاح فيه هو التنافس والسباق إلى الخيرات..

وبالنسبة إلى النقطة الثانية فان التكافل إضافة إلى اهتمامه بتوفير المساعدات العينية أو المالية للمحاجين، يهتم أيضا بالجانب المعنوي، لذا وردت التأكيدات في مئات الأحاديث عن أهل البيت – عليهم السلام- في الحثّ على التكافل بألفاظ وأشكال متعددة مثل التعاون والتواصل والمواساة، واليوم نسمع مثلا مصطلح (التضامن) وهو مصطلح مُستقى من المفهوم الإسلامي الأول وهو التكافل، بل أن القرآن الكريم.. وهو منهجنا المتكامل في الحياة أكد قبل ذلك هذه القيمة الاجتماعية عندما وصف المؤمنين بأنهم "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقد حدد الإمام الصادق – عليه السلام- حقوق المسلم على أخيه المسلم وهي سبعة منها: (أن يشبع جوعته ويواري سوءته ويفرج عنه كربته ويقضي دينه وإذا مات خلفه في أهله وولده)، ويمكن أن نطلق على الجانب المعنوي بالمسألة النفسية لدى الإنسان المحتاج والمضطر، وهو درس طالما علمنا إياه أئمتنا الكرام في أهمية وحساسية (الصدقة في السرّ) وضرورة ألا يشعر المحتاج انه أراق ماء وجهه بالحصول على شيء من الأموال من شخص أو جهة ما.. ولعل التكافل بهذا العمق والامتداد في العلاقات الاجتماعية هو الذي يمنح هذه العلاقات عمرا أطول ويعزز الثقة والأمل بحياة أفضل.

التطوع وطيبة النفس

في كتابه المشار إليه يبين سماحة الإمام الشيرازي (النظرية الإسلامية) في هذا المجال وانه من خلال حقيقة التكافل ودرجاها ومراتبها يُعرف أن الأنفس لا تبسط الاكف للعطاء والتعاون فقط وإنما تفتح أبواب القلوب ومغاليق الأموال! واستدرك سماحته بان هذا (نادر في التاريخ) واستشهد بحديث عن الإمام أبى جعفر الباقر –عليه السلام- مخاطبا أحد أصحابه: أيجئ أحدكم فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه.. قلت: ما أعرف ذلك فينا ، قال – عليه السلام- فلا شئ إذا.. قلت فالهلاك إذا، فقال: إن القوم لم يعطوا أحلامهم بعد..

وعندما يصل هكذا مفهوم إلى هذه الدرجة السامية  من الصدق في العلاقات الاجتماعية بحيث يمكن بسهولة وصفها بالمثالية من قبل البعض، نفهم ونتيقن بأنه جدير بان يكون عاملا مهما وأساسيا في أيجاد الأرضية للسلم والسلام في المجتمع.. وإلا نشهد في كثير من البلاد الإسلامية توزيع المساعدات العينية والمالية وبسط الموائد الطويلة لاسيما في شهر رمضان المبارك وهي دون شك من السنن والأعمال المحببة والمؤكدة في الإسلام، لكن مع ذلك نشهد أيضا ظواهر الحرمان والفقر، وفي بعض الاحيان حالات الجريمة مثل السطو والسرقة وغيرها، لان الفقير والمحتاج لا يتحسس أو يشعر بوجود المجتمع إلى جانبه، وان حصلت بعض الحالات فانه يعدّها خاضعة لعامل الزمن وبعض الظروف والمناسبات وبالتالي هي مؤقتة، ولن يكون بوسعه التعويل عليها للخروج من أزماته التي تحيط به طوال الوقت.

من جانب آخر يمكن ملاحظة مصاديق هذه العلاقة المختلّة في حالات كثيرة في المجتمعات الإسلامية التي تعمل فيها مؤسسات الضمان الاجتماعي، علما أن التشدّق بوجود هذه المؤسسات بات يفوق نتائج عمل هذه المؤسسات، والسبب هو أن هذه الأموال المستحصلة تأتى على الأغلب من الضرائب التي تفرضها الأنظمة السياسية، وهو تقليد أخذته دولنا الإسلامية من الغرب، فالتاجر أو الكاسب وغيره مجبر على دفع مقادير مختلفة من الأموال لوزارة المالية لمجرد انه صاحب مشغل أو متجر، في حين أن النظام الإسلامي الذي أرسى دعائمه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- يأمر بالخمس والزكاة وهي نوع من الضريبة لكنها فريضة عبادية تدعو للارتياح والاطمئنان عند من يؤديها كما هو الحال في الصلاة والصوم والحج، وبالتالي يكون الإنسان مختاراً وليس مجبرا أو مهددا وهو ما يدفعه ويشجعه على العطاء طوعا وفي أوقات مختلفة.

كبح جماح الاكتناز

إذا كان الإسلام يتحدث عن مشكلة الفقر وطرق معالجتها وحلّها فإنه أيضاً يتقصّى أسبابها ومنشأها ليتجنبها المجتمع، وفي ذلك تحقيقاً للعلاج الجذري والأساسي.. وكان أول ما حاربه الإسلام منذ ولادته المشرقة هي الطبقية والتمييز بين أبناء المجتمع الواحد، وفي مواقف كثيرة أكد الرسول الأكرم (ص) حجم التعارض بين الإسلام والطبقية، ولم يدع مناسبة اجتماعية أو سياسية إلا وذكر أصحابه وعموم المسلمين بأنهم سواسية كأسنان المشط أمام الشريعة وأحكام الدين ولا فضل بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى، وكان يتجلى ذلك أكثر في تقسيم غنائم الحروب والغزوات، فقد كان الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري دائماً يقف بالمرصاد بوجه كل من يلجأ إلى كنز أموال المسلمين ففي إحدى الأيام نظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له: يا أبا اسحاق.. ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك فيها شيء؟ أجابه: كلا ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء، فرفع الصحابي الجليل أو ذر الغفاري عصاه وضرب بها رأس كعب وقال له: ... ما أنت والنظر في أحكام المسلمين قول الله أصدق من قولك حيث قال (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ).

من هنا كانت انطلاقة أبي ذر في مسيرة الكفاح المرير ضد كل من يفكر في جمع الثروة لأجل المال وحسب، وإنما دارت القصص والحوادث حول دار الخلافة وصداماته المستمرة مع عثمان وحاشيته؛ لأنه كان يرى أن الإصلاح يجب أن يبدأ من الحاكم المتسلط على أموال ومقدرات المسلمين، فكان هذا الصحابي يردد هذه الآية الكريمة كلما اقترب من دار الخلافة بشكل يسمع عثمان وحاشيته وفعل نفس الشيء مع معاوية في الشام عندما ظنّ عثمان أنه بنفيه إلى الشام سيأمن سهام انتقاده فأصابت معاوية الذي أرسل إلى عثمان يستنجد من أبي ذر، فكانت العاقبة الحسنة كما تنبأ الرسول الأكرم (ص) له وهو (أن تعيش وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك) وكان ذلك في صحراء الربذة حيث فارق الحياة هناك بعد أن لاقى ما لم يلاقه أي من الصحابة من الألم والأذى على يد الجاهليين الأوائل والجدد بعد بزوغ فجر الإسلام..

التكافل على أساس حرية التملك

قد يساء فهم الدعوات إلى التكافل الاجتماعي والتحذير من كنز الأموال والثروة في المجتمع، على أن البديل الأمثل لحل مشكلة الطبقية والفقر تكمن في المساواة في مداخيل المواطنين بغض النظر عن النشاط الذي يقومون به وقدراتهم المختلفة، ولعل هذا ما دفع دعاة الاشتراكية إلى استحضار شخصية أبي ذر الغفاري وعدّه أول داعية للاشتراكية!، في حين بات واضحاً أن النظام الاقتصادي في الإسلام يتميز بقدرته على تحقيق العدالة لجميع أفراد المجتمع، ويحفظ حقوق الجميع، لذا فإن الفقهاء والمجتهدين في العصر الحاضر بينوا النظرية الإسلامية التي تقر الملكية الفردية المقرونة بالاعتدال والوسطية، فهو لا يشبه الاشتراكية في الملكية الجماعية ولا يشبه الرأسمالية في الملكية الاحتكارية، أي أنه لا يكون مع الجماعة على حساب الفرد ولا مع الفرد في ملكية خاصة على حساب الجماعة.

ومن أبرز العقبات أمام تحقيق التكافل الاجتماعي وصولاً إلى السلم والاستقرار في المجتمع هو النظرة غير السليمة إزاء أصحاب رؤوس الأموال والميسوري الحال، إذ يتصور البعض إن وجود الثروة الكبيرة عند أناس دون آخرين يجعل من الدعوات للتكافل بمثابة هواء في شبك، لعدم استعداد الثري التخلي عن ثروته التي استحصلها بالجهد والتعب.. ومن نافلة القول في هذا المبحث إن إلغاء الطبقة المتوسطة في المجتمع لدى كثير من بلادنا الإسلامية تعد من العوامل الأساسية لنشوء وتكريس الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي، فتكون النتيجة الحتمية هي أعمال العنف والاضطرابات ثم الثورات التي قد لا تكون عواقبها حميدة دائماً، وخير مثال على ذلك ما شهده العراق في أواخر العهد الملكي وأيضاً ما شهدته إيران الشاه.

من هنا جاء موقف الإسلام من الملكية الفردية مطابقاً لفطرة الإنسان كما يشير إلى ذلك سماحة الإمام الشيرازي في كتابه (فقه السلم)، فالاشتراكية والرأسمالية أثبتت بعدها عن الواقع الإنساني مما يؤدي إلى جملة من الاختلالات في العلاقات الاجتماعية وهو بدوره ينعكس سلباً وكارثياً على الوضع السياسي لعموم البلاد، لذا نجد الإسلام فتح مساحة واسعة لكسب المال الذي يأتي في الأحاديث الشريفة للمعصومين في مصطلح (الرزق)، وأمامنا أحاديث كثيرة تحثنا على كسب المال الحلال وعدم الركون على الكسل والاتكالية، فجاء عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: (خير المال ما أوشك ذخراً وذكراً أكسبك حمداً وأجراً)، وقال الإمام الصادق: (لا خير في من لا يحب جمع المال من حلال، يكفّ به وجهه ويقضي به دَينه ويصل به رحمه).. كما يؤكد الإسلام على شروط الملكية الفردية وأهمها اجتناب الوسائل المحرمة في مقدمتها الربا، واخراج الواجبة مثل الخمس والزكاة والحقوق الثانوية التي تعبر عنها الشريعة بـ (الإنفاق في سبيل الله).

وعليه يتضح أن التكامل الاجتماعي هو بالحقيقة منظومة متكاملة من الممارسات والعلاقات السليمة القائمة على الدين والأخلاق والشعور الإنساني، بل يمكن القول إن التكافل يعد أحد صور العدالة الإسلامية التي ينشدها الإسلام ودعا إليه الأئمة المعصومون خلال فترة حياتهم وما تزال هذه الدعوة أمامنا مفتوحة لتحقيق أهم ما يصبو إليه الإنسان في حياته وهو الأمن والسلم والاستقرار في الحياة.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 28/تشرين الأول/2008 - 28/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م