الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة.. ابتزاز فظ 

علي الأسدي

تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة المناقشات بصدد بعض نصوص الاتفاقية الأمنية المقترحة بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت بعض الآراء قد تعرضت بالنقد لبعض بنودها، فيما رأت أخرى أن الاتفاقية تضمن المصالح الوطنية العراقية، وهو أمر اذا ثبتت صحته سيسر كل مواطن عراقي يحرص على أمن وحرية واستقلال بلاده. لكن المهم في رأينا هنا، ليس هذا الذي يطفو على السطح وسط الضجيج الإعلامي، وإنما تلك الموضوعات الخطيرة، التي لا يراد لها أن تخرج إلى العلن لإلحاقه الضرر بالسيادة و بمصالح العراق الوطنية.

المعلن من الاتفاقية من بنود يحتاج إلى تفسير خبراء القانون الدولي، وإذ لم يكن للحكومة مثل تلك الخبرات فعليها الاستعانة بالدول الصديقة، أو بخبراء دوليين تستأجر خدماتهم لفترة محدودة من الوقت.

 التأكد من مدى مطابقة النص الانكليزي للنص العربي  أمر في غاية الأهمية يمنع سوء الفهم مستقبلا عند مباشرة تنفيذ الاتفاقية. ومن جهة أخرى يضمن عدم وجود عبارات أو نصوصا تخفي ما وراءها معان تفرط بحقوق العراقيين بثرواتهم الاقتصادية. ومن الضروري أن يتم ذلك بمعزل عن الزعيق والثرثرة الدعائية التين تقف ورائهما مصالح وقوى إقليمية لا تريد للعراق الاستقرار والتقدم. أن بعض الجهات السياسية قد أبدت مخاوفها بالفعل من عدم مطابقة النصين الانكليزي و العربي للاتفاقية، وهذا يمكن تلافيه أن لم يكن مقصودا. لكن المشكلة الأعظم، هي تلك البنود الملحقة بالاتفاقية التي لا يراد كشف النقاب عنها، التي ربما تكون تبعاتها خطيرة على سيادة العراق و ثرواته النفطية.

 واذا صح وجود مثل تلك البنود بالفعل، فأن السلطات العراقية ملزمة بمكاشفة الشعب وأخذ رأيه فيها. واذا ما قررت السلطات العراقية التكتم على مضامين تلك البنود، فأن الكشف عن تفاصيلها لن يأخذ من الوقت طويلا، وعندها فأن معالجة الخلل ستكون متأخرة جدا.

لقد ناقش مجلس الوزراء والمجلس السياسي للأمن القومي، وبعض اللجان البرلمانية مسودة الاتفاقية المقترحة دون أن تعلن نتائج تلك المناقشات. لكن التسريبات الصحفية قد ذكرت أن المناقشات قد دارت بالفعل حول الولاية القضائية على تصرفات العسكريين الأمريكان وفيما إذا هي من حق القضاء العراقي أم الأمريكي، لكن هناك موضوعات كان من المهم مناقشتها أكثر أهمية من الولاية القضائية.

 الولاية القضائية مرهونة بمدة بقاء القوات الأمريكية ومستخدميهم على التراب العراقي، وهذه مدة ستكون محددة بالضرورة، لكن هناك قضايا ستلزم العراق بها لعشرات من السنين في المستقبل، وهذه بالذات ما ينبغي التركيز عليها والخشية منها ومن تبعاتها.

نحاول هنا التعرض إلى ملابسات تلك الموضوعات وإلى أخرى، من خلال استعراض بنود الاتفاقية ذاتها، ووجهة نظرنا بها بصرف النظر عما أبدي حولها من أراء بالرفض أو القبول.

لقد ورد في مسودة الاتفاقية عبارات أشبه بكرة إسفنجية، ما أن تضغط عليها من جهة حتى تظهر لك من الجهة الأخرى. ففي بداية المسودة نقرأ –

"أن الطرفين يقران بأهمية: تعزيز أمنهما المشترك، والمساهمة في السلم والاستقرار الدوليين، ومحاربة الإرهاب في العراق، والتعاون في مجالات الأمن والدفاع، " ومن خلال كل ذلك " (التشديد من قبلنا) ردع التهديدات الموجهة ضد سيادة وامن ووحدة أراضي العراق؛ وإذ يؤكدان أن مثل هذا التعاون مبني على أسس الاحترام الكامل لسيادة كليهما وفق أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة ".

 يفهم من هذه الديباجة، أن ردع التهديدات الموجهة ضد سيادة بلدنا تتم من خلال إقرار الطرفان بأهمية تعزيز أمنهما المشترك والمساهمة في السلم والاستقرار الدوليين....  إلى أخر العبارة. وهذه بديهة لا يحتاج الإعلان عنها والأخذ بها إلى قوات وقواعد عسكرية على أرض العراق، ولو أحترم صدام حسين هذا الإقرار خلال فترة حكمه لما انتهى الى ما انتهى اليه.

لكن ممثلي التحالف الكردستاني المؤيدون بدون تحفظ و الساعون لتوقيع الاتفاقية، لم يبينوا لماذا هم متفائلون جدا بالتعهدات الأمريكية حول الردع الواردة  فيها، مع العلم أن مثل تلك التعهدات لا ترقى إلى التزامات المعاهدات الدولية التي تعقد بين دولتين ذي سيادة، والتي تشترط موافقة المجالس التشريعية في البلدين لتتمتع الالتزامات المتضمنة فيها بقوة القانون. ولاهي بحلف دفاعي يلتزم الطرفان فيه بالدفاع عن بعضهما عند التعرض لعدوان من طرف ثالث.  والأكراد لهم أكثر من تجربة مع التعهدات الأمريكية من هذا النوع، فقد تنصلت الولايات المتحدة عن تعهدات قطعتها لهم في العقود الماضية خدمة لمصالحها الخاصة. 

حول الولاية القضائية

جاء في الفقرة 1 من المادة الثانية عشرة:  " أن الولاية القضائية تكون للقضاء الأمريكي على افراد القوات والعنصر المدني بشأن أمور تقع داخل المنشآت والقواعد الأمريكية، وأثناء الواجب خارجها".

 أما بشأن الجنايات المتعمدة والجسيمة والتي ترتكب خارج المنشآت والقواعد، فتوضحها الفقرة 2 من نفس المادة بالآتي:

" يكون للعراق الحق الرئيسي لممارسة الولاية القضائية على المتعاقدين مع الولايات المتحدة ومستخدميهم "

 أن الفقرة 2 منحت الطرف العراقي حق الولاية القضائية ليس على أفراد الجيش الأمريكي، بل على المتعاقدين معه ومستخدميهم، بما يعني استثناء العسكريين الأمريكان من الملاحقة القانونية العراقية. لكن المشرع الأمريكي عاد ليسلب حق الولاية الذي منحه  للقضاء العراقي  في  الفقرة 2 أعلاه، كما نصت عليه الفقرتين 6 و8 من نفس المادة كما يلي::

الفقرة 6- يجوز لسلطات أي من الطرفين ان تطلب من سلطات الطرف الآخر ان يتخلى عن حقه الرئيسي في الولاية القضائية في حالة معينة. توافق حكومة العراق على ممارسة الولاية القضائية طبقا للفقرة 2 اعلاه، فقط بعد اقرارها وإخطارها الولايات المتحدة تحريريا، خلال 21 يوما من اكتشاف الجريمة التي يزمع انه! ا وقعت، بالاهمية الخاصة لممارسة تلك الولاية القضائية.

 الفقرة 8 - وفي الحالات التي يمارس فيها العراق الولاية القضائية عملاً بالفقرة 2 من هذه المادة، يكون لأفراد القوات والعنصر المدني الحق في أن تُطبق عليهم معايير الإجراءات القانونية والحمايات المتماشية مع تلك المتاحة بموجب القانون الأمريكي والقانون العراقي. سوف تضع اللجنة المشتركة إجراءات وآليات لتنفيذ هذه المادة، تشمل سرداً للجنايات الجسيمة والمتعمدة التي تخضع للفقرة 2 وإجراءات تفي بمعايير المحاكمة المشروعة والحمايات. ولا يجوز ممارسة الولاية القضائية عملاً بنص الفقرة 2 من هذه المادة إلا وفقاً لهذه الإجراءات والآليات.

حقوق الاستيراد والتصدير التي يتمتع بها أفراد القوات العسكرية ومستخدميهم

 المادة الخامسة عشرة تمنح أفراد القوات الأمريكية والمتعاقدين معها حقوق الاستيراد وإعادة التصدير والتصدير دون مراعاة للقوانين والنظم العراقية السائدة، حيث جاء فيها:

" لا تخضع للتفتيش عمليات استيراد مثل هذه المواد وإعادة تصديرها ونقلها واستخدامها، ولا تخضع كذلك لمتطلبات الإجازات أو لأي قيود أخرى أو ضرائب أو رسوم جمركية أو أي رسوم أخرى تُفرض في العراق، وفقاً للتعريف الوارد في الفقرة رقم 10 من المادة الثانية. ولا يخضع تصدير البضائع العراقية من قبل قوات الولايات المتحدة والمتعاقدين معها لأي تفتيش أو أي قيود عدا متطلبات الإجازة. وتعمل اللجنة المشتركة مع وزارة التجارة العراقية وفقاً للقانون العراقي لتسهيل توفير متطلبات الحصول على الإجازة لغرض قيام قوات الولايات المتحدة بتصدير البضائع التي اشترتها في العراق لأغراض هذه الاتفاقية ". انتهى النص.

يفهم من أعلاه أن أفراد القوات الأمريكية ومستخدميهم أيا كانت جنسياتهم ومهامهم  يتمتعون بحرية مطلقة في إخراج أي شيء من بلادنا دون أن يكون للجانب العراقي أي علم بكمية وطبيعة وقيمة الأشياء المصدرة أو المعاد تصديرها، هذا إضافة إلى إعفاءها من أية رسوم أو ضرائب عراقية. واذا ما استعدنا ألأحداث التي رافقت الغزو الأمريكي للعراق في آذار 2003، نتذكر أن ما تعرض للنهب في المتاحف والبنوك والمكتبات والممتلكات الحكومية وتلك الخاصة بالعائلة الحاكمة، قد تم رصدها في الولايات المتحدة وأوربا وإسرائيل والدول العربية المجاورة وفي مناطق أخرى من العالم. لقد تم ذلك بعلم قوات التحالف بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فمن يضمن وقف  تصدير ممتلكات العراق اذا لم تكن للسلطات العراقية الحق في مراقبة ما يصدر أو يعاد تصديره إلى خارج حدودها ؟.

ولابد أن نتساءل – لماذا تتمسك القوات الأمريكية ومستخدميها بحق الفيتو على حق العراق في حماية ممتلكاته وتطبيق نظمه وقوانينه على نشاطات أفراد قواتها العسكرية ومستخدميهم، اذا لم تكن هناك نيات مبيتة  لمزاولة أنشطة مضرة بالاقتصاد والمجتمع وتراثه؟.

موضوع رفع العراق من تبعات الفصل السابع وقرار مجلس الأمن رقم 661

المادة السادسة والعشرون تتعرض للفصل السابع من قرار مجلس الأمن رقم 661  فتثير الكثير من التساؤلات والشجون. لابد للمتابع لأوضاع العراق منذ الأيام الأولى لاحتلاله، ولحين طرح موضوع الاتفاقية الأمنية المزمعة، أن يتساءل، لماذا لم تقم الولايات المتحدة قبل الآن بإجراءات إنهاء تطبيق الفصل السابع المتضمن في قرار مجلس الأمن رقم 661 (1990)، وهي نفسها قد أنهت قدرات العراق المهددة للأمن والسلام الدوليين. وبما أن التهديد الذي كان العراق يشكله إبان صدور قرار مجلس الأمن رقم 661 قد ارتبط بادعاءات الولايات المتحدة نفسها  بتملك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ولأنه قد ثبت لمجلس الأمن والعالم أن تلك الادعاءات باطلة، فإن الحجج التي أتخذ على أساسها ذلك القرار قد أسقطت، ولا مسوغ لبقا! ء العراق خاضعا للفصل السابع من قرار مجلس الأمن المشار اليه.

ما ورد في المادة السادسة والعشرين من الاتفاقية قد كرس لهذه القضية بالذات، حيث جاء فيها:

" واعترافاً كذلك بالتطورات الكبيرة والإيجابية في العراق، وتذكيراً بأن الوضع في العراق يختلف اختلافاً أساسياً عن الوضع الذي كان قائماً عندما تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم 661 عام 1990، لا سيما أن الخطر الذي كانت تشكله حكومة العراق على السلام والأمن الدوليين قد زال: فإن الطرفين يؤكدان في هذا الصدد أن مع إنهاء العمل يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2008 بالولاية والتفويض الممنوحين للقوات متعددة الجنسية بمقتضى الفصل السابع المتضمن في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1790 (2007)، ينبغي أن يسترد العراق مكانته القانونية والدولية التي كان يتمتع بها قبل تبني قرار مجلس الأمن الدولي رقم 661 (1990)، ويؤكدان كذلك أن الولايات المتحدة سوف تبذل أفضل جهودها لمساعدة العراق على اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك بحلول يوم 31 ديسمبر/كانون الأول عام 2008.

لقد انتظرت الولايات المتحدة أكثر من خمس سنوات لتقول ما كان يجب أن تقوله في الشهور الأولى من احتلالها للعراق، بعد أن تأكد لها، إن العراق لم يكن يشكل  خطر على السلم والأمن الدوليين لا قبل القرار661 ولا بعده. لقد راوغت الولايات المتحدة طوال فترة احتلالها للعراق  بشأن رغبته للخروج من البند السابع، وقد اتضح حاليا أنها تعمدت ذلك بخبث.

 أنها الآن تمارس ابتزاز العراق من خلال التهديد برفع الحماية عن قدراته الحالية والمستقبلية من النفط والغاز في حالة عدم توقيعه الاتفاقية المقترحة، وهو ما يثير الشكوك حول مصداقية الولايات المتحدة وراء  قرار رئيس الولايات المتحدة بتلك الحماية. وان تكرار الولايات المتحدة بطلبها من العراق توقيع  الاتفاقية في موعد حددته هي، لا يعتبر أمرا عاديا في العلاقات الثنائية بين دولتين تتمتعان بالسيادة، بل بالعكس تشير إلى علاقات غير متوازنة يكون فيها الطرف العراقي ضعيفا ومغلوبا على أمره في حين تجثم على أرضه أكثر من 300000 ألف عسكري من أفراد جيشها ومستخدمي شركاتها الأمنية.

بهذا الخصوص نشرت جريدة الحياة البيروتية بتاريخ 20/10 /08 مقالا للحقوقي الدولي السيد محمود المبارك بعنوان " العراق: الاتفاق الأمني تحايل على الاحتلال " جاء فيه:

" من الناحية القانونية، فإضافةً إلى كون هذا الاتفاق ملزماً لطرف واحد، فإن هناك جانباً خفياً يبدو واضحاً للمختصين، وهو أن الإدارة الأميركية ومنذ فترة تحاول الضغط على الحكومة العراقية لقبول هذا الاتفاق قبل نهاية العام الجاري، الموعد المحدد لانتهاء تفويض الأمم المتحدة للقوات الأميركية باحتلال العراق. وشملت هذه الضغوط السياسية الأميركية عدم رفع حال العراق من الفصل السابع في مجلس الأمن، قبل التوقيع على هذا الاتفاق ". ويستطرد الحقوقي الدولي في مقاله ويقول:

"يذكر أن هذا "الإكراه" من الجانب الأميركي، قد يكون سبباً في بطلان هذا الاتفاق. ذلك أنه بموجب المادة 52 من اتفاق فيينا لقانون المعاهدات، تكون المعاهدة باطلة إذا تم التوصل إليها عن طريق الإكراه".

ان الاتفاقية الأمنية تتعلق بثروة النفط والغاز ومنتجاتهما والأصول العراقية ومطالبات مجلس الأمن، وهي أمور تطرقت اليها المادة السابعة والعشرون من الاتفاقية. وبهذا الخصوص  يحتاج الشعب الى توضيح موقف الحكومة العراقية ووفدها المفاوض  من هذه القضية المهمة، وبضرورة مكاشفته بالحقيقة، وما يترتب على تخلي الولايات المتحدة عن قرارها بحماية تلك الموارد،! وفيما اذا كانت منظمة الأمم المتحدة  تقر ذلك التهديد برفع الحماية عن القدرات الاقتصادية العراقية. ولابد للحكومة العراقية ان توضح موقفها بناء على رأي المختصين الدوليين، وعن تبعات عدم التوقيع على الاتفاقية الأمنية بصيغتها الحالية غير المتوازنة.

أن رجوع الحكومة إلى الشعب في مثل هذه القضايا المهمة، ذات العلاقة بسيادة العراق على ثرواته الوطنية، يدعم موقفها أمام الجانب الأمريكي، الذي يبدو واضحا أنه يستغل ضعف الموقف العراقي المفاوض. وعلى الحكومة أن تكون شديدة الحذر في قرارها بالتوقيع على اتفاقية لا تخدم مصالحنا الوطنية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 26/تشرين الأول/2008 - 26/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م