كربلاء.. الاخذ ام العطاء؟

محمد علي جواد

يبدو ان توافد جموع الزائرين الى كربلاء المقدسة في مناسبات مختلفة، خلق تصوراً لدى البعض بان هذه المدينة عبارة عن فرصة للاخذ والاستثمار في المال والسلطة وحتى الفكر والثقافة.. لذا نجد اليوم هذه المدينة تتميز دون مدن العراق الاخرى بكثرة الغُرماء! فمنهم من يجاهر بطلبه ومنهم من يخفت متبعاً الاسلوب غير المباشر وكل حسب ظروفه ومنطلقاته وغاياته.

 وهذا واقع يدعو للحيرة والغرابة في وقت واحد حيث ان مدينة بالمواصفات الموجودة في كربلاء المقدسة يفترض باختصار وبكل بساطة ان تكون اغنى وارقى مدينة في العالم الاسلامي اذا لم نقل في العالم كله.

هذا في مجال الافتراض، لكن واقعنا يتحدث عن حال آخر، فالامن ـ مثلا لا حصراً ـ وهو من اساسيات الحياة، لا يتحقق باجراءات لا نقاش فيها وبطاقم لا نقاش فيه ايضاً، واذا ما حصل ان صدر قرار بتغيير هذ الطاقم فهناك مطالبة ملحة مع تهديد مبطّن لابقاء هذا الطاقم وعدم الاستغناء عنه لانه بمغادرته (يغادر الامن كربلاء)! ثم الخدمات.. وهي موزعة على مجالات عديدة: من كهرباء وماء وطرق وصحة وتعليم وغيرها، فبات الحديث عنها يثير الاشمئزاز لدى المواطن الكربلائي، لما يراه من اهمال متعمد وسوء ادارة ليس لاسباب فنية مثل عدم وجود المقاول او المتعهد للمشروع وانما لعدم توفر فرصة (الاخذ)؛ وهذا الكلام ليس بالضرورة ان يكون تحاملاً على احد او جهة معينة، لان واقع الحال اصبح ميزة تكاد تلتصق بكربلاء المقدسة، ولعلنا بذلك نفسر عدم اكتراث الحكومة في بغداد وهي ترى عودة مليارات الدنانير من المدينة المقدسة قبل ان تصرف في مشاريع اعمار المدينة المقدسة.

 والمثير حقاً ان نسمع على الصعيد الاجتماعي مطالبة من أُناس الى أُناس آخرين بان عليهم التمرد على الاجراءات الامنية القاسية مثل الابواب الحديدية حول المدينة او ابراج القناصة على اسطح البنايات، والا فهم (جبناء)، بل وصل الحال الى الزائر المتوجه الى ضريح الامام الحسين ـ عليه السلام ـ في ليالي الجمع طوال السنة والمناسبات المختلفة، فهذا عليه تجشمّ عناء الطرق الخارجية ثم الداخلية والمرور عبر الحفر والطرق الوعرة والمستنقعات.

اما على الصعيد الاقتصادي فان الحديث قد يطول حول القطاع الانتاجي المشلول والاستثمار المجمد لوجود اجندة سياسية ومصالح متقاطعة تحول دون تمكن هذه المدينة من التقدم في مسيرة الانتاج والاستثمار وهي الاقدر من غيرها في البلاد.

وربما يتساءل البعض بعد كل هذا عن ماهية العطاء اذا كبحنا جماح الاخذ، فماذا يجب ان نقدم لكربلاء المقدسة؟!

 انه السؤال العريض الذي يجب ان يفكر به ليس فقط سكان المدينة وانما كل من يحمل شعاراتها ومبادئها في مواسم الزيارة والتحشد الجماهيري العفوي.. وقد ياخذ علينا البعض تحميل الامور اكثر من طاقتها، او ان (فاقد الشيء لا يعطيه)، بمعنى ان نقبل وضعاً لهذه المدينة مشابهاً للام ووليدها ـ والامثال تضرب ولا تقاس ـ فالام تعطي وتمنح اللبن والطفل الوليد ياخذ وحسب، لكن حسبنا خمس السنوات الخوالي بعد سقوط صنم بغداد وانقشاع الغيوم عن حقائق كثيرة، في مقدمتها حقيقة البعد الديني والحضاري لكربلاء المقدسة، ثم ان جميع شرائح المجتمع وفي طليعتهم الشريحة المثقفة ادركت ما قام به النظام البائد من سياسة التجهيل والتسطيح وتمييع المفاهيم والقيم وإرساء افكار وتوجهات غريبة ودخيلة على هذه المدينة المقدسة، اما اليوم فلا احد يشك في قدرة العراقي والكربلائي على وجه الخصوص في الوقوف على قدميه بشموخ واعتزاز لما لديه من تراث وثقافة، ونحن نلتقي مع هذه الشريحة عند هذه الرؤية التي تعد الوعي والثقافة في العهد الجديد بمنزلة امانة سلمها لنا الشهداء والمضحّون طوال العقود الماضية، والذين علمونا فنون العطاء وسبل التضحية من اجل المبادئ والقيم التي ضحى من اجلها الامام الحسين ـ عليه السلام ـ، وهي نفسها التي تحمي كربلاء وقدسيتها من القضم والغرم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/تشرين الأول/2008 - 14/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م