الأزمة المالية الأمريكية وبوادر الكساد العظيم

شبكة النبأ: لم تقف تداعيات الأزمة المالية التى اجتاحت أسواق المال الأمريكية على انهيار مؤسسات مالية كبرى مثل بنك ليمان براذرز، لكن انتقلت اثارها السلبية إلى الساحة السياسية الأمريكية، باحتدام الجدل داخل أروقة الكونجرس حول خطة الدعم التي قدمتها الإدارة الأمريكية، فى محاولة منها لإعادة الحيوية إلى الاقتصاد، ومنع دخوله مرحلة ركود كبرى قد تهدد النظام الاقتصادي العالمي برمته فى المستقبل القريب. وتعيد الى الأذهان كابوس ما دعى في حينه بـ الكساد العظيم.

فبالنسبة لجيل من المسنّين يشبه ذلك ما حدث في الثلاثينات والتجربة القاسية المتمثلة في تبدد مدخراتهم وصعوبات المعيشة والجوع الذي غَيَر أسلوب ادارتهم لحياتهم على مدى فترة طويلة من التحسن البطيء التي أعقبت ذلك.

فعندما انهارت البورصة الامريكية في عام 1929 تذكر هيلين هاس، المتقاعدة، انها وقفت في الصف مع أمها أمام بنك في شيكاجو لسحب مدخراتها البالغة 50 دولارا وخرجت من البنك بدولارين فقط.

ويذكر اميرسون كولو ان أسرته خسرت مزرعتها في كنساس عندما أغلق البنك تاركا والده دون مال لشراء البذور لمحصول العام التالي.

وفي حين ترك الملايين أعمالهم أثناء الكساد العظيم الذي أعقب ذلك يذكر كارل اوليس انه كان يضطر للوقوف في طابور للحصول على خبز قديم.

وقال أوليس "لم يكن باستطاعتنا شراء الخبز الطازج وكان هناك مخبز على الرصيف المقابل. كان أفضل ما يمكننا عمله هو شراء الخبز القديم المخبوز من أسبوع وإعادة تسخينه في المنزل."

والمشرعون الأمريكيون يناقشون هذا الاسبوع خطة قيمتها 700 مليار دولار لانقاذ بنوك الاستثمار لتجنب ما يقول البعض انه قد يكون أكبر أزمة مالية منذ الكساد العظيم.

وفي حين ان أغلب الأمريكيين لم يشعروا بأثر يُذكر للاضطرابات التي تشهدها وول ستريت إلا أن الحديث عن الأزمة المالية يعيد الى الاذهان ذكريات أزمة الائتمان قبل ثمانية عقود التي اخرجت جيلا كاملا من العاملين من مزارعهم وظائفهم واقتربت بالكثيرين من الموت جوعا.

وهاس (94 سنة) تقيم في دار للمسنين في فونيكس. وتذكر كيف سمحت أمها بأقامة غرباء في منزل الاسرة في غرب شيكاجو في الثلاثينات لمساعدتها على كسب عيشها في حين كان العاطلون في الخارج يواجهون الموت جوعا. بحسب فرانس برس.

وقالت "الناس كانوا يموتون من الجوع. كانت طوابير من الناس تصطف للحصول على تفاحة. كان أمرا مؤسفا."

وعلى الجانب الآخر من البلاد في بالتيمور لم تكن حياة اوليس أفضل حالا. ويبلغ أوليس حاليا 83 عاما. كان يكنس الممرات وينظف السيارات للحصول على بضع سنتات إضافية لأسرته التي كانت تعيش على وجبات بسيطة من البازلاء والقمح مع خبز قديم.

وكان كولو في ذلك الوقت يرقب الأُسر في ريف كانساس وهم يعودون الى نظام المقايضة لتدبير عيشهم وسط أزمة النقود في الثلاثينات عندما سقط نحو تسعة الاف بنك مثل قطع الدومينو في الولايات المتحدة.

وقال كولو البالغ من العمر حاليا 86 عاما "كانت من اللحظات الدرامية المهمة في حياتي لحظة الحصول على دراجة. كانت أمي تورّد الدجاج المتبّل للمالك وبهذه الطريقة دفَعتْ ثمن الدراجة.. رحمها الله."

ويواصل المشرعون في الكونجرس جدلهم هذا الاسبوع بشأن الخطة التي عرضها الرئيس جورج بوش لشراء ما قيمته 700 مليار دولار من المساكن والرهون العقارية التجارية لتحقيق الاستقرار في البنوك بسحب الاصول الخطرة من كشوف حساباتها.

وتهدف الخطوة الى تجنب تكرار أزمة الائتمان الطاحنة التي أعقبت الانهيار العظيم في عام 1929 والذي بدأ كسادا عالميا.

والأزمة الراهنة غيرت بالفعل شكل وول ستريت حيث أفلست بنوك استثمار أو اشترتها الحكومة أو اضطرت للارتماء في أحضان مؤسسات أكبر منها.

وبالنسبة لجيل من المسنين يشبه ذلك ما حدث في الثلاثينات والتجربة القاسية المتمثلة في تبدد مدخراتهم وصعوبات المعيشة والجوع الذي غَيَر أسلوب ادارتهم لحياتهم على مدى فترة طويلة من التحسن البطيء التي أعقبت ذلك.

وادخرت هاس وزوجها مثل الكثيرين من أبناء جيلهما كل ما أمكنهم من مال كل شهر لسداد أقساط منزلهم وشراء سلع غالية الثمن مثل سيارة بعد سنوات طويلة من الادخار. وقالت "لم يكن هناك بطاقات ائتمان. كان زوجي لا يستطيع شراء أي شيء الا بعد ان يجمع ثمنه نقدا."

الأزمة المالية تربك الكونجرس الامريكي

وانتقلت اثار الأزمة المالية إلى الساحة السياسية الأمريكية، باحتدام الجدل داخل أروقة الكونجرس حول خطة الدعم التى قدمتها الإدارة الأمريكية في محاولة منها لإعادة الحيوية إلى الاقتصاد، ومنع دخوله مرحلة ركود كبرى قد يهدد القوة الأمريكية. وقد أثارت هذه الخطة عاصفة من الانتقادات داخل الكونجرس، كانت محل اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية خلال هذا الأسبوع. بحسب موقع تقرير واشنطن.

فمن جانبها اهتمت شبكة راديو NPR بالأسباب التى دعت الكونجرس الأمريكى إلى إثارة هذا الجدل الكبير حول خطة إنقاذ الاقتصاد الأمريكي التى طرحتها الإدارة الأمريكية، واعدّت ماريا جودوى تقريرا للشبكة تناولت فيه محاولات الكونجرس الأمريكي ممثلا فى لجانه المختصة بمناقشة خطة الدعم هذه، والتى يقوم جوهرها على استخدام أموال بنك الاحتياط الأمريكي فى ضخ أكثر من 700 مليار دولار فى أسواق المال من أجل شراء ديون المؤسسات المالية المتعثرة، لمنع دخول الاقتصاد مرحلة ركود كبيرة توقعها الرئيس الأمريكى فى خطابه الذى توجه به إلى الأمة الأمريكية نهاية هذا الأسبوع.

وركز التقرير على جلسة الاستماع التى عقدتها لجنة البنوك فى مجلس الشيوخ الأمريكى لكل من وزير الخزانة هنرى بولسون ورئيس بنك الاحتياط بين بيرنانك، وأكدت جودوى أن السؤال الاساسى الذى شغل ذهن المشرعّين فى الكونجرس هو هل ستمثل خطة الدعم طوق النجاة للاقتصاد الأمريكى؟ وهل ستكون العصا السحرية التى ستنتشل الاقتصاد من أزمته الآنية؟

تفويض للسلطات لم يحدث من قبل

ورصد التقرير بعض وجهات النظر المتعلقة بما تحتويه هذه الخطة من سلطات كبيرة تمنح للإدارة الأمريكية، فقد أكد جون ماسى أستاذ القانون ونائب عميد كلية يال للقانون أن ما تحتويه هذه الخطة يعتبر أمراً خطير للغاية، حيث تشير القراءة المتعمقة لها إلى إجراءات تتضمن عملية من اكبر عمليات نقل السلطات والصلاحيات من السلطة التشريعية ممثلة فى الكونجرس إلى السلطة التنفيذية ممثلة فى الإدارة، حتى أن هذا التفويض – الذى تتضمنه الخطة - يتجاوز بكثير عملية تفويض السلطات والصلاحيات الذى حدث عند إقرار القانون الوطني عقب أحداث الحادى عشر من سبتمبر، أيضا تتجاوز فى مضمونها ومحتواها مجموعة السلطات والصلاحيات التى يخولها القانون والدستور الأمريكي للسلطة التنفيذية فى أثناء الحروب.

خطة الدعم ليست البديل الأفضل

وفى هذا السياق لفتت جودوى الانتباه إلى انه بمقتضى هذه الخطة فانه سيكون للإدارة الأمريكية حق التدخل بصورة غير مسبوقة فى عملية إدارة الأسواق، الأمر الذى قد يخل بالقواعد المعمول بها فى اقتصاديات السوق الحر، عن طريق السماح بدور اكبر للدولة فى توجيه الاقتصاد الوطني. فعلى سبيل المثال يعتبر احد المبادئ الأساسية لاقتصاد السوق أن المستثمر (أو المنظم بالمفهوم الاقتصادي) فى إطار هذا النوع من الفلسفة الاقتصادية يٌقدِم على المخاطر الكبيرة، من اجل تعظيم المكاسب التى يجنيها فى حالة نجاح هذه المخاطرة، ولكن هذا النموذج الاقتصادى يحمل فى ثناياه أيضا إمكانية الخسارة، ولكن الخطة التى قدمتها الإدارة الأمريكية تقوض هذا النموذج تماما، فتعمل على أن يكون المكسب فقط من نصيب القطاع الخاص، بينما تكون الخسارة من نصيب القطاع العام.

وفى هذا السياق أيضا أشارت جودوى إلى أن خطة الدعم هذه سوف تخّول وزير الخزانة سلطات واسعة فى شراء أصول المؤسسات المتعثرة، فضلا عن مجموعة من السلطات الكبيرة فى مراقبة الأصول المالية فى أى مكان وبالطريقة التى يراها ملائمة، بما فى ذلك الخروج على الممارسات الحكومية المعروفة فى مجال التعاقدات، حيث تسمح لها الخطة بإمكانية التعاقد مع شركات خاصة لإدارة هذه الأصول المتعثرة. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الخطة تحصّن نفسها من إمكانية إعادة النظر فيها، فالخطة وان كانت تفرض على الإدارة الأمريكية أن تقدم تقريرا دوريا إلى الكونجرس عن أخر ما توصلت إليه جهودها فى مواجهة الأزمة الاقتصادية، فإن هذه الخطة فى نفس الوقت ليست خاضعة لأى نوع من المراجعة القضائية.

وبالتالى تصل جودوى إلى نتيجة مفادها أن خطة الدعم ليست هى البديل الأفضل، الأمر الذى دفع العديد من الخبراء الاقتصاديين إلى تقديم عدد من البدائل الأخرى لهذه الخطة. لأنها تحتوى على العديد من النقاط التى تعتبر محل خلاف كبير بين أعضاء الكونجرس والخبراء الاقتصاديين من جانب والإدارة الأمريكية من جانب أخر.

أولى هذه النقاط متعلقة بتحمل دافعى الضرائب الأمريكيين كافة المخاطر بقيام الحكومة بشراء كافة ديون المؤسسات المتعثرة حسب ما تقتضيه خطة الإدارة، ولكن الاقتصاديون ونواب الكونجرس اقترحوا أن تقوم الحكومة بشراء مجموعة من أسهم - فيما سُمَى " Equity stakes" - هذه المؤسسات وبالتالي يصبح دافعى الضرائب شركاء فيها، ويصبح لهم حصة فى الأرباح التى قد تجنيها هذه المؤسسات فى المستقبل، عندما تتجاوز عثرتها المالية، ولكن وزير الخزانة هنرى بولسون رفض هذه الفكرة تماما على اعتبار أنها تجعل برنامج الدعم غير فعّال ولن يؤتى ثماره.

أما ثاني نقاط الخلاف – طبقا لما جاء فى التقرير - فمتعلقة بتقييم الأصول "، حيث أكد التقرير انه بالفعل هناك بعض المستثمرين الراغبين فى شراء أصول المؤسسات المتعثرة، ولكن المشكلة أن هؤلاء يريدوا شراء هذه الأصول بأقل كثيرا من قيمتها السوقية، وهو الأمر الذى ترفضه هذه المؤسسات مطلقا، ولذلك فان احد الانتقادات الأساسية أن الأسواق المالية ينقصها وجود راس المال الكافى، ولذلك فان الطريقة الأفضل لضمان نجاح خطة الدعم التى طرحتها الإدارة الأمريكية هو أن تشترى هذه الأصول بأكثر من قيمتها السوقية، أو تسمح للمستثمرين بشراء هذه الأصول. ويقترح وزير الخزانة فى هذا الشأن أن تتم تحديد قيمة هذه الأصول من خلال مزايدة علنية عكسية، يكون هدفها النزول بمستوى أسعار هذه الأصول.

ثالث هذه النقاط متعلق بمعاقبة الشركات والمؤسسات التى كانت احد الأسباب فى حدوث الأزمة، وبالتالى فان هذه الشركات والمؤسسات لا يجب أن تستفيد من خطة الدعم الفيدرالي، ولكن وزير الخزانة يرفض تماما هذه الفكرة أيضا على اعتبار أن تحديد عدد المستفيدين سوف يكون احد العوامل المعوقة لنجاح الخطة.

على الكونجرس التحرُّك

ومن ناحية أخرى تواترت الأصوات المطالبة بسرعة تحرك الكونجرس من اجل إعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكى وإنقاذه من الانهيار، لأن الوقت المتاح أمام أعضاء الكونجرس قليل للغاية ولذلك فان عليهم حصر البدائل والخيارات المتاحة لهم، واختيار الأفضل من بينها، لان الوقت ليس فى صالح الاقتصاد، وهو الأمر الذى حذر منه وزير الخزانة ورئيس بنك الاحتياط الفيدرالي فى اجتماع مغلق فى الكونجرس، حيث أكدوا على أن هناك المزيد من النتائج الوخيمة التى سوف تترتب على عدم التحرك واتخاذ الإجراء المناسب – وهو الموافقة على الخطة التى قدمتها الإدارة الأمريكية.

وعلى شبكة CNN أذاع برنامج CNN Election Center حلقة عن الجدل المحتدم داخل الكونجرس، حيث أشار التقرير إلى أن الاقتصاد الأمريكى سوف يظل فى خطر شديد طالما لم يتعاطى الكونجرس بسرعة وفاعلية مع هذه الأزمة، من خلال إقرار الخطة التى قدمتها الإدارة الأمريكية لإنقاذ المؤسسات المالية من الانهيار أو إيجاد بديل مناسب لها، لان استمرار هذا المناخ من الشكوك وعدم اليقين التى تحوم حول قدرة الإدارة الأمريكية على التعامل مع الأزمة المالية وإنقاذ الاقتصاد الوطنى انعكس بالسلب على بورصة وول ستريت الأمر الذى ينذر باحتمال التعرض لانهيارات جديدة داخل سوق المال الأمريكى.

وفى هذا الإطار اعد أى آلى فيلشى تقريرا للبرنامج أكد فيه أن ما تم من إجراءات فى الفترة الماضية ليس بكاف على الإطلاق، فهناك معارضة متزايدة من جانب الكثير من الأطراف، هذه المعارضة تركزت حول عدد من الموضوعات الأساسية، الأولى أثارها الحزب الديمقراطى داخل الكونجرس، وتعلق بمن سيكون المسئول عن إدارة هذه الأزمة خصوصا فى ظل خطة الدعم والتى تقضى باستخدام أكثر من 700 مليار دولار من الاحتياطى الأمريكى، والتى هى فى الأساس من أموال دافعى الضرائب، إذن فمن سيكون المسئول عن إدارة هذه الأموال؟ لان وزير الخزانة طلب إعطائه صلاحيات وسلطات غير مسبوقة للتصرف فى هذه الأزمة من اجل مواجهة أزمة الاقتصاد. والموضوع الثانى هو تضمين المتضررين من أزمة الرهن العقارى التى اجتاحت – وما تزال – الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يصر الأعضاء الديمقراطيون على أن يستفيد هؤلاء من هذه الخطة، خصوصا مُلاك المنازل، وهؤلاء الذين حصلوا على قروض ولكنهم تضرروا من أزمة الرهن العقارى. ومشكلة أخرى – اعتبرها فيلشى من اخطر المشكلات التى تواجه كامل النظام المالى الأمريكى – هى مشكلة متعلقة بالائتمان، حيث أكد فيلشى أن الائتمان داخل الولايات المتحدة فى الوقت الحالى يعانى الكثير من الصعوبات والإجراءات المعقدة، من ثم فان الشركات التى هى فى حاجة إلى المال من اجل الاستمرار فى أنشطتها لن تجد المصدر الذى يزودها بمثل هذا المال، الأمر نفسه ينطبق على البنوك، مما سيكون له اكبر الأثر السلبى على قدرة الأفراد على سداد قروض الرهون العقارية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/تشرين الأول/2008 - 9/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م