غابت الفكرة الهادفة عن النص الدرامي العراقي منذ سنوات لأسباب
جلها يتعلق بالخوف من الحقيقة ألتي يسبب البوح بها زعل السلطة
والنظام السياسي، ما أدى إلى تمايل مسيرة كاتب النص العراقي بين
أفكار بسيطة ترمي إلى إضحاك المشاهدين والركض بأقصى سرعة بعيدا عن
دائرة الخطر. ولكن المشكلة أن العمل الدرامي لاينجح إن لم يسجل
حضورا لمشكلة الإنسان والهم الذي يعاني منه، كما لايمكن لكاتب النص
التحكم بعقلية المشاهد وذوقه ويفرض عليه ما يشاهده إلا إذا كان
العمل الدرامي من صميم اهتمامات الإنسان ومشاكله، فلا يمكن في زمن
الحصار والجوع والمقاصل وفرق الإعدام والحروب تقديم عمل فني ترفي
يدور حول قصة حب. أو بعبارة أخرى يمكن تقديم هذا العمل. ولكن فرصة
نجاحه ضئيلة جدا.
المعنى أن الدراما العراقية عاشت أزمة نص كان يرتجف من السلطة
ويتجنبها، فتوقف البناء التراكمي للجودة وانحدرت الدراما نحو
الإسفاف، وبرزت ظاهرة الأعمال الفارغة التي يتحول فيها الممثل إلى
قرقوز والمشاهدون يراد لهم أن يكونوا مجموعة أفواه تبتسم.. على أي
شئ لا يعرفون فالمشهد الذي أمامهم عبارة عن نكتة مكررة وكفى،
والعمل ألذي يشاهدونه لايحفز العقل على المشاركة.
في زحمة هذا التراجع كان هناك من يعمل على إعادة الحياة للدراما
العراقية من خلال أعمال هادفة تخوض في المشكلة وتقرأ صفحات التاريخ
وتسلط الضوء على ما أرادت السلطة السابقة طمسه، وكان مسلسل سنوات
النار خطوة مهمة على طريق لملمة أوصال الدراما العراقية.
ميزة العمل
ميزة "سنوات النار" أنه أزاح الستار عن أخطر وأصعب حقبة من
تاريخ العراق الحديث، فمشكلة الهور لم تكن بيئية ولا هي اجتماعية
ولم تكن أيضا مشكلة تضاريس أو اقتصاد ورغبة لدى السلطة للحصول على
أراض زراعية إضافية، فسعت لتجفيف الأهوار وقتلت سكانها. ألمشكلة
كانت سياسية بامتياز وكان الثوار الذين لجأوا إلى الأهوار يؤازرهم
سكانها يمثلون موقف الأمة العراقية في مواجهة سلطة ظالمة كانت ترقص
على أوجاع العراقيين وآهاتهم، هذا فضلا عن أن "سنوات النار" عالج
بمهنية كبيرة قضية شائكة تشابكت أحداثها واختلفت المواقف منها تبعا
لاختلاف المعرفة بالتفاصيل ومدى التأثر بالإعلام الدعائي للسلطة
وهو يحاول تضليل الرأي العام العراقي والعالمي وقتها في إبداء
أسباب غير منطقية لمسألة مهاجمة سكان الأهوار وتجفيفها.
وقد أجاد المتألق صباح عطوان إلى حد بعيد وهو يعطي رسائل ذات
أبعاد كبيرة، ميزت البناء الأخلاقي والعقائدي والرسالي للثوار عن
منهج السلطة، فكان الثوار بقيادة سيد مرهج يمدون جسور المحبة مع
عناصر الجيش الذين يقعون في أيديهم، ويعفون عمن كان عينا للسطلة
بينهم حين يدعي أنه قد ندم وتاب، ويحفظ سيد مرهج دمه ولايجد سبيلا
إلى القضاء عليه بعد صمت طالبي الحق والافتقار إلى الدليل الدامغ
ضده، بينما السلطة لن تتوانى عن إعدام امرأة وتعذيب صيدلاني وسائق
سيارة وتنتزع اعترافات تحت طائلة التعذيب، وهنا يسجل عطوان شهادة
للتاريخ أن من رفعوا السلاح بوجه النظام السابق لم يكونوا كما حاول
إعلامه أن يصورهم، كما رسم عطوان صورة المجاهد والثائر الذي
احتضنته أهوار العراق طوال التسعينيات من القرن الماضي، وأبدع في
رسم ملامح المرأة الثائرة وهي تحمل البندقية من أجل قضية آمنت بها
كما آمن بها زوجها أو أبوها.
الرسائل ألتي لم تصل
بالتأكيد العمل في بيئة الهور صعب للغاية، من هنا يستحق كل من
تواجد في بيئة العمل كل الثناء، والإنحناء على الجهد الذي بذلوه،
فبيئة الهور صعبة وقاسية، ويمكن للمشاهدين والممثلين الرائعين
الذين نفذوا العمل وأدوا الأدوار أن يتصوروا حجم المعاناة التي
كابدها الثوار العراقيون سيما أولئك الذين دخلوا الأهوار ولم
يكونوا من سكانها، وكانت بيئته القاسية الخرساء عالم آخر يبتلع
المرء ويطيح به في أعماق تاريخية سحيقة، فمقرات المجاهدين والثوار
كانت عبارة عن جزر عائمة لاتتجاوز مساحة الواحدة منها عدة أمتار،
وهي معزولة عن مناطق السكنى وتقع بعيدا عن حافات الهور، ما يجعل
الحياة فيها جافة وقاحلة رغم الإخضرار الذي يحيط بها.
على أي حال كانت نسبة النجاح في سنوات النار كبيرة، وعكس هذا
التقييم حجم الإقبال على متابعتها من قبل المشاهدين. ولكن مع ذلك
هناك بعض الملاحظات التي يمكن تسجيلها على العمل من الناحية
التاريخية، فإذا أدركنا سبب ابتعاد كاتب النص عن تسمية الأشياء
بمسمياتها وانتهاجه الرمز في محاكاة بعض التفاصيل، وابتعاده عن
تتبع حياة الأشخاص الحقيقيين الذين كانوا من أبطال الهور وقادة
المعارك فيه، أمثال أبو كرار المحمودي، وأبو نصيف الفرطوسي وأبو
سعود العماري وأبو جاسم العبادي وكاظم البطاط وأبو علي الناصري
وأبو أسماء وأبو رياض البناء، وكريم ماهود ومحمد هني الياسري وسيد
جاسم الموسوي وغيرهم العشرات، بعضهم استشهد في معارك الهور وبعضهم
مازال حيا يرزق، إذا أمكن التغافل عن تجنب الكاتب الخوض في تفاصيل
مواقف هؤلاء وسيرتهم الثورية لأسباب منطقية ومعقولة، في الوقت
الحاضر على الأقل، فلايمكن تفهم جدوى اختصار حركة الثوار بسيد مرهج،
وعدة عشرات من الرجال في منطقة أسماها الكاتب بـ"الجزيرة" فحركة
الثوار في الأهوار امتدت من البصرة إلى العمارة إلى الناصرية،
وكانت عشرات المقرات تتوزع على جسد الهور، وكان ينبغي الإشارة إلى
حجم هذا التواجد لإبراز شئ عن حقيقة موقف الأمة العراقية في مواجهة
السلطة، وكذلك للأمانة التاريخية.
الأمر الآخر أن كفة القوة في مواجهات الهور لم تكن كما جاءت في
مسلسل سنوات النار، وأحسب أن كاتب النص صباح عطوان، لم يكن على
دراية بتفاصيل مهمة وقعت خلال الفترة التي عالجها الجزء الثاني"
سنوات النار" فخلال هذه الفترة شهدت الأهوار معارك عديدة لم يتمكن
الجيش خلالها من تحقيق أي نصر عسكري، وكانت المعارك تتخذ طابع الكر
والفر وحرب الأحراش، بل على العكس كان الجيش يتخذ موقع المدافع في
أحيان عديدة وتتعرض مواقعه التي تعيق حركة الثوار إلى هجمات ليلية،
وربما تعد معركة أم جمل في أهوار العمارة من أبرز المعارك التي سجل
فيها الثوار حضورا مشرفا.
أيضا وعلى الرغم من الرسائل المشرفة التي حملها إعدام سيد مرهج
والثوار الآخرين، إلا أن الحوار الأخير كان باردا ولم يعكس حجم
الروح العقائدية ولا القضية الكبيرة التي حملها مرهج وصحبه قبل أن
يلقى القبض عليهم بعد نفاد عتادهم، والمسألة الأخرى ألتي لم تكن
دقيقة في هذا الموضوع، أن تصوير نهاية الأهوار ونهاية سيد مرهج
بالشكل الذي جاء في الحلقة الأخيرة، عزز الشعور بنهاية المقاومة
والثورة ضد صدام، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما، فالأهوار بعد
التجفيف شهدت أحداث لاتقل أهمية عن تلك التي شهدتها قبله، ويمكن
للأستاذ صباح عطوان أن يستعين بأشخاص عديدين مازالوا أحياء عاشوا
تلك الفترة، التي تركزت مقرات الثوار فيها عند منطقة الصيكل
والكباب والكبور في أهوار العمارة وفي الجبايش وزورة آل جويبر في
الناصرية وعند قضاء المدينة وصلين في البصرة.
كذلك لم تشر سنوات النار إلى دور الخط الثاني من الثوار، وهؤلاء
كانوا يعملون في المدن ضمن تنظيمات سرية، وقد كان لهؤلاء دور وجهد
استخباري وعملياتي ونفذوا العديد من العمليات المسلحة وعمليات
توزيع المنشورات وكتابة الشعارات على الجدران، هذا فضلا عن أن
سنوات النار لم تعط التنظيمات المسلحة للمعارضة العراقية حقها،
فثورة الأهوار بدأت بتنظيم حزبي سبق الإنتفاضة في1991 بسنوات، وإن
كان محدودا، ولكن هذا التنظيم اتسع بشكل ملحوظ بعد الانتفاضة وكانت
هناك مقرات عديدة تمثل فصائل المعارضة العراقية لاسيما الإسلامية
وهي معروفة لو أراد الكاتب الاستعانة بها لكتابة جزئه الثالث ألذي
نتمنى أن نراه في العام المقبل، ليناقش تطورات أخرى في حركة ثورة
الجنوب ضد الظلم والإستبداد. هذا الجنوب الذي قاد الثورة ضد الجوع
والفقر والإهمال، ومايزال يعاني في ظل دولة يفترض أنه دفع مئات
الآلاف من الشهداء من أجل إقامتها. |