البعد الاجتماعي للعقيدة منظور قرآني

مشتاق بن موسى اللواتي

نعني بالبُعد الاجتماعي هنا، هو ما تستهدفه العقيدة من تأثير على الجوانب التربوية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية للفرد والمجتمع على نحو شامل، بحيث تكون حاضرة في مختلف المناشط الحياتية وتعاملاتها. إن العقيدة التي يعتقدها الإنسان، أياً كانت، تترك آثارها وبصماتها على نفسية الفرد، وعلى سلوكه بشكلٍ تلقائي، ويزداد تأثيرها ويتعمق، كلما كانت العقيدة واضحة ومتجذرة عند صاحبها، وكلما كان مستوى تصديقه بها قوياً.

فالعقيدة هي من أهم العوامل التي تسهم في تشكيل رؤية الإنسان الكونية، وصياغة مفاهيمه عن الحياة وطبيعتها، ومبدئها ومآلها، ومن ثم تنعكس هذه المفاهيم على نمط علاقاته وأسلوب تبادله لحقوقه وأدائه لواجباته، بل في تقرير طبيعة تلكم الحقوق والواجبات، فالعقيدة هي أحد الموجّهات المهمة للعلاقات الاجتماعية، إلى جانب عوامل ومؤثرات أخرى، تتفاعل معها وتتبادل التأثير والتأثر، كالتربية والتنشئة الاجتماعية والثقافية، والتي هي الأخرى لا تخلو من تأثير واضح للعقيدة عليها.

- شمولية مفهوم التوحيد:

العقيدة الاسلامية ليست أفكاراً نظرية بحتة تجول في الأذهان، وتفرغ في الكتب والأسفار وسائر وسائل التناقل الفكري، ولا هي مفاهيم تجريدية محضة يحلق بها روادها إلى عوالم متعالية عن عامة الناس وسوادهم الأعظم، بل هي بذاتها تتسم بأبعاد اجتماعية، وتختزن في عمقها دلالات ومضامين تتجاوز فضاءات الأذهان، لتعم بإشعاعها كافة مناشط الحياة، وتتفاعل مع حركة الإنسان في مختلف مجالات الحياة، وهذه السمة التي تتصف بها العقيدة الاسلامية تنسجم مع الطبيعة الاجتماعية للإنسان، الذي قرر فلاسفة الاجتماع أنه اجتماعي بطبعه، وهوالأمر الذي أثبتته التجربة الاجتماعية للإنسان.

وتظهر الحقيقة السالفة واضحة عند التدبر في القرآن الكريم، والتأمل في المبادئ العقدية الاسلامية، فعقيدة التوحيد تشمل مستوى الاعتقاد والعبادة والعمل، وتستهدف تحرير الانسان من الخضوع لكل أنماط الصنمية والوثنية، سواء تمثلت في الأشكال الحجرية والتمرية والخشبية، أوتجلت في طغيان سائر القوى البشرية والشهوية والمالية، وتنزيهه من عبادة جميع المعبودات الوهمية الأرضية، ومن المنظومة القيمية الأخلاقية والاجتماعية التي تتشكل في ظلها أو تستمد منها، ومن أسلوب التفكير الذي تمليه تلكم المعبودات ونمط العيش الذي تفرضه، يقول تعالى: (أفرأيت مَن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية/ 23، (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) يوسف/ 39.

وبموازاة ذلك تستهدف عقيدة التوحيد جعل الإنسان ومن حوله الحياة بحركتها ومناهجها، ليكونا سائرين على طريق الإيمان، على نحو يغدو وجود الله سبحانه وتعالى وتوحيده وإرادته وتدبيره لكل ذرة من ذرات الوجود المفتقرة إلى غناه المطلق، حاضراً في أعماق الانسان ووجدانه، ومتجلياً في علاقاته ومبادلاته وممارساته اليومية، حتى تتناغم مكونات النفس ومركوزات الفطرة مع حركة الانسان وسلوكه الاجتماعي، وتتسق موجبات الأمانة ومقتضيات الخلافة، وتتجانس سنن التكوين مع سنن التشريع والاجتماع، فتأمن مسيرة التاريخ من الاهتزازات والانزلاقات.

ان عقيدة التوحيد والمعايير القيمية المنبثقة منها تشمل الحياة بأسرها، وتأبى بطبيعتها الانزواء في ركن من أركانها، أو الانعزال في زاوية من زواياها.

إن الترابط بين العقيدة والقيم الاجتماعية العليا حقيقة تبرزها الكثير من آيات القرآن الكريم التي تقرن الإيمان بالله واليوم الآخر وعموم الغيب، بالعمل الصالح، كما تربط بين الصلاة والزكاة والأنفاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاية والبراءة والتمكين في الأرض، وطاعة الله والرسول والأولياء، وغيرها من المبادئ الاسلامية السامية، قال تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون) البقرة/ 3، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) التوبة/ 71، (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) الحج/ 41.

إن الإيمان كما يقرر للمسلم حقوقاً على الغير، يرتب عليه في المقابل واجبات ومسؤوليات دينية واجتماعية يعبر عنها الفقه الاسلامي (بحقوق الله وحقوق العباد) وهي متنوعة بتنوع مجالات الحياة وحاجاتها.

وغنيٌّ عن القول: ان مفاهيم العمل الصالح والمعروف والخير تحمل مدلولات اجتماعية مرنة، ولا تتجمد عند تعريفات معينة أومصاديق معدودة، فهي تشمل ابتداءً الكلمة الطيبة وإعانة المحتاج ورعاية اليتيم على المستوى الفردي، ومروراً باقامة الأعمال المؤسساتية الإنسانية، وانتهاءً بإقامة العدل والقسط، وإشاعة الأمن النفسي والاجتماعي في المجتمع البشري، ومناصرة قضايا الحق والعدل في العالم.

وكذلك الحال بالنسبة للمنكر، فهو يشمل كافة المنكرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، سواء كانت تمارس على المستوى الفردي أم المؤسساتي أم الجماعي، ومن هنا تنوع الخطاب القرآني بالنسبة لمزاولة فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تنوع التصنيف الفقهي لهما إلى عيني وكفائي جماعي.

إن العقيدة ومضمونها الاجتماعي لا ينفصلان في القرآن الكريم، كما نلاحظه في العديد من السور والآيات القرآنية التي تشدد في التأكيد على هذه القضية، كسورة الماعون التي نقرأ فيها: (أرأيت الذي يكذّب بالدين، فذلك الذي يدعّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين،الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون) سورة الماعون. ويعدد القرآن الكريم موجبات استحقاق العقاب الأخروي على لسان بعض الذين استحقوه: (قالوا ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين) المدثر/ 42-46.

وتزداد هذه الحقيقة القرآنية وضوحاً في رفض القرآن الكريم اجراء المقارنة بين بعض الخدمات التي تترك أصداءً ظاهرية في المجتمع، وبين الإيمان بالله واليوم الآخر مقروناً بالجهاد في سبيل الله سبحانه، يقول تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله لا يستوون عند الله) التوبة/ 20.

ويبلغ هذا التلاحم بين الإيمان ومضمونه الاجتماعي والانساني ذروته في القرآن الكريم، عند ربطه بين القتال في سبيل الله والقتال في سبيل المستضعفين من الناس، يقول سبحانه: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) النساء/ 75. وسبيل الله ـ كما يؤكد الفقيه المفكر الشهيد محمد باقر الصدر ـ (هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الانسان، وسبيله سبحانه وتعالى دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء، وكلما جاء سبيل الله في الشريعة أمكن أن يعني ذلك تماماً في سبيل الناس أجمعين).

- الأنبياء دعاة التوحيد والعدل:

يستعرض القرآن الكريم في كثير من سوره وآياته الكريمات نماذج من جهاد الأنبياء والمرسلين، ويؤكد فيها على التلازم بين عقيدة التوحيد وتحقيق العدل والقسط في المجتمع الانساني، فلا تستقيم عقيدة التوحيد الخالصة في مجتمع يتفشى فيه الظلم، وتسود فيه أخلاقيات الاستغلال التربوية والاجتماعية، وستصبح مجرد طقوس ومظاهر جوفاء.

إن القرآن الكريم يبين أن الأنبياء استهدفوا تحقيق العدل والقسط إلى جانب سعيهم في ترسيخ دعائم التوحيد. يقول سبحانه وتعالى: (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد/ 25.

ولقد خاض الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ـ في سبيل تحرير العقل البشري من المعبودات الزائفة، ومن الخرافة والتقليد، ومن أجل تخليص الإنسان من الطغيان والفساد ـ معارك شرسة ضد الفراعنة والمترفين والمستكبرين، يقول سبحانه وتعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) إبراهيم/ 5، ويخاطب سبحانه نبيه موسى وهارون: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) طه/ 47.

أما النبي هود (ع)، فقد بيّن لقومه أن التغافل عن الموت ونكران البعث يقودان إلى الظلم والتجبر والاستهانة بحقوق الناس والعبث في الحياة حيث خاطبهم، بقوله: (فاتقوا الله وأطيعون.. أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين) الشعراء/ 126-130.

وشدد النبي صالح (ع) على مبدأ التلازم بين طاعة الله وتقواه، وبين اتخاذ موقف حاسم من القيادات الاجتماعية الفاسدة، فقال: (فاتقوا الله وأطيعون، ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) الشعراء/ 150-153.

ويحدثنا القرآن الكريم عن النبي لوط (ع) وعن مواجهته للفاحشة التي تفشت في مجتمعه: (ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) العنكبوت/ 28.

كما يخبرنا القرآن الكريم عن النبي شعيب (ع)، وعن تصديه لظاهرة الاستغلال الاقتصادي وسرقة أموال الناس عبر التحايل في المقاييس والموازين: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان) هود/ 84، وهي تأكيد واضح على التنافر وعدم الاتساق بين عقيدة التوحيد والظلم والتعدي على حقوق الغير.

ويشير القرآن الكريم إلى رسالة النبي محمد (ص) ودعوته وبرنامجه الرسالي، فيقول سبحانه: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف/ 157.

إن الإيمان بالتوحيد وتصديق الأنبياء يملي بالضرورة اتخاذ مواقف واضحة من قضايا الحق والعدل من جهة، ومن الانحرافات الاجتماعية السائدة من جهة أخرى في المجتمع.

- عقيدة المعاد والمسؤولية الأخلاقية:

لا يخفى أن عقيدة المعاد تضفي على الحياة الانسانية أبعادها الحقيقية، باعتبارها محطة ومرحلة من مراحل الوجود الانساني وليست نهاية المطاف. ومن ثم تبعد عن الحياة شبح العبثية والفوضى، وما يترتب عليهما من قيم وممارسات فاسدة وجائرة، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.

إنها العقيدة التي يكمن فيها جوهر المسؤولية الأخلاقية، وفلسفة الإلزام الخلقي، والتوازن بين المصالح الفردية وقيم الغيرية، بالاضافة إلى أنها تمثل التجسيد الحقيقي لهدفية الخلق. يقول سبحانه: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون) المؤمنون/ 115.

كما أن عقيدة المعاد تختزن في عمقها مدلولات العدالة الكونية، وإحقاق الحق، وانتصاف المظلوم من الظالم،يقول تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا )الأنبياء/48. وقد أطلق القرآن الكريم على يوم القيامة على أنه يوم الفصل والتغابن. انه اليوم الذي سينتصف فيه لجميع المظلومين والمضطهدين، وعلى رأسهم تلك الفئات الضعيفة التي لم تجد في الدنيا نصيرا يستنقذها من أيدي الظلمة. ومن بين المظالم التي ركز عليها القرآن الكريم في هذا المضمار،وأدرجها ضمن مشاهد القيامة وأهوالها في سورة التكوير، (وإذا الموءودة سئلت،بأي ذنب قتلت ؟) التكوير/ 8،9. ان إستنكار القرآن الكريم لتلك الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق المرأة، لا لشيئ إلا لكونها أنثى ستظل أصداؤه تتردد على وجدان المسلم، محذرة إياه من التورط في مظالم مماثلة في حياته.

 إن ترسيخ عقيدة المعاد ومفاهيم البعث والحشر والحساب، تترك آثاراً تربوية هامة على الانسان، فهي تخلق فيه عنصر الرقابة الذاتية، وتربي فيه الضمير الأخلاقي مما يسهم في ضبط تصرفاته في تعاملاته الحياتية، وقد قرن الله تعالى بينهما في قوله عز من قائل : (لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة) القيامة/ 1-2.

كما ان عقيدة المعاد توقظ في الانسان الشعور بالمسؤولية أمام ربه وتجاه نفسه والناس، الأمر الذي ينعكس على ممارساته وعلاقاته مع الغير. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة/ 7-8.وقد توعد الله سبحانه وتعالى أولئك الذين يمارسون الغش في تعاملاتهم التجارية، ويتلاعبون بالمكاييل والمقاييس، واستنكر عليهم تغافلهم عن حقيقة البعث والنشور والحساب يقول سبحانه ( ويل للمطففين،الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون،ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون،ليوم عظيم )المطففين /1-5

 ان المسلم الذي تعمقت في وجدانه عقيدة المعاد والبعث، يفترض فيه أن يجسد العدل والقسط في علاقاته ومعاملاته،وأن يتحلى بالتواضع والصلاح والغيرية، فلا يصدر منه أي سلوك مضر ومجحف بالناس، بل سيغدو إنسانا يتمثل الفضيلة ويشع الخير لبني البشر. وتراه دائم السعي لتوفير الأمن والطمأنينة للناس، طلبا لمرضاة الله تعالى في الآجل. (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً، إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً) الإنسان/ 8-10. وبهذا يكون مصداقا لقوله سبحانه (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )القصص/83. وجماع هذا التداخل المضموني الوثيق بين المنظومة العقدية والنسق القيمي الأخلاقي والإجتماعي، يبرزه القرآن الكريم وبأجلى صورة وأدق معنى، في قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )البقرة/177

* كاتب عماني

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 5/تشرين الأول/2008 - 5/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م