منذ قدم التأريخ والعراقيون يعيشون حالة تناقض محسوس بين ما
يخفون وما يظهرون، بين أحاسيسهم ومفاهيمهم الخاصة بهم وبين إرادات
المجتمع ومتطلباته، بين ما يصبون اليه وبين الواقع المفروض. الصراع
المرير بين المرغوب والممنوع هو صراع طويل قد يكون عقائدي سياسي في
الكثير من الأحيان وتمتد جذوره عميقة في التأريخ. هذا الصراع
الممتد قد تجلى بوضوح في الزمن الحاضر وعلى الأخص في الفترة
الممتدة بين إستلام صدام حسين للسلطة والى حد يومنا هذا. تأثيرات
التناقض الإجتماعي والنفسي على سلوكيات العراقيين وتصرفاتهم لم تكن
خافية ومجهولة أمام تحليلات المهتمين بالوضع العراقي، بل تحدث عنها
الكثيرون من الباحثين والإجتماعيين.
كان المفكر العراقي القدير الدكتور علي الوردي من بين المهتمين
بسلوكيات العراقيين والباحثين عن أسباب العلل الإجتماعية المستشرية
عندهم. من أهم تلك العلل الإجتماعية التي تناولها الوردي في بحوثة
هو إزدواجية الشخصية، حيث بحث عن أسبابها ودواعيها في ظل الواقع
المعاصر للمجتمع العراقي. من خلال البحوث والدراسات التي أجراها
إستنتج بأن اهم أسباب الإزدواجية في الشخصية العراقية هو التناقض
القيمي بين البداوة والحضارة وكذلك التباين الجغرافي الذي يميز
الطبيعة الجغرافية للعراق.
لم تسمح لهذا العالم الظروف السياسية في ظل النظام السابق بأن
يفصح ويبين وبشكل صريح أثر السياسة المعاصرة على شخصية العراقي
وطبيعة سلوكه، كما أنه لم يشهد المستجدات السياسية الحالية التي
دون شك لعبت وتلعب دورا هاما في سلوك وتصرف العراقيين. إن كان
للجغرافية وللبداوة والتحضر أثرا في إزدواجية الشخصية، فأنه من
المرجح أن يكون للأوضاع السياسية المتناقضة والملتهبة التي مرّ بها
العراق في عهد صدام حسين والعهد الحالي أثرا كبيرا أيضا في خلق أو
تعزيز الإزدواجية عند العراقيين.
الإزدواجية في الشخصية لها مفهومان متباينان، المفهوم الطبي
النفسي حيث أن الإزدواجية هنا هي حالة مرضية نفسية نادرة جدا يسلك
المريض فيها سلوكين متناقضين فيكون شخصيتين مختلفتين في السلوك لا
تتذكر أي شخصية منهما ما قامت به الشخصية الأخرى، وليس هذا هو
المقصود في هذا الموضوع. المفهوم الثاني هو المفهوم الإجتماعي
للإزدواج وهو موضوع البحث، حيث أن هذا الإزدواج في الشخصية هو
إزدواج في سلوك متناقض عند الأفراد يعبّر عن ظاهرة شائعة تنتشر في
كل المجتمعات وتزداد في مجتمع ما عن مجتمع آخرلأسباب معروفة
ومدروسة. الإزدواجية الإجتماعية بحد ذاتها يمكن تصنيفها الى صنفين
رئيسيين: الإزدواجية الإجتماعية (الواعية) أي أن الفرد واعي ومنتبه
على ما يقوم به من تناقض سلوكي، فيظهر خلاف ما يبطن وذلك لغاية في
نفسه يروم تحقيقها. أما النوع الآخر من الإزدواجية فهو الإزدواجية
الإجتماعية (غير الواعية) وفيها يسلك المرء سلوكين متناقضين بطريقة
الإندفاع الذاتي أو اللاوعي متأثرا برواسب إجتماعية متناقضة مخزونة
في منطقة اللاشعور.
الإزدواجية الإجتماعية الواعية نالت النصيب الأكبر في عهد صدام
حسين، فالكاتب البليغ هو من يبلغ الذروة في تبجيل الرئيس، والشاعر
الألمعي هو من يقول : لولاك يا صدام ما خلق البشر.... ! والمطرب
المبدع هو الذي يكثر الغناء باسم الرئيس والرسام البارع هو الذي
يجيد رسم صور الرئيس والنحات الماهر هو الذي ينحت بدقة هامة الرئيس.
أما التاجر الذي يريد الحفاظ على روحه وماله فهو ذلك الذي يعطي حصة
الأسد من أرباح تجارته لصالح صندوق ضريبة دخل الرئيس.
العراق كان كلّه يهتف باسم الرئيس، حتى أطفال الروضة يحملون صور
الرئيس. العراقيون يضحكون بوجوههم ويبكون في قلوبهم....يبجلون في
ظاهرهم ويشتمون في باطنهم... كانوا نماذج حيّة وصور صريحة للإزدواج
الواعي في الشخصية المنبعث في أكثر الأحيان من الخوف أو التزلّف.
لم يسلم حتى الأطفال من السلوك الإزدواجي هذا، فقد كانوا في عهد
صدام يسمعون في المدرسة التبجيل والتقديس للرئيس من معلميهم، كانت
أناشيدهم تتغزل في حب الرئيس وقصصهم تصف مغامرات الرئيس واللعب
التي يلعبون بها ويستأنسون هدية من الرئيس. أما في عقر دارهم فأنهم
يسمعون من آبائهم اللعنات والشتائم على الرئيس!. كان الآباء يحذرون
أبناءهم من كشف أو إباحة أسرار العائلة التي تبين كره الأهل للرئيس
ويشرحون لأطفالهم عظم الكارثة لو تفوّه الأبناء بذلك فالذي يقال في
البيت لا يخرج الى الشارع، حتى صار الأطفال يتعلمون السلوك المزدوج
وممارسة الإزدواجية الواعية وهم في عمر الورود! الإزدواج الواعي
المزمن في الشخصية عند الأطفال وعمليات مسح الدماغ المتناقضة في
الإتجاه والهدف التي يلمسها الأطفال في محيطهم خصوصا المدرسة
والبيت، كفيل بخلق حالة الإزدواج اللاواعي في الشخصية عندهم والذي
تظهر علاماته في وقت المراهقة والشباب.
الأسباب التي تحفز نشوء الإزدواج الواعي في الشخصية عند
البالغين كثيرة ومنها : الخوف من السلطة، التزلف والتملق من أجل
تحقيق المصالح الشخصية، الشعور بالنقص، الفقر، الحرمان، الجهل،
الحروب، طبيعة التربية الإجتماعية، الإضطهاد وسوء تصرف السلطة.
في زمن الإحتلال الأمريكي للعراق ربما تطور إزدواج الشخصية
الإجتماعية لينتقل من نوع الى آخر في ظل متناقضات الواقع السياسية،
فربما أنتقل من صنف الإزدواجية الواعية الى صنف الإزدواجية غير
الواعية. أي أن تناقض القيم والمبادىء والأعراف التي عايشها
ويعيشها الشاب العراقي في العهدين المتناقضين (عهد صدام وعهد
الإحتلال) كفيل بزرع بذور الإزدواجية الإجتماعية غير الواعية.
تناقض هذه القيم يجعلهم يسلكون سلوكين إجتماعيين متباينين وحسب
الضرورة وبشكل تلقائي غير محسوس.
التناقض الحاد في المفاهيم السياسية بين نظام صدام حسين
والنظام الحالي والإنتقال السريع والمفاجىء بين تلك المفاهيم، كفيل
أن يخلق إرباكات نفسية وإجتماعية قد تؤدي الى إرساء ركائز
الإزدواجية خصوصا عند المراهقين والشباب. أمثلة التناقض والتباين
في هذه المفاهيم كثيرة ومتشعبة، فمن بينها أن تربى العراقيون لعقود
على مبدأ التوجس والكره إزاء الأمريكيين وسياساتهم واليوم يتعايشون
معهم في شارع واحد ويشعرون جيّدا بأن هؤلاء يملكون زمام أمورهم.
حينما سقط الرئيس، تنفس العراقيون الصعداء وساحوا بأفكارهم
وآمالهم رغم صعوبة الموقف وحساسية الحدث. المحتل هو الذي حررهم من
الدكتاتور! وهذه البقعة السوداء في تأريخ العراق والعراقيين قد
زادت من حدّة إضطراب السلوك وإزدواج الشخصية. العراقي الذي عاش جلّ
عمره لا يسمع إلاّ اللعنة على الأمريكيين وسياساتهم في المذياع وفي
التلفاز وفي الجريدة وفي الشارع وفي العمل وفي البيت، تراه اليوم
في حالة تعايش مفروض ومحبة مصطنعة مع عدوه اللدود في يوم أمس! كان
العراقي يخشى التحدث الى الأجنبي كي لا يتهم بالجاسوسية واليوم من
لا يحابي الأجنبي يعتبر مشبوها في الساحة السياسية! على العراقي أن
يطوي صفحة "المبادىء الثورية" ومعاداة الإستعمار ويفتح صفحة
العمالة الشرعية ومحاباة المحتل. هذا الإنتقال الحاد في الثقافة
السياسية بحد ذاته يعد إرباكا للشخصية ومشجعا على إزدواجيتها.
أمثلة أخرى نذكرها للقارىء تبين التناقض في الأعراف والقيم بين
العهدين نذكر منها: أن شبابنا في العهد السابق يدرك بأن الذي يدخل
المساجد يخشى على نفسه من المراقبة والملاحقة والإضطهاد، بينما
اليوم تحصل الزيارات المليونية لأضرحة الأئمة في العراق دون مراقب
أو منازع. كان إعتناق الإسلام السياسي يعني الموت والهلاك لمن
يعتنقه، فالذي تريد أن تخيفه وترعبه أو ترمي به الى التهلكة إلصق
به تهمة الإنتماء الى حزب إسلامي، بينما اليوم الأحزاب الإسلامية
بيدها الحل والعقد. كانت شفاعة العراقي في حصوله على مقعد دراسي أو
مركز مرموق في مؤسسات الدولة هي أن يكون بعثيا ويزكى من قبل
الرفاق. اليوم مبادئ التزكية مقلوبة رأسا على عقب فالمزكى هو من
ينتمي الى الأحزاب الإسلامية المحظورة سابقا. كل هذه التناقضات
تخلف دون شك آثار بصماتها على نفسية العراقيين وسلوكهم، وخاصة
الشباب منهم.
تناقض القيم والمبادئ في المجتمع العراقي المعاصر كفيل بأن يولد
ظاهرة الإزدواج غير الواعي في الشخصية عند الكثير من الناس ولكن
الشباب أكثر عرضة للإصابة بهذه العلّة الإجتماعية من غيرهم، بسبب
سهولة خزن رواسب القيم الإجتماعية المتناقضة في منطقة
اللاشعورعندهم. التناقض في طبيعة القيم والأعراف الإجتماعية
المخزونة عند الشباب يولد حتما تناقضا سلوكيا لا شعوريا يعتمد في
شدته وملامحه على طبيعة التناقض القيمي في المجتمع ودرجة تباينه.
التخلص من ظاهرة الإزدواج غير الواعي في الشخصية في مجتمع ما
مسألة معقدة وغير سهلة، إذ أن هذا النوع من الإزدواجية متأصل داخل
منطقة اللاشعور عند الأفراد ويعتبر مكونا ذاتيا لشخصياتهم. على عكس
الإزدواج الواعي في الشخصية، حيث يمكن معالجة هذا السلوك بمعرفة
السبب وإزالة آثاره. رغم كل هذا وذاك فالعلل الإجتماعية عند الشباب
العراقي تتطلب الكثير من التمحص والبحث من قبل المهتمين في علم
الإجتماع والباحثين في علم النفس. عليهم ألاّ يتغاضوا ويسدلوا ستار
النسيان عن هذه الأمراض الإجتماعية كي لا تتطور وتحصل المضاعفات.
دون متابعة الحالة ومراقبتها ستتطور هذه الأمراض السلوكية من إطار
محدود لبعض الأفراد في المجتمع الى السواد الأعظم من المجتمع فتصبح
نهج وسليقة لكل المجتمع. على الباحثين الإجتماعيين أن ينبهوا
وينصحوا ولا يهملوا أمراض المجتمع كما أهمل الأطباء والباحثون في
الطب الأمراض العضال التي تنهش في اجساد العراقيين!. |