يمكن فرز التكتلات السياسية التي ظهرت على الساحة المحلية بعد
تحرير البلاد من يد الاحتلال العراقي الغادر إلى ثلاثة أقسام
رئيسة.
القسم الأول: التكتلات التقليدية: وهي مجموعة التوجهات التي كان
لها حضور ونشاط سياسي قبل كارثة الغزو، واستمر هذا النشاط بقوة
وحيوية بعد التحرير، ولم يتغير في نشاطها إلا الحضور بمسمى جديد
مثل:
1 - المنبر الديمقراطي، وهو الوجه الآخر لليسار الذي استمر في
نشاطه بعد التحرير بالمسمى الجديد، لكنه لم يستطع أن يوسع من
قواعده الشعبية، ولاسيما مع انحسار المد اليساري عالميا، مع أن
عددا من رموز التيار يتجنبون الاعتراف بتاريخهم الماركسي. كما تسبب
اعتزال الدكتور أحمد الخطيب (وهو أحد أبرز وأهم شخصيات المعارضة في
الكويت العام 1996) العمل البرلماني، بل والعمل السياسي العام،
بضمور رونق المنبر في الأوساط الشعبية والسياسية بشكل واضح.
وتتبدّى مكانة الخطيب من قدرته الفذة على صناعة الأفكار والأولويات
السياسية، ونجاحه في عقد تحالفات مع الكتل التجارية والسياسية
الأخرى.
2 - التحالف الوطني الديمقراطي، ويعبر عن الليبراليين الجدد،
وهم بقايا أصوات عروبية وقومية تبنوا الأطروحة الليبرالية، وتركزت
مطالبهم بالانفتاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويبدو لي أن
التحالف الوطني أقرب إلى جبهة العمل الخاصة بتنظيم دخول «الليبراليين»
للانتخابات البرلمانية أكثر من كونها كتله سياسية منسجمة على أساس
فكري، أو برنامج سياسي. ولذا فقد دبت الخلافات بين أعضاء التحالف
منذ بدايات التأسيس، ما نتج عنها انسحاب عدد من الأسماء اللامعة،
وهو بهذا أخفق في تحقيق الهدف الأساس من نشأته، وهو توحيد العمل
الوطني الديمقراطي في الساحة الكويتية، وإعادة لملمة صفوف
الليبراليين.
3 - الحركة الدستورية، وهي تيار محسوب على جماعة الأخوان
المسلمين، وتضع الحركة يدها على مؤسسات خيرية واقتصادية مهمة في
البلد، كما تمتلك وسائل إعلام فاعلة من أهمها مجلة «المجتمع» التي
لا تزال مستمرة بالصدور حتى الآن، على رغم خفوت صوتها في السنوات
الأخيرة، وجريدة «الحركة» الأسبوعية، ويقول قادة الحركة إنهم
يستهدفون تعديل الدستور، بحيث يتضمن تطبيق مبادئ الشريعة، ووضع نظم
اجتماعية وتربوية منسجمة مع قيم الدين الإسلامي.
4 - التحالف الإسلامي، ويمثل التيار الشيعي المرتبط بولاية
الفقيه. وقد استطاعت رموز هذا التيار، وبعض نوابه (بخاصة قبل الغزو)
تقديم أنفسهم كمناضلين على درجة كبيرة من الالتزام المبدئي
والأخلاقي، وهو ما استهوى القطاع العريض من الشيعة الذين وجدوا
فيهم مثالا للصورة التاريخية المتشكلة في أذهانهم حول القيادات
الشيعية المناضلة. ويحسب للتيار قدرته على مد خطوط التفاهم
والتلاقي مع التيارات الوطنية في الساحة والابتعاد عن الأطروحات
المذهبية، وتجنبه الخوض في المهاترات الطائفية، على رغم محاولات
استدراجه، لكنه أبدى أخيرا مرونة في قبول توزير أحد شخصياته بعد
موقفه المتصلب والرافض لمبدأ المشاركة، وظهرت ميول عند بعض أعضائه
إلى تبني أطروحات مذهبية.
الثاني: التكتلات الدينية والثقافية: وهي مجاميع لم يكن لها
حضور ونشاط سياسي واضح، أو كان حضورها السياسي محدودا وضيقا جدا
قبل الغزو العراقي، وتركز اهتمامها وعطاؤها في العمل الديني
والخيري والدعوي، لكنها قررت بعد التحرير أن تغتنم فرص الارتياح
الأمني والسياسي، وتعلن عن نفسها كجبهات سياسية، ومن بينها:
1 -التجمع الإسلامي السلفي، وهو التيار السلفي الأكبر، ويمثل
توجه جمعية إحياء التراث، وهو التجمع السلفي التقليدي. وقد اعتنى
هذا التيار قبل الغزو، بتجريد التوحيد من درن الشرك وشبه التنديد،
وبالعمل الخيري. ولم يكن له اهتمام كبير بالعمل السياسي، بخاصة
وأنه يعد من التيارات الدينية المتحفظة تجاه المفاهيم السياسية
الحديثة، ومفهوم الدولة الحديث، ومقتضيات الديمقراطية، والعمل
السياسي. كما يسلم أصحاب هذا الفكر للسلطة بأن تقوم باتخاذ كل
القرارات نيابة عن الأمة، ما دامت تقيم الصلاة وترفع الآذان في
عموم الوطن، لكنهم قرروا مع اشتداد الخلافات والنزاعات الفقهية
والفكرية، وضياع المصالح، الدخول في الحلبة السياسية، وقبول
التعاطي مع الواقع القائم.
2- تجمع العدالة والسلام، ويمثل تيار المرجع الديني آية الله
السيد صادق الشيرازي، وهو خط أسسه المرجع الراحل آية الله السيد
محمد الشيرازي ورعاه حتى وافته المنية العام 2002. ولم يكن لجماعة
السيد الشيرازي نشاط ملحوظ في الساحة السياسية، واكتفوا بتأييد بعض
المرشحين في الانتخابات البرلمانية. أما نشاطهم الأساسي فتركز في
نشر الوعي الديني والثقافي في الساحة الشيعية، ولعب المرجع الديني
آية الله السيد محمد تقي المدرسي دورا محوريا في صياغة ثقافة هذا
الخط، وبلورة رؤاه الدينية والفكرية. وبعد الغزو اتجهت مجموعة من
كوادر التيار للدخول في معمعة الساحة السياسية، والسعي للمشاركة في
البرلمان، وتأسيس تجمع العدالة والسلام الذي أخفق حتى الآن في
لملمة وتمثيل جميع عناصر التيار الشيرازي، ولا يزال يكسو خطاب
التجمع الاهتمام بالقضايا المذهبية وحقوق الطائفة.
3 - تجمع الميثاق الوطني، ويعبر عن أنصار المرجع الديني آية
الله السيد محمد حسين فضل الله، وللتجمع صلات قوية بعدد من رجال
المال والوجهاء الشيعة في البلد، لكنه لم يستحوذ على قطاع كبير من
الشارع الشيعي، ولذلك اعتمد في عمله ولا يزال على التحالف مع
التيارات الشيعية الأوفر حضورا في الساحة المحلية.
4 - تجمع الرسالة الإنسانية، الذي يعكس توجهات التيار الشيعي
المرتبط بمسجد الإمام الصادق، ويعتبره البعض الأقل حظوظا في الحضور
السياسي المحلي، على رغم أنه يضع يديه على إمكانات مالية ضخمة يمكن
أن تؤهله للعب دور أكبر في المستقبل، لم يكن التيار يمد بصره إلى
الفرص السياسية قبل الغزو، لكنه يبذل اليوم مساعي حثيثة للحصول على
مواقع سياسية، على رغم أن التوفيق لم يحالفه في ذلك حتى الآن.
الثالث: التكتلات المنشقة: وهي جماعات انشقت عن مسار الحركة
الأساسية بسبب جملة من التباينات الفكرية، أو السياسية، وبدأت
بإعلان نفسها كتجمعات مستقلة، مثل:
1 - الحركة السلفية العلمية، وهي منشقة عن التيار السلفي الرئيس
لخلافات فكرية، وشكل فريق منهم حزب الأمة، ويتبنى هذا الخط أطروحات
جديدة متباينة عن السلفية التقليدية، فاعتبر الحرية مقدمة على ما
سواها، ولم يجد غضاضة في نصيحة الحاكم علنا، وبادر إلى إعلان نفسه
كحزب سياسي، على رغم حظر قيام الأحزاب في الدولة، وتقبل فكرة
الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ويرى البعض في الحركة
خليطا فكريا بين منهجي المدرسة السلفية والإخوانية. كما تولى
قيادتها أصحاب الفكر المتطرف والطائفي أحيانا، وأصحاب الفكر
المعتدل والمتوازن أحيانا أخرى. على كل حال، فإن أفكار الحركة
السلفية وحزب الأمة أشبه بالثورة التصحيحية على المدرسة السلفية
التقليدية.
2 - حركة التوافق الإسلامي الوطني، ومؤسسوها انشقوا عن التحالف
الإسلامي الوطني لخلافات في آليات العمل، وفي الرؤى السياسية،
وتبنى التيار الجديد تنشيط المؤتمرات الثقافية والدينية. وحاول أن
ينفتح على الساحة عبر عقد التحالفات السياسية ودعم بعض المرشحين
لعضوية مجلس الأمة، لكنه أخفق حتى الآن في تقديم تجربة سياسية
واضحة، ويميل البعض لإخراجهم من جملة الكتل السياسية، والاكتفاء
بتصنيفهم كجماعة ثقافية لا أكثر، لكنهم يصرون على أن مشروعهم سياسي
مدعم بأطروحات ثقافية.
يبرر البعض تأخر هذه الجماعات في دخولها الساح السياسية لعدم
قناعتها الفكرية بالعملية الديمقراطية، ثم دخلت بقوة إلى الساحة
حين تلمّست فوائد العملية الديمقراطية بعد التحرير. وبغض النظر عن
التمخض الذي رافق تلك الولادة، فإن الساحة السياسية في الكويت
استقرت في السنوات الأخيرة على المجاميع المذكورة، إضافة إلى بعض
الشخصيات النشطة، والذي شكل البعض منهم تكتلات أخرى داخل البرلمان.
لكن هل أسهم دخول هذه الكتل الجديدة الساحة السياسية، في تطور
العمل السياسي المعارض؟ هذا ما سنبحثه في مقالنا المقبل.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.com |