نعم الحاكم والشعب المرفّه

ياسر محمد

مع ما تعيشه مجتمعاتنا اليوم من ضغوط اقتصادية وحياتية رمت بظلالها على صعد الحياة، برزت الحاجة لوجود سياسة اقتصادية ناجحة يدار عبرها شؤون الناس وترعى حاجاتهم لتكون معيناً للحاكم وهدفاً لتطلعات المحكوم. ونظراً لأهمية عنصر المال في سائر مناحي الحياة  جاءت الحاجة لاقتفاء آثار رموز الدهاء السياسي والاقتصادي مهما كانت توجهاتهم ودياناتهم في معالجة الأزمات المادية لتقديم المواد والنقاط الأساسية التي توفر مناخ اقتصادي أقل ما يوصف بالملائم والقادر على معالجة الفقر وغلاء المعيشة وتأمين الحياة الكريمة لأجل تفجير الطاقات واستيعابها.

إننا كبشر نطمح في الحصول على الرفاه والاستقرار المادي، ولم يكن بيننا من منهاج متكامل كمنهاج أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الرائد في مجال إصلاح الحكومة من الفساد المالي والإداري والشعب الذي بايعه مجمعاً على قدرته وعدالته في إنصاف المحكومين الذي لو اطلع الحاكمين عليه لوجدوا فيه دستوراً عريضاً يكفل الاستقرار للحاكم والحكومة والشعب.

فالإمام علي (ع) كان نموذجاً رفيعاً في تنمية الطاقات البشرية وتطويرها من خلال ضخ روح العمل والنشاط ومساعدة المحتاج، حيث وفي غير مرة كان يحث على الاهتمام بالفقراء وأهل البؤس والمرضى، كما كان السباق في الجانب السياسي في إعطاء المحكومين حرية التعبير والاعتراض السياسي وتصديه للخطأ الصادر من المسئولين.

لقد انتهج (ع) جملة من السياسات العادلة والتي منها إلغاء التمايز الطبقي والديني، فالمسلم ينعم برغد العيش وإلى جانبه وبمساواة يعيش غير المسلم (1) كما طبق بواقعية الضمان الاجتماعي للمواطنين في إعطاءه الضمانات المالية للفقراء والأيتام والمعوزين، و"إذا لا حظنا سياسة الإمام علي (ع) لعرفنا أنها سياسة الدين في النظر إلى عباد الله  نظرة المساواة والعدالة.. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه السياسة العادلة والشفافة إلى نتيجة واحدة وهي الاستقرار الاقتصادي وانخفاض أو حتى انعدام مستوى الفقر في المجتمع "(2).

ففي الجانب الاقتصادي كانت له (ع) سلسلة من الإجراءات لإعادة الأموال لبيت مال المسلمين والتي أخذت دون استحقاق مضافاً إلى توفير حاجيات المواطنين بالمساواة بينهم مسلمين كانوا أم غير ذلك مع تركيزه على أهمية عمارة الأرض بشكل أكبر من جلب الخراج كما في عهده لمالك الأشتر رضوان الله عليه. وفي عصرنا الحاضر بدأت بوادر الأزمة السكانية تطفو على السطح وما أكثر البلاد العربية المليئة بالأراض البوار والصحاري غير المنتفع منها أصلاً والمحتاجة لطائل الأموال لتعميرها لو فكرت الحكومات باستصلاحها.

 ومع موجة الغلاء وشح الأراضي السكنية داخل الحواضر والمدن وارتفاع أسعارها، تقل فرصة ازدياد العمران، فتبرز الحاجة لوجود سياسات حكومية تسعى لتخفيف الضرائب عن الشعوب وتمليكهم القطع السكنية في أنحاء البلاد مساعدة في تنامي العمارة والعقارات. فما أفضل الحكومة التي تتيح للمواطن وكل الشعب حرية تملك مساحات من تلك الأراضي المهملة  بهدف تعميرها  أو زراعتها وتحويلها إلى بيئة صالحة للحياة كخطوة أولى تجاه توسعة الرقعة السكانية والزراعية وربط المدن بعضها ببعض كي تضحي البلاد كتلة واحدة مترامية الأطراف.

إن على الحاكم دور مضاعف في  إثراء الجنبة الاقتصادية في الدولة وتصديه لحالات الغلاء من قبل التجار، فكل أبناء المجتمع لا غنى لهم عن التجار وملاك مصانع الغذاء والبضائع الاستهلاكية ممن يسهمون في رفع الاقتصاد الوطني وزيادته إذا ما روعيت القوانين المُسنة، فالتجار بسبب احتكارهم وتحكمهم وجشعهم في الأسعار يضرون بالاقتصاد الشخصي للفرد قبل إضرارهم بالاقتصاد الوطني العام ما يلزم مراقبتهم اقتصاديا  من قبل الحكومة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة في كل مرافق الدولة.

كما يتوجب على الحاكم السعي الحثيث والتوجيه المباشر للمسئولين والوزراء في حكومته لمواجهة الفساد الإداري والمالي بالسياسات المعمول بها عالمياً، وهذا يتأتى من الاطلاع والمعرفة الموسعة على النظريات الاقتصادية التي تجني الخير والانتعاش لكافة ألوان الشعب من خلال مجالسة كبار الساسة وخبراء الاقتصاد والمال حتى يكون على علم بكيفية إدارة بلاده في جوانب شتى.

من المشاكل الاقتصادية في هذا العصر وجود أصحاب المطامع والجيوب الواسعة التي لا هم لهم سوى التهام أموال الناس.، ومن هنا تظهر الحاجة إلى اختيار الأمناء والحريصين على مصلحة الدولة والشعب والنصحاء للمسئول، فلا يتم وضع المتصدي لإدارة شؤون المواطنين إلا من خلال اجتيازه لاختبار يثبت جدارته وفق مؤهلات معينة توصله إلى منصبه بعيداً عن المحاباة والمحسوبية. ويلزم بعدها إعطاءهم القدر الكافي من الأجر حتى لا يطمعون في ما تحت أيديهم من استحقاقات للمواطنين مضافاً إلى سن قانون للعقوبات لمن يخالف الشروط بغض النظر عن موقعيته وحجمه وقوانين أخرى للرقابة وتفعيلها ليبقى الحاكم على دراية بما يدور في فلكه.

 فالحفاظ على الموازنة العامة وعدم الإفراط في استخدام الموارد المالية والاستنفاع الشخصي من قبل المسئول والتبذير فيها فيما لا حاجة له عامل جذري في استقرار الوضع الاقتصادي للدولة والوضع المعيشي للمواطن في أي بلاد كانت.. فقيرة أو غنية تنام على النفط والذهب، " فالسياسة الإنفاقية الرشيدة عند الإمام علي (ع) هي التي يكون فيها الوالي (الحاكم) مقتراً على نفسه، كاسراً لشهواته، مبتعداً عما لا يحل له، سخياً على رعيته، وعليه لا يحق له بلغة العصر أن ينفق على مشروعات لا نفع فيها مطلقاً أو تحقق نفعاً لطائفة معينة دون غيرها، كما لا يحق له إنشاء مشاريع تكلف أكثر من كلفتها الحقيقية ونحو ذلك"(3).

فعلى القائد التواصل مع من هم تحت سلطته ليعرف النقص والحاجة والضرر الذي يلاحقهم من عماله، والإغداق عليهم بالخيرات حتى يكون في موقع القبول والدعم من كافة الطبقات التي لا تجد أي ضرراً أو نقصاً في حاجاتها اليومية نتيجة للسياسات المنتهجة التي عليه مراجعتها باستمرار لإحلال العدل وإزالة الطامعين من مواقعهم، فيكون نعم القائد ويكونوا خيرة الشعوب.

....................................

 ملاحظة: اعتمدت في قراءة ما ينبغي أن تقوم عليه السياسة الاقتصادية بين الحاكم والمحكوم على عهد الإمام علي (ع) لواليه على مصر مالك الأشتر – رض-.

 (1) وهذا ما عرف في القصة المشهورة عندما رأى (ع) عجوزاً مسيحياً يتسول، سأل أصحابه متعجباً مما يراه، فقال لهم: استعملتموه شابا، ورميتموه كهلا؟! وأمرهم بعد ذلك إعطاءه من بيت مال المسلمين.

(2) الموسوي، علي القطبي – علي ابن أبي طالب والسياسة الاقتصادية- مركز النور للدراسات.

(3) الجابري، د. عبد الله بن حاسن – الفكر الاقتصادي عند الإمام علي- مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج17 – ع37، رجب 1426هـ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 23/أيلول/2008 - 22/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م