كثير من الآيات تحدث الإنسان وتحثه على أن يستخدم عقله في
تفكيره وتدبيره كما في قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46]، وكقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، حيث إن الباري جل وعلا كرَّم
الإنسان وفضله على سائر المخلوقات بوجود العقل.
دعونا ننظر إلى العقل أو المخ كما يسميه البيولوجيون نظرة
تركيبية لنعلم دقة صنع الله عز وجل وإبداعه في هذا الجزء المهم في
الجسم.
وقبل الاستطراد في الموضوع علينا أن نميز بين الدماغ والمخ،
فالمخ جزء من الدماغ الذي يتكون من المخ والمخيخ والنخاع المستطيل،
والجزء المسؤول عن التفكير والتذكر وغيرها هو المخ أما المخيخ فهو
مسؤول عن التوازن بالاشتراك مع الأذن الوسطى، والنخاع المستطيل له
دور مهم في التحكم في العمليات اللاإرادية التي تحدث في جسم
الإنسان مثل تحرك العضلات الصدرية أثناء النوم من أجل التنفس.
يتركب الدماغ من الخلايا العصبية ذات الشكل والتركيب المميزين
عن بقية الخلايا، ويحتوي المخ بالتحديد على مئة مليار خلية عصبية،
ولو صففناها مجتمعة بخط طولي لأصبح طولها ما يوازي المسافة بين
القمر والأرض، كل هذه الخلايا تتواجد في منطقة لا يزيد حجمها عن
حجم كرة القدم.
هذه الخلايا تتشابك مع بعضها بواسطة مشابك شجرية متفرعة لدرجة
أن الخلية الواحدة وعلى صغر حجمها (5-100 ميكرون) تتصل بألف خلية
أخرى وذلك من أجل سرعة نقل البيانات والأوامر بين أنحاء الجسم.
وما يميز أيضاً الخلايا العصبية أنها غير قادرة على الانقسام،
ويتساءل الكثير لماذا لا تنقسم هذه الخلايا؟
الجواب: لأنها لو انقسمت لاستطاع العلماء في وقت قريب حل مشكلة
المقعدين الذين انقطع عندهم الحبل الشوكي، إلا أن الباري جل وعلا
له حكمة في ذلك، إن الخلايا العصبية لا تستطيع الانقسام وذلك من
أجل المحافظة على المعلومات التي تم فهمها وتعلمها، فالخلايا
العصبية تخزن المعارف العامة على شكل تراكيب أمينية (بروتينية)،
وهذه الأخيرة تبقى في خلايا المخ إلى لحظة استخدامها عندما نتذكر
أو نفكر أو نقوم بعملية رياضية، وهكذا.. مما جعل الخلية العصبية
ذات عمر طويل جداً مقارنة بالخلايا المتنوعة المختلفة في جسم
الإنسان، فالخلية الدموية مثلاً تعيش وتخدم الجسم في مدة أقصاها
ثلاثة أشهر تقريباً وأما الخلية البيضاء فتعيش حوالي الأسبوعين
وذلك على حسب صحة ومرض الجسم نفسه.
ولو أن الخلية العصبية تستطيع الانقسام لأصبح عمرها الافتراضي
بموازاة بقية الخلايا؛ أي إننا سنجد أنفسنا لا نستطيع حساب أبسط
الأمور الرياضية أو أننا لا نستطيع تذكر أسماءنا، والسبب موت
الخلية التي تخزن هذه البيانات، وهو ما يحدث بالضبط عند كبار السن،
فكبير السن أو المصاب بالخرف (الزهايمر) ما هو إلا فقد لبعض خلايا
المخ الخاصة بالتذكر فتراه ينسى أسماء أولاده أو أحفاده وعندما
يذكروه بهم يتذكر ثم سرعان ما ينسى، والمعنى أنه يصبح مثل الطفل
الصغير الذي لا يستطيع أن يدبر أموره بنفسه.. قال تعالى: {وَاللّهُ
خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ
اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل:70]، وقال جل من قال: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ
عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى
أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً
وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
[الحج:5].
ماذا يأكل المخ؟
مع أن الإنسان يأكل الكثير من الأطعمة إلا أن الدماغ لا يصل
إليه إلا بعضها، بالرغم من أن سدس كمية الدم تسري داخل المخ ووزنه
لا يتعدى (2%) من وزن الجسم ككل، فالمخ لا يأخذ من الطعام إلا
الجلوكوز (سكر بسيط) ويستخدم الأكسجين من أجل إحراقه، أما الماء
فيستخدمه من أجل تبريد هذا الاحتراق الناتج، ولا يستفيد المخ من
الدهون أو البروتينات أو حتى المواد المختلفة لما لها من مواد
إخراجية قد تضر بالمخ عند إخراجها.
كيف يتحكم المخ بنوع أكله؟
تحتوي الأوعية الدموية في المخ على الكثير من المميزات التي
تجعلها تقوم بالعديد من المهام التي من خلالها تحافظ على كمية الدم
المتدفقة إلى المخ وكذلك نوع المواد التي تدخل إلى المخ، ولو أننا
أوقفنا تدفق الدم لمدة (10) ثوانٍ لأغمي على الإنسان، ولو استمر
هذا التوقف لمدة أربع دقائق لماتت الخلايا العصبية وبالتالي يموت
المخ، وهو ما يحصل عند حدوث جلطة في المخ -لا سمح الله-، حيث إن
الجلطة تقوم بسد أحد الأوعية الدموية مما يؤدي إلى عدم تغذية منطقة
بالغذاء اللازم وحينها تموت هذه المنطقة.
في أي منطقة في الدماغ يتم التفكير؟
لقد قام العلماء البيولوجيون بالعديد من التجارب على أدمغة
ومخوخ العديد من الناس بمختلف درجة ذكائهم فوجدوا أن المنطقة
القشرية من المخ هي المنطقة الحيوية التي تتحكم في أغلب -إن لم نقل
جميع- العمليات الإرادية من تذكر وتفكير واستيعاب وغيرها، حيث إن
المخ يحتوي على العديد من الأخاديد والتعرجات تجعل المساحة القشرية
للمخ أكبر بكثير من حجمه ولذلك لاحظ العلماء أن الإنسان الفائق
الذكاء يحتوي على العديد من هذه التعرجات أما الإنسان المتخلف
عقلياً فإن هذه التعرجات تكون محدودة لديه.
منطقة الألم
كيف يحس الإنسان بنعمة الألم؟ نعم، نعمة الألم، فلولا الألم لما
استطعنا أن نعلم ما يجري بداخل الجسم من مشاكل، فكيف يحدث الألم؟
عندما نلمس مكاناً حاراً أو دبوساً فإن الخلايا العصبية تنقل
الأمر من منطقة الألم إلى العقد العصبية في الحبل الشوكي التي تصدر
الأمر هنا بسرعة سحب الإصبع أو اليد من المنطقة الخطرة، ثم تقوم
العقدة العصبية بإرسال الأمر إلى المخ من أجل تحليل هذا الحادث
وتقييم الألم المناسب، طبعاً كل ذلك يحدث في زمن لا يتعدى نصف
الثانية على أبطأ تقدير.
هل نستطيع أن نصنع مخاً؟!!
لقد حاول العلماء أن يجاروا دماغ الإنسان من أجل الوصول إلى آلة
قادرة على الاستغناء عن البشر إلا أن تجاربهم دائماً تصطدم بعوائق
كثيرة؛ منها عدم قدرة الآلة الدماغ على الإلمام بكل العمليات
المختلفة التي يقوم بهل العقل البشري ولو تمكن العلماء من صنع شيء
كهذا لكان حجمه بحجم ثلاث أو أربع مدن كبيرة جداً من مدن العالم!
فالباري يتحدى البشرية في صنع ذبابة، حيث يقول تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً
لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
[الحج:73]، وهذه الذبابة التي تفتقد إلى الكثير من الأمور التي
يستطيع الإنسان القيام بها، فهل في يوم من الأيام سنصل إلى صنع
دماغ؟
وللحديث بقية..
nadeerus@gmail.com |