نحو مراجعة مصادر المأثور والموروث

مشتاق بن موسى اللواتي

تعريفات:

المأثور والموروث:

قبل الشروع في طرح الموضوع، من الأهمية بمكان التمييز بين مفهومي المأثور والموروث في هذه المقالة. أعني بالمأثور هنا، هو الديني وبالتحديد هوالمأثور الديني الإسلامي، ويشمل ما أثر وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في مصادر المسلمين الموثوقة. وأما الموروث الفكري الإسلامي، فهو النتاجات الفكرية الإجتهادية لعلماء المسلمين ومفكريهم في مختلف المجالات الفكرية والثقافية، والمستمدة من فقه الكتاب والسنة.

وثمرة هذا التمييز تتجلى في أن الأول، متى ما ثبت صدوره عن النبي (ص)، فإنه يشكل مرجعية دينية معصومة، من منظور المسلمين.

 أما إجتهادات العلماء والمفكرين، فإنها في الغالب، لا تعدوأن تكون نتاج فقه وقراءة للنص القرآني والسنة المعصومة، مع الإستعانة بسائر الأدوات والمعدات العقلية واللغوية، بالإضافة إلى وسائل التوثيق بالنسبة لمرويات السنة المعصومة. ومجموع هذه الأدوات والوسائل تتمثل في عدد من العلوم المساعدة، لغوية وأصولية وتفسيرية ورجالية ودرائية (علوم المصطلح) وغيرها.

 وفي ضوئه، فإن الأولى، - إلى جانب الكتاب الكريم – تشكل مرجعية عليا للثانية، بينما الثانية هي عبارة عن نتاج مجهود علمي مستنبط من الأولى أو مستند عليها. كما ان الأولى لا يمكن ردها أو مخالفتها في نظر المسلمين، بعكس الثانية، فإنها في الغالب قابلة للنقد والنقض والأخذ والرد، وهو حاصل بالفعل بين أهل الفقه والفكر. وعليه فإن النتاجات الفكرية من تفسير أو كلام أو أصول فقه أو علم رجال أو دراية أو تاريخ وغيرها، فإنها تندرج في الموروث أو التراث الفكري والإجتهادي للمسلمين.

 وبهذا تتمايز السنة والمأثور النبوي المعصوم، فضلا عن القرآن، بل ومن باب أولى، من الإندراج في مفهوم الموروث والتراث، تجنبا للوقوع في المفاهيم الملتبسة وغير المنضبطة المعروفة.

مقدمة:

درج العديد من المفكرين والباحثين على المطالبة بإعادة كتابة التاريخ وتنقيته من التلاعب الذي وقع فيه وإجراء عمليات التدقيق والمتحيص لمصادر الحديث والمأثورات الإسلامية النبوية، والقيام بالدراسات النقدية الشاملة للتراث الذي خلفه العلماء والمفكرون المسلمون في مختلف مجالات الفكر. وذلك حتى يمكن تمييز الصحيح من السقيم وفرز الغث من السمين واستبعاد الشوائب والإضافات التي ألحقت بها، وتنقيتها من الأساطير والحكايات المدسوسة، وتصفيتها من المنحولات والموضوعات التي نفذت إليها، تحت دواع وأغراض سياسية ودوافع فئوية وملابسات إجتماعية وثقافية رافقتها. ومن ثم يمكن تقديمها (المأثور والموروث) إلى الأجيال في شكل واقعي يتفق مع العقل والمنطق، ويتسق مع سنن الإجتماع البشري ويتماشى مع منطق الأحداث وطبائع الأمور.

مجهودات السالفين:

والواقع، وبصرف النظر عن المنطلقات والخلفيات الفكرية لهذه الدعوات، فإن ما ترمي إليه، لم يغب عن فقهاء المسلمين ومفكريهم السالفين، بل لقد كان ذلك هاجسهم باستمرار. فقد شرعوا مبكرا يؤسسون المناهج ويقعدون القواعد ويضعون الضوابط والشروط في الراوي والمروي عنه ويرسمون موازين القبول والرفض ويدققون في سلاسل الأسناد و يحددون طبقات الرواة ويصنفون الروايات ويقارنون بين المتون ويحاكمونها في ضوء الكتاب وحقائق العقل والواقع، تحوطا منهم على الحقيقة وحرصا على سلامة المأثورات الإسلامية ونقائها، وبالتالي على ما يتأسس عليها من فكر وفقه وممارسة إجتماعية. حتى تتناقلها الأجيال التالية بقدر مناسب من الموضوعية.

ولقد كان من نتائج هذه العناية أن ظهرت علوم ومناهج نقدية في البحث والتحقيق، تفخر بها الحضارة العربية الإسلامية، لها مبادئها وقواعدها و اصطلاحاتها وتعريفاتها ومحدداتها ومصادرها من قبيل علم الجرح والتعديل لرجال الحديث وعلم مصطلح الحديث أو الدراية وطبقات الرواة والمنهج النقدي للتاريخ، مضافا إلى فنون التراجم والفهرسة.

تضييق نطاق النقد:

وعلى الرغم من ذلك، فقد لاحظ بعض االدارسين لجانب من نتاجات علوم الحديث، تركيزها على النقد الخارجي المتمثل في أحوال الرواة واتصال السلاسل السندية وعدم العناية الكافية بالنقد الداخلي للمتون مقارنة باهتمامها بالسند والعنعنات، بالإضافة إلى تأثر بعض قواعد التقييم الرجالي بالنزعات الأيدلوجية. كما لوحظ عدم تعميمهم لتلكم المناهج والقواعد النقدية على أخبار ومرويات جميع الأبواب، بل ركزوا اهتمامهم في الغالب على جانب من المأثورات الدينية النبوية المتعلقة بفقه الأحكام الشرعية وإغفال تطبيقها على مرويات التفسير والأدعية والزيارات والسنن والفضائل والملاحم والفتن وحوادث آخر الزمان وأخبار الأمم السابقة وحكايات أهل الكتاب والأحلام والمنامات وما إلى ذلك. لقد غلبوا جانب الفقه الشرعي على سواه، لكونه يمثل مجال التكليف الشرعي الذي تترتب عليه تكاليف شرعية وآثار عملية دنيوية وأخروية. ويعبر هذا التغليب وهذا التعليل عن غفلة لما للمجالات الأخرى بمجموعها من أهمية في تشكيل الوعي العام للجماهير المسلمة، عبر تأثيرها في تكوين المفاهيم العامة وتشكيل التصورات التي تسهم في تكوين منظومة القيم والأنماط السلوكية للأفراد والجماعات. ولا نغالي إذا قلنا ان الأخبار والآثار في الفروع الأخرى، التي لم تحظ بقدر كاف من التمحيص والغربلة، تسهم بشكل كبير في تشكيل رؤى الناس ونظراتهم حيال الدين وقيمه وتعاليمه وشعائره وقادته ونحو التاريخ والمناسبات والمواسم الدينية، وربما كانت تلكم الأخبار هي الرافد المهم الذي تستقي منه كثير من الشرائح الثقافية والإجتماعية الشعبية المسلمة، رؤيتها حيال قضايا الدين والممارسات الدينية. فعلى سبيل المثال لو أجرينا إستبيانا حول نظرة كثير من المسلمين، من خارج دائرة النخب المثقفة، عن بدء الخليقة وقصة آدم وحواء وأسباب خروجهما من الجنة والصراع بين هابيل وقابيل، ونظرتهم إلى الأنبياء وأقوامهم وإلى أدوارهم ومعجزاتهم، ونظرتهم إلى المرأة ودورها في الحياة وعلاقتها بالرجل وإلى الحياة الزوجية والأسرية، ونظرتهم إلى مفاهيم الغنى والفقر والزهد والقضاء والقدر والخير والشر والجبر والإختيار وإلى الدنيا والآخرة والجنة والنار والملائكة والجن، وما إلى ذلك من الأمور، فإننا سنلاحظ أن كثيرا منهم يردد مقولات استقيت من بعض الأخبار غير المدققة التي تحويها بعض الكتب القصصية المليئة بما يعرف في أدبياتنا التراثية، بالإسرائيليات.

 من جهة أخرى ان تشكل المنهج النقدي في التراث التاريخي، قد تأخر نسبيا عن المأثور الحديثي،حيث كان الإهتمام به تاليا ومتفرعا على الإهتمام بالمرويات الحديثية الدينية، ومن ثم فقد تأثر به وسار في ركابه في بادئ الأمر، كما يبدو ذلك جليا من تاريخ الطبري. ثم أخذ المنهج التاريخي في التبلور التدريحي على يدي بعض المؤرخين البارزين بعده،كالمسعودي وبن الأثير غيرهما، إلى ان استقل وصار منهجا له أصوله على يدي ابن خلدون.

 واللافت للنظر هنا، انه على الرغم من الإسهام الكبير لابن خلدون في بلورة المنهج النقدي للتاريخ على أسس عمرانية وإجتماعية وتمييزه عن مناهج النقد الحديثي في مقدمته الشهيرة، إلا انه في الغالب لم يطبق هذا المنهج النقدي في موسوعته التاريخية.

التوسع في التساهل:

 ان هناك من يتوسع في التساهل في طرح المضامين التي تحتويها مثل تلكم الأخبارغير المدققة - السالفة الإشارة - وتمريرها على بعض الفئات غير الواعية من الناس، تحت ذرائع تسامح العلماء في باب السنن وفضائل الأعمال، متغاضيا عن تحفظ عدد من المحققين المختصين على ذلك. ويدافع آخرون عن مثل هاتيكم الحكايات تحت دعاوي ' الإمكان العقلي ' وعدم الإستحالة العقلية ' مع ان هذا وحده لا يكفي لإثبات صدورها من المعصوم عليه السلام، ولا يدل على تحققها الفعلي، إن كانت واقعة أو حادثة تاريخية. نعم يمكن ان يعزز الإمكان العقلي، مضمون الخبر الممكن بعد التثبت من صدوره، وليس قبله. وقد يسوغ فريق ثالث طرح بعض الوقائع المشكوك فيها أوغير الثابتة، ملقيا تبعات نقلها على 'عهدة الرواي وذمته '، إن كان معروفا، أو المصدر وصاحبه، بتصديرها بعبارة 'قيل أو روي أو حكي' وما شابه. وربما حاول بعضهم وضع بعض اللمسات الدرامية على الحدث، إلى درجة مبالغ فيها، لبعض الأغراض العاطفية والإنفعالية، متذرعا بما يعرف 'بلسان الحال '، فيسقط على الحدث التاريخي بعض الأوضاع النفسية من واقع خياله. ومع غياب أدوات التمييز لدى كثير من المتلقين من الناس، تختلط الحقائق بغيرها من العناصر الأسطورية والخيالية التي لا واقع لها. وتكمن الخطورة في هذه الأساليب التبريرية والتسويغية المتساهلة في انها ربما قادت إلى إضفاء الصفة الدينية على ما ليس دينيا، وإسقاط وصف القداسة على ما ليس مقدسا، ثم تتأسس على كل ذلك مواقف ومفاهيم وممارسات تتوارثها الأجيال.

إنعكاسات منطق التبرير:

ان هذا المنهج يسهم في بروز حالة التردد واللاحسم لدى بعض الفئات من المتلقين تجاه العديد من المرويات وقضايا السيرة والتاريخ وما تأسس عليها من مواقف وممارسات، لأنه يزود مختلف التيارات والتوجهات الفكرية بالمسوغات ويسبغ عليها المشروعية، مما يزيد من الإرتباك لدى الباحث والمتتبع.

على انه لا بد من التنويه إلى ان هناك بعض البحوث والدراسات التي نهجت منهج التحليل والنقد والمراجعة لبعض المأثورات والروايات الدينية وكذلك الحال لبعض الحوادث في السيرة والتاريخ، وإن كان يلاحظ على بعضها، بالأخص في الحقل التاريخي، انها انطلقت من منطلقات الدفاع عن بعض الإتجاهات الفكرية، وهذا من شأنه أن يقيد دورها وتأثيرها ضمن ذلك النطاق. ولسنا هنا بصدد الإعتراض على هذا المسلك، خصوصا إذا أخذ على نفسه أن يلتزم بقواعد واخلاقيات البحث العلمي.

الحاجة إلى مشروع نقدي:

 ولكن تظل الحاجة قائمة إلى مشروع نقدي علمي شامل لمصادر المأثور ات والمرويات الدينية وكذا للتراث الفكري والتاريخي، في ضوء الحقائق الدينية والعقلية، وبالتواؤم مع متغيرات المكان والزمان. ويراعى ان يكون مشروعا علميا، متعاليا على الإنتماءات الفكرية المحدودة، بحثا وراء الحقيقة العلمية والرؤية الأقرب إلى الصدق والصواب. وذلك كأسلوب من أساليب النقد الذاتي، بإعادة تقييم تلكم المضامين ومحاكمة ما تأسس عليها من ممارسات ومفاهيم وتراكمات، للحيلولة دون تحولها، بفعل الزمن وتطاول القرون في ذاكرة الأجيال وكأنها جزء من الدين وجزء من الهوية التاريخية الثابتة للأمة.

لقد غدت كافة مصادر المأثور الإسلامي والموروث الفكري والثقافي للأمة، سواء ما خضع منها للنقد والتمحيص والغربلة أو ما لم يخضع، غدا في متناول الجميع، إثر تطور تقنيات الطباعة والنشر وانتشار التعليم، وإثر ثورة الإتصالات وتفجر المعلومات وانتشار الشبكات الإكترونية، وأصبحت موردا وموئلا لمختلف الباحثين والدارسين ومن شتى الإتجاهات الفكرية والنقدية، وعليه فإن عرضها هكذا على علاتها دونما تحليل أو تعقيب أو شرح لخلفياتها وظروف تشكلها، ومن غير تعريضها لأشكال النقد الداخلي والخارجي، من شأنه أن يجعلها عرضة لتحليلات غير المختصين فيها وغير المطلعين لخلفياتها وطبقا لمنهجيات لا تلائم غرضها ولا تتسق مع سياقاتها الفكرية، مما يولد إرتباكا معرفيا وفجوات فكرية ونوعا من الغربة الثقافية لدى الأجيال تحول دون فهم واستيعاب مصادرها وأصولها التاريخية والفكرية، بشكل سليم.

الخلاصة:

وهكذا تتأكد الحاجة وتتضافر الدواعي لوجود مشروع شامل لمراجعة مصادر المأثور والموروث الفكري والثقافي وتصحيح المفاهيم والرؤى والممارسات غير الصائبة التي تكونت في ظلها والتقاليد التي تأسست عليها.

فجدير بالعلماء والمختصين بحسب إختصاصاتهم وبإسناد من النخب الواعية والمثقفة من أبناء الأمة، لأن ينهضوا بهذا الدور الذي ينتظرهم، لاستكمال ما بدأه السالفون من العلماء والمفكرين والفقهاء من أعمال ومشاريع نقدية، فيواصلوا المسيرة ويكملوا نواقصها ويسدوا فراغاتها ويرصدوا المشكلات المستجدة ويقدموا لها المعالجات المستنيرة. على ان يتم ذلك بالإنفتاح على ما توصلت إلية المعرفة البشرية من تطور في قواعد البحث والتحليل والنقد، وفي تفس الوقت عبر تبادل الخبرات والتجارب العلمية والمعرفية بين الجوامع والحوزات العريقة والجامعات الحديثة، سعيا نحو التكامل، ف'الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها '.

* باحث عماني

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/أيلول/2008 - 17/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م