أدباء عالميون: أراغون.. انبعاث الاسطورة

هادي الربيعي

اذن توقف قلب لويس أراغون، وهوى واحدٌ من تماثيل فيدياس الخالدة ليتحول الى كوكب دائم الإشعاع وهو يتجول في مدار هذه الآرض التي عاش عليها كما ينبغي لرجل عظيم أن يعيش، هو الموت اذن وقد آن ان يستجيب لنداءات الزا تريوله تلك المرأة الملاك التي انعطفت بحياة اراغون كلها الى حيث تربعَ أخيراً على قمة الجبل الشاهقة وحيداً منفرداً وسط رطوبة فقدان رفيقة الحياة الملهمة.

تلك هي جلبة الخالدين وهم يتأهبون لإستقبال ضيف كبير آخر وتلك هي الزا تريوله بثيابها البيض الملائكية تلّوح من بعيد وعلى شفتيها ابتسامة الرضا فها هو لويس يعود ليكون معها في مرة ثانية فير رحلة لا نهائية، واية رابطة تشدني بكل هذا العنف الى رجل تفصلني عنه مسافات شاسعة ولا احلم حتى بالوصول الى آخر ظله الطويل في مطلع شمس هادئة ؟ اية رابطة تلك التي تجعل الرعشة تتسلل الى يدي وانا اكتب هذه الكلمات ؟ ولكنني اهدهد نفسي وأهمس اليس هو أراغون ؟ فمن اين يدخل المرء الى عالم اراغون الشاسع ؟ ذلك البناء الشاهق بعظمته يلوح امامنا متوهجاً تحت اشعة الشمس بكل فخامته وكبريائه ولكن ما اكثر الطرق التي تقود الى هذا البناء المتوهج فمن اين يدخل المرء الى هذا العالم المتعدد الطرقات الذي تشيع فيه رهبة الأبنية الدينية القديمة وجلالها وهل ترانا عرفنا اراغون حقا وكما ينبغي ؟

ولادة في عالم ممزق

في 3 تشرين الأول وفي صبيحة يوم شتائي ممطر سنة 1897 دوّت في احد البيوت الفقيرة في ضواحي باريس صرخة مولود جديد ليعلن بدء رحلة عذاب طويلة في هذا العالم الصاخب كانت الطبيعة هي الأخرى تعلن حزنها في ذلك اليوم الشتائي المكفهر وهي تتأمل مسيرة التعب الطويلة التي تنتظر هذا الوليد الذي ما ان بدأ يشب عن الطوق  ويتعرف على ابجدية حقائق الحياة حتى بدأت الحرب الكونية الأولى بكل عنفها وضراوتها ولا انسانيتها لتسجل فوق المخيلة الغضة ايقاعاً عنيفا ًكان بداية لأحزانٍ كثيرة رافقته في مسيرته الطويلة الشاقة.

وهكذا وجد لوي نفسه مرغماً على العيش في مجتمع ممزق تناهبت قيمه الحرب ببشاعتها واحداثها وذكرياتها، كانت اوربا في تلك المرحلة تعيش مرحلة انقلاب على المفاهيم الدينية التي توارثتها واعلنت غضبتها على شرائع السماء التي سمحت لكل هذه البشاعة ان تحدث على الأرض، كان المواطن الأوربي ممزقاً يائساً حاول ان يبحث في انجازات العلوم عن ملاذٍ يعوضه عن هذا الإهتزاز الروحي العنيف فوضع هذه الإنجازات نصب عينيه في محاولته اليائسة لتعويض ما فقد من القيم الروحية ولكن التطور العلمي جاء ليزيد من يأسه وشقائه بعد ان تركز على صناعة وتطوير الأسلحة الفتاكة المدمرة تأهباً لحروب جديدة اخرى، وسط كل هذه الفوضى المروعة عرف اراغون العالم وكان قد فقد الكثير من اصدقائه المقربين مختزنا الكثير من الذكريات الحزينة وقد ولدت الدادائية في هذه الفترة كتعبير عن التمرد الفوضوي ضد لا انسانية الحرب وبشاعتها وكان هذا الإتجاه بما يحتوي عليه من رغبة عارمة في التدمير تصل الى حد الهوس والجنون والسخرية العابثة من الواقع، كان يستوعب تلك النفوس القلقة الحائرة المتمردة التي تبحث عما يعيد لها توازنها الروحي في زمن خمد في قلب المعاني وكف عن الخفقان، وقد حمل راية هذا التمرد ادباء معروفون اصبحوا فيما بعد روادا من رواد الإتجاه السريالي، كانت مجموعة اراغون الشعرية الأولى – نار الفرح –عبارة عن مجموعة من القصائد الدادائية التي تنضح منها السخرية والإساءة والمزاج الحزين كانت ابتسامة متهكمة ساخرة في زمن كان يصعب فيه على المرء ان يبتسم.

اوسمة لبطولة اراغون

كتب اراغون نتاجا وفيرا توزع بين البحوث والدراسات النقدية والشعر والرواية، لقد كتب نتاجا روائيا وفيراولكن اجمل الروايات هي تلك التي لم يكتبها اراغون فهو موهبة متفردة تعد بالجديد دائما ويمكن القول ان جميع الروايات التي كتبها اراغون هي عبارة عن رواية واحدة اسمها – حياة لوي اراغون، تلك الحياة البطولية الحافلة بمآثر الشجاعة والنبل التي امضاها مع شريكة حياته الزا تريوله مقاتلين بالسلاح والكلمة في سبيل تحرير فرنسا من سلطة الغزو النازي وهيمنته، والحقيقة ان ذكريات الحياة التي عاشها اراغون خلال مرحلة الحرب تمثل عملا ملحميا رائعا لبطولة الشعب الفرنسي من خلال شخصية استطاعت ان تعبر بعمق عن حقيقة روح فرنسا الناهضة وهي ترزح تحت ضراوة الإحتلال النازي ويشير عدد من النقاد ان اراغون كان الوحيد من بين جميع المبدعين الذي كان يستعمل ضمير الأنا ليعبر به عن الذات الفرنسية الواسعة.

ولا يفوتنا هنا ان نشير الى  التلاحم الرائع بين أراغون وحبيبته الزاوهما يعانيان اقسى الظروف محاربين من اجل شرف وسيادة وكرامة فرنسا وحكاية اراغون والزا ليست حكاية عادية انها نوع من ألأساطير التي استطاعت قدرة الحب الخلاّقة ان تحولها الى حقيقة، انها اسطورة تحدث في عصر ودّع منذ زمنٍ بعيد عهد الأساطير والحكايات الخارقة التي تُحكى في ليالي الشتاء الطويلة حول المواقد المتوهجة.

ان البطولة الفذة التي ابداها اراغون في الحرب كانت مثار اعجاب الجميع وتتويجا لبطولاته تم منحه وساما لخدماته في بلجيكا ووساماً آخر لمساهمته في في معارك اللوار وكان اكبر تكريم لشجاعته يتمثل في منحه الوسام العسكرية الذي كان يعتبر احد ارفع قلادتين في فرنسا، ومن الصعب هنا ان نشير الى كل تلك الحياة الضاجة الصاخبة الحافلة بالأحداث تلك التي قضاها اراغون والزا مقاتلين استطاعا ان يحولا الكلمة الى سلاح فعال لا يقل اهمية وتاثيرا عن أي سلاح حربي، انها ملحمة رائعة جديرة بان نتأملها ونتعلم منها الكثير.  

موقف مشرِّف من القضايا العربية

في آخر مقابلة له في الصحافة العربية جدد أراغون مواقفه المشرفة والنبيلة من القضايا العالمية عموما والعربية منها على وجه الخصوص فهو يرى ان الوطن العربي بحضاراته الخالدة وامتداده التاريخي هو عالمه، وانه كان يحاول طوال حياته اثارة انتباه الشعب الفرنسي ليرى الحضارة العربية على حقيقتها، لقد وقف الى جانب القضايا العربية العادلة منطلقاً من فهمه الشامل لحق الشعوب في تقرير مصيرها بعيدا عن الهيمنة الأجنبية والتسلط الخارجي، ومواقفه من الحرب التي خاضها الشعب الجزائري في سبيل الحصول على استقلاله، والاعتداءات الاستعمارية على الأقطار العربية معروفة ولكن هذه العلاقة بينه وبين العرب تتجاوز هذه المواقف الى أعماله الإبداعية، فرائعته – مجنون ألزا- انما تستلهم حكاية مجنون ليلى العامرية المعروفة في تأريخنا العربية، ففي هذه الرائعة التي يتوضح عبر سياقها الملحمي حشد لأجواء الفولكلور والأجواء العربية يهيم قيس بامرأة اسمها الزا تظهر على الأرض بعد مضي عصور بعيدة، تنبعث مجداً لتعيد تشييد ما تهدم من معاني الوفاء والحب اللانهائي في هذا العصر الصاخب.

ان اراغون في – مجنون الزا – يقدم لنا نموذجا رائعا متطوراً لكيفية استلهام الموروث وتوظيفه في الإبداع المعاصر، وبعثوره على حكاية تستطيع ان تستوعب حبه الكبير لألزا، استطاع أراكون ان ينتشل الحكاية من خصوصيتها الموغلة في القدم ليصل بها الى العام الشامل بطريقة خلاّقة فالزا التي كانت تجلس أمام المرآة لتسرحَ شعرها انما كانت ترى في المرآة صورة العالم المضطرب، كان أراغون يؤكد دائماً ان كل حادثة من حوادث التاريخ هي التاريخ نفسه وان المجنون يكمن على الدوام في كل انسان عادي.

هل عرفنا أراغون؟

اذا عرفنا مدى غزارة ابداع اراغون خلال حياته الطويلة، أدركنا اننا بعيدون عن معرفة هذه الموهبة الفريدة بما يكفي لاستيعابها، كان غزيز العطاء بشكل مذهل ونادر، فكل مكان كان صالحا بالنسبة له للكتابة وكانت مخطوطات رواياته ترافقه دائما في حقيبته العسكرية، وكان يستطيع ان يواصل الكتابة وسط الضجيج وفي ساحات المعارك عند توقفها وفي الخنادق التي كان يحفرها المقاتلون وفي محطات القطار وفي كل مكان يجد فيه بعض الوقت ليمسك القلم وقد يُسأل ُ حين يكون منهمكا في الكتابة فيجيب ثم يعود الى عالم الكتابة، فلا غرابة ان نجد ان القصائد التي كتبها خلال الحرب والتي طُبعت باربعة مجلدات انما كانت تمثل يوميات المقاتل او على الأدق يوميات فرنسا من خلال عيني مقاتلها.

لقد سبق وان أشرنا الى ان ابداع أراغون توزع على عدة محاور اساسية ففي الشعر اصدر أراغون العديد من المجموعات الشعرية، نار الفرح، قلب كسير، عيون الزا، متحف جريفان، ديانا الفرنسية، مجنون الزا ومن كتبه المهمه في النقد، كتابه – أحاديث الغناء الجميل – اضافة الى مؤلفات اخرى منها بحث في الاسلوب، الثقافة والانسان، من اجل واقعية اشتراكية، وستندال.

أما مؤلفاته الروائية فهي الأخرى تمثل نتاجا غزيرا نذكر منها فلاّح باريس، البانوراما، ثم مسلسل عالم الواقع الذي احتوى على أجراس مدينة بال، الأحياء الجميلة، المسافرون على عربة امبريال، اورليان، ثم رواياته في مرحلة التجديد الروائي التي احتوت على اعمال مهمة منها حُكم بالاعدام، النسيان، مسرح/رواية،وكانت المأثرة الكبرى هي طبع النتاج الروائي المشترك بينه وبين الحبيبة الزا الذي احتوى على 42 رواية موزعة بينهما بالتساوي حيث احتوى هذا المطبوع الضخم على 21 رواية لأراغون و21رواية لألزا.

أمام نتاج كهذا اعود فاتساءل ثانيةً هل عرفنا أراغون حقا وكما ينبغي لنا ان نعرف ؟ واعتقد اننا نحتاج الى زمن آخر نتوغل فيه عميقا في عوالم هذا المبدع الكبير وعندها سوف نكتشف عمق كلمات فرانسوا ميتران وهو يؤكد على ان فرنسا قد خسرت بموت أراغون أكبر شاعر في هذا العصر.  

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/أيلول/2008 - 15/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م