لم يكن مفاجئاً لي ولغيري من المتابعين ما أنتجته المسلسلات
التلفزيونية من هستيريا انتابت المجتمعات العربية خصوصاً الخليجية
منها بسبب هوسهم بالمسلسلات التركية كمسلسل نور وسنوات الضياع، ولو
رجعنا بعجلة الزمن إلى الخلف قليلاً -وتحديداً مع بداية ظهور
القنوات الفضائية العربية في بداية التسعينات من القرن الماضي
نستذكر معها حدثاً مشابهاً له الذي شهد هو الآخر إقبال من
المجتمعات الخليجية على المسلسلات المكسيكية المدبلجة كمسلسل
كساندرا الذي بسببه حدثت مواقف وقصص تشابه إلى حد ما القصص
والحوادث التي انتشرت في مجتمعاتنا بسبب متابعتهم للمسلسلات
التركية.
ونتيجة لما أفرزته المسلسلات التركية من مشاكل وقضايا على
الصعيد الاجتماعي والديني تدخلت المؤسسات الحكومية والدينية في بعض
الدول لكبح رواجها وتداعياتها على مجتمعاتهم، التي أصبحت كالنار
الذي يجري في الهشيم.
و كنت أظن بعد قراءتي لعدد من المقالات التي تناولت تلك
المسلسلات عبر مواقف وطلاق هنا وحادثة هناك، أن كتابها بالغوا
بكتاباتهم واستنتاجاتهم، ولم أكن أتوقع أني سأسرد فصل من فصولها
الدرامية إلا بعدما وضعت يدي على واقع مرير يُبكي الإنسان أكثر مما
يضحكه.
• حتى المستشفيات أصابتها حُمى مسلسل نور
في أول دراما عشتها من فيض تلك المسلسلات كانت عند دخولي
المستشفى لإجراء عملية جراحية في كاحلي الأيسر منذ قرابة الشهرين،
فصادف وجود شابين وشبل كانوا مرضى معي في نفس الغرفة، وبعد خروجي
من غرفة العمليات انتبهت إلى حديث بين الشابين وذلك الشبل الذي خضع
هو الآخر لعملية جراحية منذ ساعتين، فسمعته يقول لأحدهما: ماذا فعل
مهند مع نور في الحلقة الماضية ؟!!، فأدركت أنهم يتحدثون عن
المسلسل التركي، فانتابني شعور بالرغبة في الضحك -بالرغم من كل
الألم الذي كنت أشعر به، فقلت في نفسي: أصبحنا موهوسين بهذه
المسلسلات حتى أن مرضى المستشفيات ينسون آلامهم ويذكرونها !!.
• شاهدت مسلسل نور بجوار مرقد الرضا ( ع ) !!
كنت اعتقد أن ماحصل لي في المستشفى يعد مصادفة من الصدف، ولم
أتصور أن هذه المسلسلات وهوسها ستلاحقني حتى في سفري، لكن المفاجئة
كانت بانتظاري في آخر سفرة لي لمدينة مشهد المقدسة، حيث قررت بعد
خروجي من الروضة الرضوية أن أدخل مقهى للانترنت للتواصل مع الأهل
وأتحدث معهم عبر الماسنجر، فصادف أن جلس بجانبي على الجهاز المجاور
فتى من مملكة البحرين، فجأة سمعته ينادي فتاتين في نفس المقهى
ويقول: تعالوا بسرعة هذه الحلقة الأخيرة من مسلسل نور!! تعالوا
شوفوها، فتراكضت الفتاتان على الجهاز وهما يسألانه: ماذا حصل ؟
ماذا فعل مهند؟ أكيد تصالح مع نور، حسافة ماشفتها كنت
احاتيها!!......، عندها ابتسمت ابتسامة أسى وحسرة، وقلت في نفسي:
حتى مدينتك يابن موسى لم تسلم من مسلسل نور !!.
• يترك أخته المريضة لأجل مسلسل باب الحارة
وليس بعيد عن هوس المسلسلات التركية، كان هوس المسلسلات
السورية، فبالأمس القريب وفي إحدى ليالي هذا الشهر الفضيل كنت
عائداً بسيارتي إلى المنزل وإذا بأحد الآباء يطلب مني التوقف
لإيصاله لمنزله، وبدون مقدمات أبدى تذمراً واضحاً ثم قال لي: تلقيت
اتصال من المنزل وقالوا لي إن إحدى بناتي بحاجة إلى المستشفى، ثم
أردف بقوله: أتعرف يا أستاذ ؟ إن من اتصل بي هو أحد أبنائي
الثلاثة، وطلب مني الحضور لإسعاف أخته وإيصالها للمستشفى، فسئل
الأب ابنه: لماذا لاتوصلها أنت أو أحد إخوانك ؟ فقال الابن:
لايمكننا إيصالها للمستشفى لأننا نشاهد مسلسل باب الحارة !!،
والبقية تأتي.
• أين يكمن الخلل؟
انشغل الكثير من المثقفين والمختصين في تفسير انجذاب المجتمعات
الخليجية لتلك المسلسلات، فالبعض رفع راية المدافع عنها ووصفها
بأنها صفعة للتيارات الإسلامية، لأن تلك الشعوب تعيش ضغوط باطنية
مكبوتة تقيدها قيود الحرام في كل مكان، فجاءت هذه المسلسلات لتخفف
من وطأة تلك الضغوط، أما البعض الآخر فرفع راية المناوئ لها وشبهها
بالسم الذي يضاف إلى العسل، كونها تحمل في حقيقتها مشروعاً
تدميرياً كاملا ً تعطي شرعية للانتقام وتميع الأخلاق وتغير القيم
والمعايير بفكر دخيل أبعد ما يكون عن حضارتنا وثقافتنا.
لكن التفسير المبدئي لهذه الظاهرة يكمن في نوعية وطبيعة
المجتمعات التي راجت فيها رواجاً كبيراً، وهي مجتمعات يغلب عليها
الطابع التقليدي المحافظ كمجتمعاتنا الخليجية، لذلك ركز القائمون
على تلك المسلسلات على حلقة مفقودة نسبياً في هذه المجتمعات يتمثل
في الجانب العاطفي والوجداني للإنسان، فنُسجت سيناريوهات ملائكية
مدعمة بعلاقات عاطفية وغرامية كعلاقة الزوج بالزوجة وحلها بطريقة
رومانسية، وهي طريقة لم تألفها وتتعودها المرأة العربية، خاصة مع
غياب وإجحاف لحق المرأة في كثير من الجوانب، فاندمجت عقول وعواطف
المتابعين لها مع هذه المشاهد لحد أوصلت الكثيرين منهم لحالة
الهستيريا المفرطة تجاهها.
كذلك عمدت تلك المسلسلات إلى تكتيك فني مهم وهو استخدام اللهجة
السورية وذلك بعد النجاح الذي شهدتها المسلسلات السورية كباب
الحارة وأيام الصالحية، فكانت طريقة الدوبلاج تظهر الكلام المترجم
وكأنه اللهجة الحقيقية لإبطال المسلسل فخلق جواً تفاعليلاً بين
المشاهدين وبين أحداث المسلسل، خاصة إذا ما أخذنا في عين الاعتبار
أن اللغة التركية تحمل في طياتها مفردات لغوية عربية.
ويظن البعض أنني لكي أكون بمستوى الرومانسية والملائكية التي
يقرئها البعض في حيثيات تلك المسلسلات،و أعيش فصول الحياة
وتجاذباتها المختلفة ؛ فيجب عليّ حينئذ أن أشاهد هذا النوع من
المسلسلات، لكن من الممكن لأي منا أن يقرأ ويفهم كل ذلك عبر ثقافة
وفكر تختزلها عقولنا وتجاربنا وتراثنا الفكري والعلمي، لأن المسألة
برمتها لا تعدو أفكار من هذا المؤلف أو ذاك، وإن كان بعضها يحكي
شيئاً من الواقع، لكن بعضها خيال مفرط لايرتبط بواقع، وبعضها الآخر
غثاء لافائدة منه.
وقد حاول البعض التقليل من شأن وخطر تلك المسلسلات كونها مجرد
عمل فني يستمتع به، لكن التداعيات الاجتماعية التي انعكست على
الواقع الاجتماعي هو مكمن خطورتها، بالإضافة للمشاكل الاجتماعية
الناتجة عنها كإدمان الأمهات والزوجات والمراهقين على مشاهدتها،
والتعلق والغرام بأبطالها، وما أفرزته من سلوكيات وأفكار وقرارات
غير مسئولة بين الشباب والفتيات، وهذا ما أدى إلى ارتفاع نسبة
الطلاق في بعض المجتمعات.
واعتقد البعض أن نوعية المسلسلات هو السبب الحقيقي لرواجها في
مجتمعاتنا، وهو تفسير منقوص؛ فثمة سبب وجيه يكمن في وجود فجوة
شاسعة بين الثقافتين، فالثقافة التي نشأت عليها مجتمعاتنا تختلف في
مضامينها وتوجهاتها عن مضامين وتوجهات الثقافة الوافدة التي روجت
لها تلك المسلسلات، لذلك حصل صراع قوي بين عاداتها وتقاليدها
الاجتماعية والدينية وبين طبيعة المسلسلات -بالرغم من أنها لم
تتناول أي جانب من تاريخ المسلمين أو تسيء لحضارتهم، لكنها تدعو
إلى حالة من الانفلات الغرائزي دون حسيب أو رقيب.
لذلك لم تكن المسلسلات التركية أو المكسيكية إلا سيناريوهات
متكررة سنشاهدها اليوم وغداً بأشكال وبأنماط أخرى تزرع على شكل
أزهار وهي في الأصل ألغام موقوتة وأفيون يغرز في أجساد المجتمعات
بجرعات بطيئة في فترات متقطعة تصل بهم إلى حد الإدمان الكامل.
فالخلل الحقيقي يكمن في ضعف جدار الممانعة لتلك الشعوب
وجاهزيتها لمحاربة ذلك الأفيون قبل ولوجه لأجسادهم، لأن علاج
المدمن ليس بالأمر السهل واليسير، فكان حرياً بنا أن نعمل بشعار
الصحة: الوقاية خير من العلاج.
ومن هذا المنطلق كان مستوى الثقافة والوعي هو المحك الرئيس في
تعاطينا مع الثقافات الأخرى لكي نستطيع فرزها بشكل واع وعقلائي
بعيداً عن أي تأثير ومؤثر، حينئذ يمكننا أن نتعامل معها بمستوى
الفطن الذي يعي مايدور حوله، ولعل من سوء حظي أني لم أوفق وحتى
الآن أن أُشاهد حلقة من حلقات تلك المسلسلات !! |