بعد خمس سنوات على إطاحة النظام، قليل من كتاب المقالات في
العراق وخارجه من ظل يعتقد أن ما قام به الرئيس بوش في العراق، كان
مأثرة بحق، و قد دخل التاريخ على أنه حرر شعب من أشرس
الديكتاتوريات في التاريخ. وأنه الرجل الذي لولاه لظل الشعب
العراقي يرزح ويكابد من حاكم لم يتردد في إزهاق أرواح مئات الآلاف
من أبناءه، فقط ليبقى في السلطة متحكما بموارد بلده ومصيره. في حين
غير الكثيرون موقفهم مائة وثمانون درجة الى الضد من ذلك، بعد شهور
فقط مما كانوا يعتبروه تحريرا وإنقاذا، ليغدو مؤامرة هدفها تدمير
العراق وسرقة موارده، محملين الإدارة الأمريكية ما حل بالعراق من
فوضى وتردي في مناحي الحياة المختلفة للمواطنين.
أن أولئك الكتاب الذين ما زالوا يعتقدون بصحة قرار الحرب في
حينها، لهم الكثير مما يوردونه من الأسباب لدعم وجهة نظرهم،
انطلاقا من الواقع المرير الذي كانت تعيشه القوى السياسية المعارضة
إبان الديكتاتورية، والوهن والتناحر الذي ميز علاقاتها مع بعضها،
مما أكد استحالة نجاحها بتغيير النظام، وإقامة البديل الديمقراطي
مكانه.
لقد أطيح بالنظام بسرعة قياسية، وتهاوت رموز الديكتاتورية
وأصنامها، وخرج الناس إلى الشوارع، في احتفالات عفوية فرحا
وابتهاجا بعودة العراق إلى جماهيره. كان المزاج العام للناس مع
التغيير، ولم يكن غريبا حينها، أن نسمع "أن الله من أرسل الرئيس
بوش لمساعدة العراقيين، ولولاه، لما تمكنت أي قوة داخلية أن تذهب
به إلى الجحيم كما فعل ". كان مثل تلك الآراء، تسمع في الشارع، و
في حافلات نقل الركاب، وفي سيارات التاكسي، ومن رجال الأعمال ورجال
الدين، ومن النساء والرجال وحتى الأطفال. كانت ملامح الفرح في كل
مكان تقريبا، في أوساط الفقراء والمعدمين، في أوساط المهجرين عنوة
من بيوتهم وأراضيهم وأمكنة سكناهم، في أوساط المهاجرين هربا من
القمع والملاحقة، في أوساط الأحداث الذين ولدوا ونشئوا في المهاجر
والذين يحلمون بزيارة ورؤية وطن أبائهم الذي ظل مغلقا حتى ذلك
اليوم. وكانت الصورة اكثر بهاء في كوردستان، بين ذوي ضحايا
الأنفال وحملات الإبادة بالأسلحة الكيماوية، و حملات التعريب
والحروب. لقد تفاءل خيرا، كل الذين اضطهدوا وطوردوا وسجنوا وعذبوا
في سجون الديكتاتورية، و كل الذين لم تنصفهم مؤسسات النظام الفاسدة
لاستعادة حقوقهم المهضومة طوال سنين الحكم السابق.
لكننا الآن أمام حقائق مغايرة أخرى على الأرض، كثير منها يصعب
تصديقها. ففي حين هم من أسقطوا الدولة العراقية، بدء من الجيش،
بتنظيماته، ومؤسساته الإدارية و قواته المسلحة، البرية والجوية
والدفاع الجوي والبحرية، والشرطة النظامية، تركوا الحدود العراقية
مشرعة دون رقيب. وبذلك سهلوا على القتلة والأسلحة من مختلف الأصناف
بالتدفق بكل حرية من دول الجوار، منذ اليوم الأول لاحتلالهم
للعراق ولحد هذه اللحظة. وطوال الفترة الماضية لم تفعل الولايات
المتحدة الأمريكية شيئا لوقفها، ماعدا تسريب أنباء تقول هي عنها
أنها "غير مؤكدة "، متهمة جهة واحدة هي إيران بأنها وراء ذلك.
وأمام كل تلك الأنباء عن تسرب المسلحين والأسلحة من دول الجوار، لم
نسمع يوما أن القوات الأمريكية قد قصفت عصابات تهريب الأسلحة او
المسلحين في أي بقعة حدودية بيننا وبين دول الجوار وإيران بالذات.
في حين يقع العراق في مدى المراقبة الدائمة من قبل الأقمار
الفضائية الأمريكية السابحة في سماء العراق.
خمس سنوات من إدارة أمريكية مباشرة أو شبه مباشرة للشأن العراقي
لم تستطع أن تعيد إمدادات الطاقة الكهربائية إلى مستواها قبل
احتلالهم له، في حين باستطاعتها لو أرادت، بناء عشرات المحطات
الكهربائية في طول البلاد وعرضها خلال الفترة الماضية. ونفس الشيء
يقال عن إمدادات الماء الصالح للشرب الذي تتناقص إمداداته، وتتردى
صلاحيته للاستخدام البشري يوما بعد يوم.
أنه أمر غير قابل للتصديق،أن تعجز الولايات المتحدة عن إعادة
بناء محطات الطاقة الكهربائية في العراق، في حين يسهل عليها إرسال
محطات فضائية لكوكب المريخ، لتقطع آلاف الملايين من الأميال مسيرة
من مركز" ناسا " على الأرض، بحثا عن قطرة ماء على سطحه الصحراوي.
وأمام التداعي في المشهد السياسي العراقي، واشتداد التمحور
الفئوي والعرقي، وتفشي الفساد لحدود لم تعد خافية على أحد، تلوذ
الولايات المتحدة الملمة بكل تفاصيل ما يجري، بالصمت المطبق، علامة
الرضا والموافقة. فهل يتناسب هذا مع القيم التي أعلن عنها الرئيس
بوش غداة زحفه على العراق، وإزاحة الدكتاتورية، بهدف إقامة النظام
الديمقراطي النموذجي في منطقة الشرق الأوسط الجديد ؟
وهل يرضى شعب في الشرق الأوسط القديم أو الجديد، او في أي مكان
في العالم، بديمقراطية العراق، نموذجا لبناء مجتمع متمدن، بعد كل
هذا الخراب الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي لم تكتمل
بشاعته بعد؟. أن الوقت ينفذ أمام الرئيس بوش، للتدليل على مصداقية
وعوده، إنصافا له ولبلاده التي ضحت بالآلاف من أبناءها، وإلا فأن
التاريخ لن ينصف من لم ينصف نفسه.
للسيد تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق قول في الأمريكان ربما
أفاد السيد بوش لو أطلع عليه، جاء فيه:
" الأمريكان لن يحاولوا الطرق الصحيحة في حل المشاكل إلا بعد أن
يجربوا كل الطرق الخاطئة".
وفي حال العراق، لم يجربوا بعد أي طريقة صحيحة لسوء الحظ. |