الإمبريالية الأمريكية  بين وعد  بلفور ووعد  بايدن

علي الأسدي

قبل أيام أعلن السيد أوباما  في حفل خاص عن أسم نائبه إلى البيت الأبيض السيد جو بايدن. قد لا يثير هذا الخبر أحدا في الولايات المتحدة، فاختيار شخصية ذات خبرة في مجال الدبلوماسية الأمريكية أو أي مجال آخر، يعتبر أمرا عاديا جدا في  انتخابات الرئاسة الأمريكية، بصرف النظر إن كان  سيحظى بموافقة الكونغرس الذي سيناقش ترشيحه في حالة دخول أوباما إلى البيت الأبيض. ومع أن أراء المحللين السياسيين متضاربة بشأن حظوظ أوباما بالفوز بالبيت الأبيض، فالصراع  ما يزال على أشده بينه وبين السيد ماكين المرشح الجمهوري الذي بدا هو الآخر متفائلا وربما يعلن عن مرشحه لمنصب نائب الرئيس.

أما بالنسبة لنا في العراق  فالأمر مختلف  تماما، فمجيئ شخصية كالسيد بايدن إلى منصب نائب رئيس الولايات المتحدة، يجدد آمال رواد تقسيم العراق، ويضعهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمهم الذي يتوقون تحويله إلى واقع. ولست على بينة بحرارة الترحيب والتهليل التي استقبلت تلك الأوساط بها خبر ترشيح بايدن لمنصبه المنتظر، لكني أجزم أن أنهم طاروا من الفرح. أما بالنسبة للحريصين على وحدة العراق أرضا وشعبا، فلا شك اعتبروا ترشيح بايدن لذلك المنصب نذير شؤم، وربما يجددون حملتهم لفضح نوايا الرجل وإدانة قراره السيئ السمعة والأهداف.

 وبالنسبة للذين لم يسمعوا بهذا الرجل وبالكفاءة الخارقة التي يتمتع بها، فهو وراء قرار مجلس الشيوخ الأمريكي الصادر في 26 / 9 /2007، الذي أوصى بتقسيم العراق اثنيا إلى ثلاث كانتونات : كانتون كردي في شمال العراق، وآخر شيعي في الوسط والجنوب، وثالث سني في المنطقة الغربية من العراق.

 لقد أدين القرار وفضحت أهدافه على نطاق واسع في العراق وفي الولايات المتحدة نفسها، وتنصلت الإدارة الأمريكية منه على لسان سفارتهم في بغداد، معتبرة  القرار غير ملزم، ولا يعبر عن موقف الحكومة الأمريكية.

 أضطر السيد بايدن  تحت ضغط الحملة المضادة لمشروعه موضحا انه لم يكن يريد تقسيم دولة العراق، وإنما كان قصده توسيع دائرة العمل بالنظام الفيدرالي الذي نص عيه الدستور العراقي.

ولكن ليس هذا نهاية المطاف، فللمشروع  مؤيدون في قمة السلطة العراقية وفي قيادة أكبر أحزابها الحاكمة، وسيحاولون إعادة الحياة له بأي وسيلة لتحويله ألى واقع. والوجود المنتظر لشخصية  بايدن في القصر الأبيض، أنعش الآمال بتحويل قرار تقسيم العراق إلى قرار ملزم للحكومة الأمريكية، وبذلك يأخذ  وعد بايدن طريقة وعد بلفور بتقسيم فلسطين، وعندها  يكون العالم قد مر خلال أقل من قرن بتجربتين متشابهتين ولكن ليس بالضرورة متطابقتين.

والفرق بين الوعدين أو القرارين، أن وعد بلفور كان معنيا بالدرجة الأولى  بإقامة دولة عبرية في الأراضي الفلسطينية، لكن وعد بايدن قد سمى بالاسم ثلاثة كانتونات وليست واحدة.

 في الحالة الأولى  اقيمت الدولة العبرية ثلاثون عاما بعد صدور وعد بلفورعام 1917 من القرن الماضي، وتنفيذا له ظهرت دولة أحادية العنصر، عدائية الأطماع تجاه ما حولها، حصلت على الدعم المطلق للحكومات الأمريكية جميعها، اعتمدت ألأسلوب الإرهابي في الاستيلاء على الأراضي  و طرد سكانها منها.

أما في الحالة الثانية،  فوعد بايدن الذي صدر تسعون عاما بعد وعد بلفور وستون عاما بعد إقامة اسرائيل، لم  يحدد متى و منَ من الكانتونات الثلاثة سيحظى بالحظوظ التي حظيت وتحظى بها الدولة العبرية، سواء من بايدن نفسه أو من الامبريالية الأمريكية ؟؟. وما يزال الوقت مبكرا للكشف عن تلك " الدويلة " أو الدولة لاحقا، التي ستباشر بقضم أراضي جيرانها وتتوسع على حسابهم، وتصبح قاعدة أمامية للرأسمال العالمي في العراق.

 إن ما نبديه من مخاوف  هنا، سيظل مجرد تكهنات، ما دام  بايدن لم يحتل بعد مكانه في البيت الأبيض، وإن كان هذا لا يمنع من أن تقوم أي إد! ارة أمريكية قادمة من بحث قرار مجلس الشيوخ المشار إليه.

ولا يعرف ماذا ستكون ردود أفعال الصحافة على حظوظ بايدن في الصعود إلى القصر الأبيض، ومن ثم على مستقبل مشروع تقسيم العراق الذي يتحمس له. لكن ردود أفعال المحللين السياسين كانت عاصفة حينما أعلن بايدن عن مشروعه لأول مرة.

ففي مقال له حول مشروع بايدن، يقول المحلل السياسي جوست هلترمان :- " أن العراقيين رغم محاولات التطهير العرقي  والإبادة الجماعية التي تستهدفهم، ظلوا فريقا اجتماعيا، تكثر فيه الزيجات المختلطة بين فئاته وطوائفه، وظل العراقيون قادرين على تشكيل تلك الفسيفساء الاجتماعية، التي لا سبيل لتغييرها إلا بوسائل التخويف والعنف وحملات القتل الجماعي المستمرة ". 

ويرى الصحفي الأمريكي جيفري كمب :- " أن هذه الإستراتيجية مثيرة لخيبة الآمال،لكونها تعد انحرافا عن الخطة الأصلية التي حركت دعاة الغزو في واشنطن عام 2003، إذ كان المبرر والأمل، هو بناء عراق موحد علمانيا وديمقراطيا مزدهر. فتلك هي الأهداف التي عكفت على صياغتها إدارة جورج بوش، قبيل خوضها لمغامرتها العسكرية في صيف عام 2003. أنظر كيف ضمرت الآمال وتواضعت عمليا إلى حد القبول بعراق ممزق الأوصال وأبعد ما يكون عن الوحدة والديمقراطية العلمانية؟؟.

ويرى زميله ديفيد اغناتيوس :- " من المحتمل بالطبع أن يجري تقسيم العراق إلى ثلاث كانتونات تتمتع بحكم شبه ذاتي.  لكن لا يمكن تقطيع اوصال العراق، ولا يمكن أن يكون خيارا توصي به الولايات المتحدة، لأنها مهما بذلت من دم ومال في العراق، فإنها ما تزال في عداد الأجانب هناك ".

وأضاف : " لا يبدو من السهل على العراقيين وجيرانهم العرب الصفح عن الولايات المتحدة على المعاناة التي صاحبت تدمير نظام صدام حسين.  إلا أن  الأمر إذا انتهى بتدمير دولة العراق، فإنه سيفتح جرحا ربما لا يندمل بعد قرن من الآن. ربما يقرر العراقيون في نهاية الأمر نوعا من التقسيم المعقول والمقبول، إلا أنه حتى ذلك الوقت يجب ألا تكون الولايات المتحدة جزءا من عملية تقطيع دولة".

ليس مستبعدا أبدا، بل محتملا، أن ترسل للسيد جو بايدن رسائل التهاني والترحيب بترشيحه لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.  وليس غريبا، أن يبدأ  من الآن وضع اللمسات الأخيرة لمشروع تقسيم العراق، الثاني بعد تقسيم فلسطين خلال أقل من قرن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 8/أيلول/2008 - 7/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م