الحرب الروسية الجورجية: النتائج والأبعاد

د. محمد مسلم الحسيني - بروكسل

وعد الرئيس الجورجي "ميخائيل ساكاشفيلي" شعبه، إبان عملية الإنتخابات التي أدت الى توليه كرسي الحكم في جورجيا، بتحقيق هدفين ستراتيجيين هامين وهما ضم جورجيا الى عضوية حلف شمال الأطلسي" الناتو" وإستعادة الإقليمين المنفصلين عن جورجيا "أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا" وضمهما الى أحضان البلد الأم. إلا أن الرياح قد سارت بما لا تشتهيه أجندة هذا الرئيس، حيث أجّل حلف الناتو عملية إنضمام جورجيا للحلف الى أجل غير مسمّى خلال قمته الإعتيادية الأخيرة في بوخارست في شهر نيسان "أبريل" الماضي. هذا المطلب الجورجي الذي لم يتحقق رغم التشجيع والدفع الأمريكي له قد فوّت فرصة حماية حلف الناتو لجورجيا فيما لو تعرضت الى هجوم عسكري خارجي.

الهدف الثاني الذي سعى الرئيس الجورجي اليه هو إسترجاع الإقليمين المنفصلين الى الحضيرة الجورجية، وهذا هدف يصعب تحقيقه بسبب التحذير الروسي بالتدخل العسكري المباشر حال قيام القوات الجورجية بإجتياح أيّ من الإقليمين المذكورين ذات الأكثرية السكانية الروسية. لم يكن أمام الرئيس الجورجي المتغطرس إلاّ حلين لا ثالث غيرهما: فهو إما أن يصبر على مضض لحين إنضمام بلده الى حلف الناتو كي يكون مدعوما بحماية غربية وهذا ما يتطلب إنتظارا ربما يطول، أو يقوم بمغامرة إجتياح هذين الإقليمين فيجس النبض ويحرك الساكن ويجرب حظه العاثر معتمدا على المظلة الأمريكية التي ستحمي رأسه من الغيوم الروسية الماطرة. يبدو إن حساباته قد رجحت عملية الإجتياح وهبت قواته في منتصف الليل تجتاح أراضي جمهورية أوسيتيا الجنوبية فحصل ما كان يتوقعه المحللون السياسيون من تدخل عسكري روسي عنيف لحماية هذا الأقليم وطرد القوات الجورجية الى عقر دارها.

الحرب توقفت ولكن نتائجها ومضاعفاتها وأبعادها لم تتوقف بعد.... الحليف الأمريكي الستراتيجي، الذي تأتي قواته في العراق بالمنزلة الثالثة من حيث العدد والعدة بعد القوات الأمريكية والبريطانية، يهزم وتطارده القوات الروسية أمام أنظار العالم.

 روسيا المنسية في خضم الأحداث تحقق نصرا ستراتيجيا حاسما في تقليم أظافر حكومة تبليسي وتزرع الثقة والثبات في نفوس الإنفصاليين الروس من سكان الإقليمين الإنفصاليين. تقف أمريكا عاجزة عن لعب دور حاسم وهام كما كان ينتظره منها حليفها رئيس جورجيا. الإتحاد الأوربي ينقسم على نفسه بين داعم لساكاشفيلي ومنتقد له.

 تنفست روسيا الصعداء بعدما كانت تعاني من ضيق النفس الشديد الذي سببه الغرب لها في حشرها بزاوية ضيقة لا تستطيع الحراك فيها وذلك من خلال توسيع حدود حلف الناتو الذي بدأ يزحف على حدودها ويضيق الخناق عليها من جهة، ومن خلال مشروعه في نشر الصواريخ الإعتراضية قرب حدودها من جهة أخرى. الألم الروسي المزمن الحاصل من تحجيم الغرب لصربيا الأرثودوكسية وأعترافه بإقليم كوسوفو لم تتعافى روسيا منه بعد، إلاّ أن صرخة الألم الروسية الجديدة لم ولن تمر دون ردة فعل غربية تضرب على مكامن الألم وتثيره مرة أخرى رغم وفرة المسكنات.

وهكذا فالمحلل السياسي يرى بأن لهذه الحرب المتوقفة نتائج وأبعاد منظورة ومستترة يجب الوقوف عندها والتمحص فيها ومداولتها ومنها:

1- وجدت الحكومة الأمريكية بأن الفرصة قد حانت الآن لتوقيع معاهدة ستراتيجية بينها وبين بولندا من أجل نشر منظومة الصواريخ الإعتراضية في قاعدة قرب السواحل البولندية على بحر البلطيك، وهكذا قد حسمت أمريكا الموقف المعلّق ووجدت المبرر الذي لا يجعلها تستحي أو تتهيب من الرفض الروسي المستمر لهذا المشروع.

2- وعد حلف الناتو جورجيا بدراسة طلب إنضمامها جديا لعضوية الحلف وذلك خلال مؤتمره الإستثنائي في 19 آب "أوغسطس" ووعد بتقديم المساعدة المادية واللوجستية والعينية لها. إنضمام جورجيا الى أحضان حلف الناتو يعني تهديدا صريحا لروسيا بسبب إمكانية نشر صواريخ تابعة للحلف في الأراضي الجورجية المتاخمة لحدودها وهذا ما يشكل تهديدا مباشرا لإستقرارها. كما أن الروس سوف يترددون كثيرا في زج قواتهم المسلحة بأي نزاع عسكري مباشر مع جورجيا في حال إنضمام الأخيرة للحلف لأنها ستحظى بالدعم العسكري المباشر من قبل دول الحلف حال نشوب أي نزاع عسكري معها.

3 - أعلن كل من إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إستقلالهما نهائيا عن جورجيا قبل أن تصبح جورجيا عضوا في حلف الناتو وهذا ما حتم إعتراف روسيا بهما رسميّا وحمايتهما من إي إعتداء خارجي. هذا الأمر أثار حفيظة جورجيا وأبقى أمر "تحرير" هذين الإقليمين من براثن روسيا هدفا وطنيا ستراتيجيا لجورجيا، مما ينذر بنشوب نزاعات عسكرية مستمرة في تلك المنطقة قد تؤثر على حالة الإستقرار العالمي بشكل أو بآخر.

4- ردا على توقيع معاهدة ستراتيجية أمريكية بولندية لنشر الصواريخ الإعتراضية في الأراضي البولونية صرّحت روسيا بأنها ستدرس تسليح أسطول البلطيق برؤوس حربية، أي تزويد الغواصات الروسية والسفن الحربية والقاذفات الجوية التابعة لأسطول البلطيق برؤوس نووية، وهذا يعني رجوع الحرب الباردة من جديد بين روسيا والغرب.

5- قامت "إسرائيل" بتدريب الجيش الجورجي وتزويده بأسلحة مختلفة مما أثار ردود فعل روسية تمخضت عن وعود بتزويد الجيش السوري بصواريخ " إسكندر" المتطورة وهي من نوع أرض- أرض يبلغ مداها 200 كم وقادرة على حمل رؤوس نووية. كما يرى بعض المحللين السياسيين بأن لإسرائيل يد مباشرة في دفع الرئيس الجورجي بإرتكاب حماقة إجتياح أقليم أوسيتيا الجنوبية، معتمدين على حقيقة أن وزير الدفاع الجورجي" ديفيد كيزراشفيلي" إسرائيلي الأصل وله صلات مباشرة وإتفاقيات عسكرية مبرمة مع الجانب الإسرائيلي. كما أن تصريحات رئيس جورجيا بهذا الشأن تثير الشكوك حينما قال" هنا الحرب والسلام كلاهما بأيدي يهود إسرائليين" وكان يعني وزير الدفاع ووزير المفاوضات وكلاهما أسرائيليان!

إستمرار المساعدات العسكرية الإسرائيلية لجورجيا يعني فتح صفحة جديدة من التعاون العسكري في مختلف الوجوه بين روسيا وسوريا، وزيارة الرئيس السوري بشار الأسد الأخيرة الى موسكو تدعم هذا التصور.

6- قد تهدأ الأمور ويتوقف السجال السياسي والعسكري بين أطراف النزاع وتنسحب روسيا كليا من أراضي جورجيا وتتوقف عن مطالباتها بتنحي الرئيس الجورجي عن منصبه، فتكون قد كسبت إستقرار الإقليمين الإنفصاليين وعدم تعرض حكومة تبليسي لهما على الأقل في المدى المنظور. هذا التصور قد تتولاه الأطراف المتنازعة من أجل إيقاف ناقوس الخطر الكامن وراء أي تصعيد عسكري واقعي او وهمي بين روسيا والغرب. أو ربما تتطور الأوضاع وتتضاعف المعضلات من خلال عدم إحترام الأطراف لشروط وقف إطلاق النار أو من خلال الضغوطات الغربية على روسيا في مختلف الوسائل ومحاولة عزلها. التسريع في عملية إدماج كل من أوكرانيا وجورجيا في عضوية حلف الناتو يعتبر بحد ذاته تهديد عسكري مباشر لروسيا من قبل الغرب والذي ربما يدفعها الى إتخاذ خطوات إنتقامية أخرى.

أهم ما تستطيع روسيا عمله لكسر شوكة دول الغرب وقض مضاجعها هو التحالف مع أطراف لها تأريخ عدائي مع أمريكا مثل أيران وسوريا وكوريا الشمالية والصين. فرغم أن المحور الأمريكي هو الأقوى والأكبر في المعادلة إلاّ أن المحور المعادي سيكون مؤثر وفعّال ويشكل خطرا مستطيرا على إستقرار الوضع الأمني والإقتصادي العالمي، خصوصا في ظل إرتفاع أسعار مصادر الطاقة التي تهدد بشكل جدي مستقبل الإقتصاد العالمي وحيثياته.

 تحالف الروس مع الإيرانيين قد يفسح المجال لإيران بأن تفلت من عنق الزجاجة وتمضي قدما بمشروعها النووي العسكري. كما أن الجيش الروسي قد يقوم ببناء قواعد عسكرية برية وجوية وبحرية على الأراضي السورية تواجه القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وتجعلها بين كفي كماشة. وهكذا ستعطي عمقا عسكريا ستراتيجيا هاما لسوريا أمام "إسرائيل" وتخلصها من التهديدات الإسرائيلية - الأمريكية. وفوق هذا وذاك فأنها سوف لن تتردد عن نصب بطاريات صواريخ روسية متطورة مضادة للطائرات في مناطق نفوذ حزب الله في الجنوب اللبناني.

هذا التصور النظري المصاحب لفرضية إستمرار وتفاقم النزاع الروسي- الجورجي يعني، في حالة حصوله، خلق خارطة نزاع عالمية جديدة تنذر بكوارث قد يكون لها بداية ولكن يصعب التكهن في تفاصيل نهايتها!

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد  7/أيلول/2008 - 6/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م