اختلفت مواقف القوى السياسية من الاتفاقية المزمع توقيعها مع
أمريكا، فبعضها ذهب إلى رفض هذه الاتفاقية وبعضها أيدها، ولكل من
هاذين الطرفين حججه وأسانيده التي يدعم بها موقفه، فالرافضون لها
ينطلقون من كون الاتفاقية مع واشنطن تهدد سيادة العراق بالانتقاص،
وتعطي الجنود الأمريكان" قدسية وحصانة" على حساب الجانب العراقي،
بينما الأمريكان يتحركون على أرض العراق ومن ثم فالواجب أن يكون
للعراقي موقع لا يأتي بالدرجة الثانية بعد الأمريكي، وهو رأي صحيح
فعلا ومنطقي، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأمريكية، وفي اتفاقيات
سابقة مع دول أخرى أعطت لمواطنيها حصانة لم يتمتع بها مواطن البلد
الآخر، وهذا أمر يعد بحساب الأعراف القانونية انتقاصا من سيادة
الدول.
أما الجانب الأخر من القوى السياسية العراقية والتي أيدت توقيع
اتفاقية مع أمريكا، فهي تنطلق من كون الاتفاقية تخرج العراق من
طائلة البند السابع الذي يعني أن العراق بلدا محتلا من قبل قوات
تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وإذن فإما تخرج هذه
القوات سريعا وتترك العراق، وأما أن يلجأ البلدان " العراق
وأمريكا" لتنظيم العلاقة بينهما لتأخذ بعدا آخر يختلف عن بعد
الاحتلال، ويذهب أصحاب الرأي المؤيد للاتفاقية إلى القول بأن
السبيل الأمثل في الوقت الحاضر هو عقد اتفاقية مع واشنطن تنظم
وجودها في العراق وتحدد طبيعة علاقتها بالحكومة العراقية وعلاقة
جنودها وموظفيها بالمواطنين العراقيين، هذا بالإضافة إلى أن عقد
الاتفاقية – بحسب المؤيدين لها – يعطي العراق قوة أكبر في مواجهة
تحديات إقليمية لم يعد بإمكان العراق مواجهتها لوحده، فمثلا للعراق
مشاكل مؤجلة مع تركيا بخصوص المياه، حيث تحتجز الأخيرة كميات هائلة
من المياه تكفي لإغراق نصف العراق بينما تمنح العراق وسوريا
فضلاتها وما تلقيه في النهرين من ملوثات.
كذلك للعراق مشاكل مع دول أخرى تتدخل في الشأن العراقي وتدعم
جماعات مسلحة وتهدد العملية السياسية في العراق ولن تتوانى هذه
الدول عن إجهاض التجربة العراقية إذا ما سنحت لها الفرصة ووجدت
العراق بلا دعم من أمريكا.
أيضا لم يصل حد الانسجام الداخلي في العراق إلى الدرجة التي
تمكّن من الاستغناء عن الوجود الأجنبي، فما زالت هناك مخاوف،
ومازالت ألغام موقوتة في كركوك وغيرها من المناطق، والتي تهدد
بمشاكل قد تحدث فجأة كما حدث في كركوك مؤخرا، الأمر الذي يحتم
تواجدا أجنبيا للسيطرة على الوضع وليكن رادعا لأطماع بعض الأطراف
ومهدئا لمخاوف أطراف أخرى، بحسب المدافعين عن توقيع الاتفاقية مع
واشنطن.
يبدو أن كلا الرأيين منطقي ومقبول ولكن حين التعبير عنهما من
قبل مؤيديهما ترتكب بعض الأخطاء، خصوصا حين تأخذ طريقة التعبير
الجانب ألعنفي ويغلب التعبير العاطفي عن التعبير العقلي والواقعي،
فالرافضون للاتفاقية مع أمريكا يعقدون مؤتمرات ويعلقون يافطات في
الشوارع ويخرجون في تظاهرات ترفض عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة
الأمريكية ومشككين بنوايا هذه الدولة، وقد يبدو هذا الموقف مساندا
للمفاوض العراقي الذي قد يتعرض للضغط من قبل الجانب الأمريكي. ولكن
من الجانب الآخر قد يعني أيضا إضعافا للحكومة العراقية وتقليلا من
شأن السياسيين العراقيين، فحين يخرج مؤتمر هنا وآخر هناك دعت له
هذه المنظمة أو ذاك الحزب بتوصيات ترفض أي بند ينتقص من سيادة
العراق وينال من هيبته، فهذا يعني ضمنا أن المفاوض العراقي، إما هو
على قدر هزيل من الدراية والمعرفة، وإما يعاني من نقص في الوطنية،
فيتنازل للأمريكي عن جزء من حقوق العراقيين.
أيضا يقع المدافعون عن الاتفاقية أو معظمهم في خطأ كبير حين
يصورون للناس أن هذه الاتفاقية مهمة للغاية ويجب أن تعقد مع الجانب
الأمريكي وفي إطار موعد محدد، حتى يبدو الأمر وكأن العراق غير قادر
على العيش بدون هذه الاتفاقية، وهو أمر فيه إفراط كبير وغير
موضوعي.
ما هو الموقف إذن؟
لاشك أن الاتفاقيات أصبحت ممارسة دولية، وهي كذلك منذ القدم
ولكنها أخذت طابعا واسعا خلال العقود الأخيرة، وأصبحت المواثيق
والاتفاقيات التي جاءت على هامش مشاكل كبيرة تعرضت لها الدول،
أصبحت مما ينظم العلاقات بين الدول بشكل تفصيلي، فأضحت هناك
اتفاقيات للأمن والزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والسياحة
والمواصلات وهكذا كما أضحت الوزارات والمؤسسات داخل الدولة الواحدة
مهيأة لعقد اتفاقيات مع مثيلاتها في الدول الأخرى، كما صار للمدن
حق عقد الاتفاقيات مع مدن أخرى، ولو في مجالات محدودة.
إذن من حيث المبدأ عقد الاتفاقية مع أي دولة أصبح عرفا أمميا
لايمكن أن يشذ عنه العراق الساعي إلى تعويض ما فات واللحاق بركب
المسيرة الإنسانية والاستفادة مما تحقق لدى الشعوب والأمم الأخرى.
ولكن إلى جانب هذا المطلب لابد أن يحظى المفاوض العراقي الساعي
لإبرام اتفاقية مع أي دولة بالدراية والخبرة وبالإرادة الحرة، أي
أنه يجب أن يكون حرا غير خاضع إلى ضغوط من أي طرف، كما يجب أن يأخذ
بنظر الاعتبار ما يحققه لوطنه وشعبه من خلال توقيعه هذه الاتفاقية
أو تلك.
بالطبع نحن لانريد التشكيك بقدرة الساسة العراقيين، ولكن في
الوقت الراهن وبينما أصبح العراق وثرواته معرضا لمخاطر كبيرة ودارت
شكوك ووجهت تهم لأشخاص عديدين بعضهم في العملية السياسية وكانوا
يعملون لصالح أجندة خارجية، وحكم على بعضهم غيابيا، لابد إذن وفي
ظل هذا الواقع توقع الأسوأ دائما لتجنبه قدر المستطاع، من هنا لابد
أن لايكتفى بقدرة وحنكة المفاوض العراقي وحده بل يجب عرض
الاتفاقية مع أمريكا وغيرها على جهات ذات اختصاص وخبرة قانونية
دولية، فضلا عن عرضها على مجلسي الرئاسة والوزراء والبرلمان
العراقي لإبداء الرأي فيها إن تعذر طرحها على الشعب العراقي مباشرة
للتصويت عليها.
هذه ضوابط تمنع أي اختراق للعراق بطريقة "مشروعة" وبحجج قانونية
وتحفظ للعراقيين حقوقهم وثرواتهم وقبل هذا وذلك سيادتهم، فضلا عن
أن هذه الآلية تضع الجميع أمام مسؤولياتهم فلايمكن أن يتنصل أي طرف
من مسؤوليته في الغد. |