الجذور الجماهيرية تمنح شجرة القيادة ثمارها

24 شعبان المعظم ذكرى وفاة الامام المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي ـ رحمه الله ـ

محمد علي جواد تقي

إذا ما تقصينا احوال الشعوب والامم في مسيرة تطورها وتقدمها نجد انها سلكت احد السبيلين لتحقيق اهدافها الحضارية: الاول هو سبيل الفكر الانساني وما تم التوصل اليه عبر القرون الماضية من معارف وعلوم انصهرت كلها في بوتقة الفلسفة كما هو حال الشعوب في الغرب...

اما السبيل الثاني فهو القيادة المتمخضة من رحم الجماهير، حيث تتصور الجموع حاملة المفاهيم والمبادئ الانسانية وهو ما نلاحظه في الشرق وابرز مثل امامنا هي الهند، فقد اقترن اسم هذا البلد مع اسم محرره (غاندي)، ونحن كأمة اسلامية ناهضة وذات جذور عميقة نفتخر ونتباهى امام العالم بقدرتنا على انجاب قادة لا تقتصر نظرتهم على حاجات الناس البسيطة من مأكل وملبس ومسكن، وانما تستوعب جميع العلوم والمعارف الانسانية منها والدينية، بحيث يشعر الانسان بان وراء وجوده في الحياة اهدافاً سامية وعظيمة عليه ادراكها وإلا كان خسرانه مبيناً

هنا سنتحدث عن أنموذج واحد من هؤلاء القادة هو الامام المجدد السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي ـ رحمه الله ـ الذي اقترن اسمه أولاً باول وآخر حوزة علمية في سامراء، وثانيا بما يعرف (بثورة التبغ) في ايران ضد الاستعمارالبريطاني، خلفت دوياً هائلاً في الغرب ليس على الصعيد السياسي وحسب وانما على الصعيد الفكري والحضاري ايضاً.. لكن كيف تمكن مرجع الدين ـ صاحب الذكرى ـ قبل اكثر من مائة عام من قيادة شعب مسلم بنجاح لاستعادة حقوقه من استعمار مهيمن في العالم آنذاك؟

*المولد والنبوغ

في الخامس عشر من شهر جمادي الاول سنة 230 للهجرة الموافق لسنة 1810 م، ولد السيد محمد حسن بن الميرزا محمود بن الميرزا اسماعيل بن السيد فتح الله الحسينيين الشيرازي، في مدينة شيراز جنوب شرق ايران؛ فقد والده وهو طفل صغير فرباه خاله السيد الميرزا حسين الموسوي واهتم بنشأته دينياً وعلمياً، فلما بلغ الرابعة من العمر عين له خاله معلماً في بيته فتعلم القراءة والكتابة خلال سنتين وعدة أشهر، وفي ربيعه السادس بدأ بدراسة علوم اللغة العربية من نحو وصرف حتى اتقنها بالكامل، ثم توجه لدراسة الفقه والاصول وسرعان ما استوعبهما بفهم وادراك كاملين.

غادر مسقط رأسه متوجهاً الى مدينة اصفهان التي تبعد عن شيراز حوالي اربعمائة كيلومتر، وكانت يومها احدى حواضن العلم والمعرفة، فخاض غمار العلم وهو ابن اجازة الاجتهاد من استاذه العلامة السيد حسن البيدآبادي آنذاك بالمدرس...

ثم وجهه شطر العراق وحل مدينة النجف الاشرف سنة 1259 الموافق لسنة 1879 للميلاد، وكانت آنذاك تزهو وتضيئ بوجود احد ابرز اعلام الفقه الشيعي وهو الامام الشيخ محمد حسن النجفي صاحب (جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام)

*مع الشعراء والمجتمع

يروى ان الامام المجدد الشيرازي يتميز بين بقية المراجع الكبار باهتمامه بالآداب لاسيما الشعر، فخلال مرجعيته قصده الشعراء من مختلف البلاد، وراج الشعر في ايامه وشهد مرحلة زاهرة، فكان يكرم الشعراء بالهبات والهدايا لما كانوا ينظمون من القصائد الولائية ذات المفاهيم الدينية.

ومن ابرز صفاته قربه الشديد من المجتمع وعامة الناس، لذا لم يرد اسمه في كتب المؤرخين واصحاب السير إلا مع الاشارة الى مكارم اخلاقه وصفاته الحميدة وطباعه الحسنة التي كانت تلامس جميع افراد المجتمع الاسلامي الكبير...

كانت الاموال الطائلة تنساب اليه من مختلف البلاد الاسلامية وهو المرجع الاعلى في النجف الاشرف، لكنه كان يعيدها الى المحتاجين والمستحقين في تلك البلاد من خلال تقسيمها حتى لا يبقى معه شيء؛ وآخر العطاء كان يرسله الى وكلائه مع قوائم باسماء العلماء في مناطقهم ليبذلوا المزيد من الاهتمام باحوالهم وشؤونهم، ويروى انه كان شديد الحرص على كرامة الناس وماء وجههم فيما يتعلق بمسألة الاموال والحقوق، فاذا اراد تقديم شيء من المال لاحد دفعه بمنتهى الادب والاحترام مصحوباً بالانكسار والاعتذار، وكان يحرص على اخفائه بكيس اوورق او نحو ذلك، بل شوهد انه كان يُسار من يريد مساعدته ثم يلقي في جيبه الاموال دون ان يشعر الطرف المقابل، ولعل مصطلح (الامانة) الدارجة حالياً قد انطلقت اول مرة على لسان المرجع المجدد الشيرازي عندما كان يبعث بالاموال مع خادمه الى الاشخاص المعنيين لتصل اليهم على انها (أمانات):

وذكرنا في هذه الصفحة وفي زاوية (عبرة لمن يعتبر) عدة شواهد على سمو اخلاق المجدد الشيرازي وسماحته العالية، منها تلك الحكاية التي غض فيها النظر عن شخص زور رسالة منه الى احد تجار بغداد ليعطيه بعض المال فدفع الطمع وضعف الايمان بهذا الشخص لان يغير الرقم ليحصل على الاكثر، ثم بعد فترة من الزمن التقى المرجع المجدد بذلك الشخص وعاتبه بشدة لكن دون ان يشعر احد.

وفي سنة 1288 للهجرة اصاب مدينة النجف الاشرف ومدناً اخرى في العراق قحط شديد شحة في المواد الغذائية، فكان آنذاك بمنزلة الاب الحنون والمسؤول عن افراد اسرته، يغدق على الجميع لاسيما طلبة العلوم الدينية بالعطاء لئلا يشعروا بضيق الحالة المعيشية.

والى جانب صفاته وخصاله الفريدة على صعيد المجتمع، كان معروفاً بمخافة الله تعالى، فقد كان كثير البكاء غزير الدمعة رقيق القلب، ولذلك كان حافظاً لجميع اجزاء اقرآن الكريم وادعيته شهر رمضان المبارك، اما عن ذهنيته فقد عرف بسعة الذاكرة ما حيّر به العقول، كان اذا رأى شخصاً لاينساه حتى بعد مرور عشرين سنة، كما عرف بتفرسه وتوسمه، فاذا نظرفي وجه رجل عرف واقعه وحقيقته من اول نظرة وقد نقل اصحاب السير والمؤرخون حكايات كثيرة في هذا المجال...

مع الحاكمين

قام الملك الايراني القاجاري ناصر الدين شاه بزيارة العتبات المقدسة في العراق سنة 1287 للهجرة، ولما قصد النجف الاشرف خرج الناس لاستقباله الى مسافة حوالي ثلاثة فراسخ، ونقل البعض انهم وصلوا الى نصف الطريق بين النجف الاشرف وكربلاء المقدسة، ولما حل في المدينة زاره جميع علماء الدين إلا هو التزم داره، ثم امر الشاه القاجاري باعطاء كل عالم دين مبلغاً من المال، وكان ضمن القائمة المرجع الشيرازي فرفض هذه العطية، فارسل الشاه وزيره حسن خان يطلب منه زيارته فأبى، وبعد نقاش طويل اقترح المجدد ودفعاً للاحراج بان يلتقي الشاه مصادفة خلال زيارته مرقد امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ، فكان آخر لقاء عابر، وهي الحادثة التي دوت في جميع ارجاء العالم الاسلامي وعرفت المرجع المجدد بانه صاحب رسالة ومبدأ لايحيد عنه مهما كانت الظروف.

ويروى ان السيد جمال الدين الاسدآبادي المعروف (بالافغاني) ارسل رسالة الى المرجع المجدد وكان في سامراء، وكانت الرسالة مشحونة بالشتائم والسباب الموجهة لناصر الدين الشاه الذي نفاه الى العراق بسبب معارضته لسياساته، كما انه لم يرفضها ولم يتخل عن السيد جمال الدين الاسدآبادي في محنته، لكن بالمقابل نجده يقضاً وعنيفاً بوجه الظلم والتعسف بحق المسلمين، فخلال حكم احد عملاء الاستعمار البريطاني في افغانستان، واجه الشيعة هناك ابشع المجازر وعمليات القتل والتنكيل، فقد كان ذلك الحاكم يأمر بقتل الشيعة في الطرقات والساحات العامة، هذه الاوضاع اثارت غضب المرجع المجدد واستنكاره فابرق على الفور رسالتين: الاولى الى ناصرالدين شاه بصفته حاكم اكبر بلد شيعي في العالم ليوجه تحذيراته لذلك الحاكم العميل ويكف عن الوغول في دماء الابرياء، وكانت الرسالة الثانية موجهة مباشرة الى الحكومة البريطانية وقد حاجج فيها من وصفهم بـ(دعاة الحضارة والديمقراطية)، وكيف يسمحون لحاكم عميل لهم يقوم بتلك الاعمال الاجرامية؟!

كانت الرسالتان بمنزلة كماشتين اطبقتا على ذلك الحاكم الطاغي واوقفته عند حده وانقذت ملايين الشيعة من الابادة الجماعية وسياسة التمييز الطائفي.

*المرجع الشيرازي في سامراء

ولم يتفق المؤرخون على سبب واضح لمغادرة المرجع المجدد الشيرازي مدينة النجف الاشرف سنة 1920 للهجرة، فعزا البعض ذلك الى اسباب اجتماعية والآخر الى اسباب موضوعية من قبيل الاهتمام بمدينة سامراء واعداد الارضية المناسبة لتوافد الزائرين الى مرقد العسكريين ـ عليهما السلام ـ؛ بداية عرج خلال هجرته على كربلاء المقدسة فصادف وصوله ليلة النصف من شعبان المعظم، ثم توجه الى الكاظمية ومن هناك الى سامراء التي وصلها اواخر هذا الشهر العظيم، فعزم على الاقامة لاداء فريضة الصوم طوال شهر رمضان المبارك.

وكان البعض يتصور ان المرجع المجدد سيقفل راجعاً بعد انقضاء شهر الصيام، لكنه لم يفعل، فارسل بعض خواصه والمقربين منه الكتب يسألونه عن سبب تأخره في العودة، فاخبرهم اخيراً عزمه على السكن في سامراء، وبعد عام من ذلك كان معظم رجالات الفقه والعلوم الدينية قد شدوا رحالهم مع عوائلهم الى سامراء ليشاركوا في تأسيس اول حوزة علمية في هذه المدينة المقدسة.

وحسب ما تؤكده المصادر فان سامراء وقبل وصول المرجع المجدد الشيرازي كانت عبارة عن قرية صغيرة لم تصلها يد العمران والتطور على مختلف الصعد، لكن بعد وصوله فانه لم يقتصر على بناء المدارس والحوزات والمكتبات وانما عكف على تطوير هذه المدينة ورفع شأنها بين مدن العراق وقصباته آنذاك.. فكثر وفود الناس على هذه المدينة المقدسة وانتشار العمران فيها، وانشأ المرجع المجدد سوقاً كبيراً من اموال كثيرة وصلته من الهند، ولعل اعظم انجاز عمراني في تاريخ سامراء هو الجسر الذي شيده المرجع المجدد على نهر دجلة، حيث كان الناس سابقاً يعبرون هذا النهر الكبير والجارف بواسطة (الكفة) التي كانت قديماً تعد وسيلة النقل الوحيدة وكان الناس يعانون من استغلال اصحاب (الكفف)! ومذاك عرف اهالي سامراء الجسر الذي يقلهم من جانب الى آخر فوق نهر دجلة، وقبل ان ننتقل من الحديث عن نشوء الحوزة العلمية في سامراء نجد من الضروري الاشارة الى حقيقة تاريخية غاية في الاهمية وهي ان حوزة النجف الاشرف لم تتاثر ابدا بسطوع نجم حوزة سامراء رغم افتقادها لزعيمها المرجع المجدد الشيرازي ويعود الفضل في ذلك الى حكمته وسعة رؤاه، فقد كانت العطايا والنفقات لاتنقطع من سامراء الى النجف الاشرف لتغطية حاجات علماء الدين والحوزة العلمية آنذاك.

*وحدة العيد مع اهل السنة

ومن عظيم مواقفه الخالدة في جمع شمل المسلمين من الشيعة والسنة في سامراء، ما حصل مع اقتراب حلول شهر شوال، حيث يختلف المسلمون في رؤية هلال العيد، بل آل التشتت والتباعد بين المسلمين ان يختلف اصحاب المذهب الواحد والبلد الواحد على رؤية هلال العيد واعلانه للناس... والحكاية باختصار ان المرجع المجدد كان ذات يوم يتجول على شاطئ دجلة على مركوبه (الدابة) وكان ذلك من عاداته في بعض الايام، ومع غياب قرص الشمس في الافق لمح وهو يرمق طرفه الى السماء الهلال شاخصاً في كبد السماء، فاستهل لكن لم يخبر احداً، فحصل ان اعلن علماء اهل السنة ان يوم غد هو غرة شوال واول ايام العيد والتمسوا من المرجع المجدد ان يبدي رأيه ويوافقهم الرأي.

فاستجاب لهم على الفور وطلب منهم الشهود، وبعد حضور الجميع اعلن امام الملأ ان يوم غد هو غرة شهر شوال ويوم عيد الفطر السعيد.. فاثار هذا الموقف استغراب علماء الدين والناس وكيف قبل المرجع المجدد شهادة من هم من مذهب آخر، وهكذا سأله ابنه هامساً: هل تغيرت عندكم شروط الشهادة، فاجابه بالنفي وقال له: (حكمت من واقع رؤيتي الشخصية للهلال وحكمت برؤيته، واردت ان ابدي نوعاً من التعاطف تجاههم، فلتكن من جانبنا المنة في حسن النية)..

*ثورة وحديث يطول

في الحقيقة اجد صعوبة في كبح جماح القلم وهو ينطلق في رحاب سيرة هذا المرجع المجدد والمجاهد ومواقفه السياسية ورؤيته الحضارية وارتكازه على القيم الاخلاقية، كل ذلك وغيره من العوامل ساعدت في انتصار اول ثورة في التاريخ الشعبي قديماً وحديثاً دون سقوط قطرة دم واحدة، واجزم انه، لولا سيرته المضيئة لما اهتدى الايرانيون إلى التفاعل مع فتواه الشهيرة بتحريم استخدام التبغ الذي ينتجه البريطانيون بامتياز خاص بعد سرقته من المزارع الايرانية، وبالتالي تمكنوا من استعادة حقوقهم وكرامتهم التي حاول ناصر الدين شاه القاجاري هدرها عند اقدام المستعمرين البريطانيين.

تلك الفتوى الصاعقة وتراجع الملك الايراني عن قرار بيع الامتياز ومرارة الهزيمة والخسارة التي تذوقها البريطانيون لاول مرة في تاريخهم الاستعماري، كل ذلك شكل انعطافة تاريخية هامة لدى الشعوب المسلمة في مقدمتها الشعب الايراني، وحقاً يجب ان تكون (عبرة لمن يعتبر)!

*الى الرفيق الاعلى

اصيب المرجع الديني المجدد بداء السل، وكان شائعاً في تلك الايام دون ان يكون له علاج شاف، وبعد فترة من المعاناة والصراع مع هذا المرض الوبيل، فارق الحياة وفاضت روحه الطاهرة مساء يوم الاربعاء في الرابع والعشرين من شعبان المعظم سنة 1312 في مدينة سامراء التي احبها واحب اهلها واحبوه، فكان خبر وفاته بمنزلة الزلزال في النفوس في كل ارجاء العالم الاسلامي، فحمل جثمانه الطاهر على الاعناق والاكتاف الى النجف الاشرف، وكان اهل المدن يظهرون بالغ الجزع والحزن وهم يشاهدون النعش يمر عبر مناطقهم الى المثوى الاخير، وذكر احد تلاذمته وهو السيد حسن الصدر في كتابه (التكملة) ان مجالس العزاء على المرجع المجدد الشيرازي دامت عاماً كاملاً في عموم البلاد الاسلامية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء  3/أيلول/2008 - 2/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م