سياسة العزل العربي للعراق تكتيك ام استراتيجية

لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث

شهد يوم الحادي عشر من شهر اب عام 2008 انعطافة هامة على صعيد العلاقات العراقية العراقية العربية تمثلت بزيارة خاطفة لملك الاردن الى بغداد دامت اربع ساعات لاغير...، صحيح ان تاريخ ما قبل هذا اليوم سجّل زيارة لاكثر من مسؤول عربي رفيع سرا وعلانية الا ان يوم الحادي عشر من اب هذا شهد زيارة اول قائد عربي لعراق ما بعد الاطاحة نظام صدام.

انها المرة الاولى التي يحل فيها الملك عبدالله بن الحسين عاهل الاردن ضيفا في احد سهول الهلال الشيعي بعد تمنع طويل، فهل كانت خطوته تلك تمثل مراجعة لنظرية الهلال الشيعي التي طالما حذر منها العاهل الاردني العالمين الغربي والعربي، ام ان ثمة معادلة براغماتية جديدة فرضت نفسها على اجندة الملك فقام برحلة مفاجئة الى بغداد؟

لو تأملنا في المسوغات التي دفعت الملك عبد الله ومن بعده الرئيس المصري حسني مبارك واخرون غيرهما الى تبني نشر (العراق فوبيا) في اوساط الجماهير العربية نجدها تنحصر في اسباب قد يكون من ابرزها الخوف من اطروحة الشرق الاوسط الكبير التي روجت لها الادارة الامريكية تزامنا مع اسقاط النظام العراقي عام 2003 م ما ادى الى احداث نوع من الهياج والفزع لدى بعض الحكام العرب تجسدا بشبح الاطاحة بهم واحدا تلو الاخر بخاصة وان النظام السياسي مفعم بسيادة منطق المؤامرة كما ان الموروث العربي نفسه يعج بأمثلة من طراز "من حلقت جاره فليسكب الماء على لحيته " تساعد في صياغة حالة نفسية غير مستقرة خصوصا عند الساسة والحكام.

 اما الذريعة الاخرى التي ساهمت في ان يصبح الموقف العربي بالشكل الغريب الذي كان عليه هو وجود الاحتلال الامريكي للعراق ومن ثم امكانية نهب ثروات هذا البلد وعلى راس تلك الثروات النفط والذي كان للاردن على سبيل المثال حصة مجانية كبيرة منه في الايام الخوالي، ومن بعض الحجج التي ساقتها الماكنة الاعلامية والسياسية ما يتجلى في الخوف على هوية العراق العرقية منها والطائفية وامكانية تحويله الى ضيعة ايرانية لاسيما مع الاداء السياسي الفاشل الذي طُبع به عدد لا يستهان به من سياسي المرحلة الجديدة...

الحق ان مجرد اشاعة افكار من هذا القبيل الذي اشرنا اليه انفا كفيل بان يؤدي الى تفهم حال القطيعة المرة التي عانى منها العراق وشعبه في السنوات الاخيرة من جراء سياسات النظام العربي وهو في ذات الوقت يحمل اعذارا مبطنة لموقف العرب الرسمي والشعبي المعادي للتجربة العراقية بالرغم من ان الواقع الذي يعيشه العراق حاليا يبدو انه كان وما يزال يسير في خط مناقض للصورة التي رسمتها ريشة السياسي والاعلامي وحتى الفنان العربي.. اذ ان التجربة العراقية في الحكم على كل محاسنها لم تكن تمثل انموذجا حرص العرب على اتباعه على الصعيد الشعبي فضلا عن الصعيد الرسمي لانه لا يزال ومنذ اشتراعه في طور المراجعة والتعديل هنا في داخل العراق ذاته ولم يصل حتى هذه اللحظة الراهنة الى مستوى التصدير وهو بهذا المعنى رديف للتجربة اللبنانية التي ماتزال هي الاخرى ابعد ما تكون عن مستوى التصدير رغم بلوغها سن الستين تقريبا.

 واما ما يتعلق بالنفط فان هناك ارتفاع حاد في قيمة هذه المادة شملت فوائده جميع البلدان المصدرة للنفط والعراق لا يعد استثناء من هذه المعادلة رغم ما يشاع عن حدوث هدر كبير في قطاعه النفطي، اذ ان ميزانية هذا البلد لهذا العام بلغت وفقا لاحصائيات وزارة المالية العراقية اكثر من 70 مليار دولار قابلة للزيادة وغالبيتها العظمى من مبيعات النفط العراقي الخام لدول العالم ومنها الاردن الذي ضمن سعرا تفضيليا يحسده عليه سائر الزبائن حتى الامريكيون منهم.

كما ان مفهوم الاحتلال الامريكي للعراق بوجه العسكري الصارم في طريقه الى التلاشي التدريجي لاسيما مع بقاء العناد الذي يبديه المفاوض العراقي بخصوص توقيع معاهدة طويلة الامد مع الجانب الامريكي، اما عن الخوف على هوية العراق العربية والطائفية فمع ملاحظة الحجم السكاني لعرب العراق ومدى تلاحمهم العشائري العابر للطوائف وبروز العامل الوطني بوصفه قوة يمكن المراهنة عليها في القابل من الايام على الصعيد الاجتماعي والسياسي يعطي المراقب استنتاجا مفاده ان العراق لا يمكن ان ينسلخ عن طابعه العربي ولابد للقوميات الاخرى ان تاخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار عاجلا او اجلا بالتزامن مع النزوع الجماهيري لاحلال قيمة المواطنة محل القيم التي بدأ الشارع العراقي يحملها مسؤولية التدهور العام ، وبالنسبة لخوف العرب من ايران فان استشراء النفوذ الايراني لم يكن له ان ينمو الى حدوده الحالية لولا ابتعاد وهروب العنصر العربي عن الساحة العراقية بسبب مقتل او الخوف من مقتل احد الدبلوماسيين...الامر الذي لم يرعب او يرهب دولا اخرى تعرضت سفاراتها العاملة في بغداد الى خسائر بشرية فادحة مثل روسيا فبدلا من الاذعان الى املاءات الارهابيين اصدر الرئيس الروسي فلادميير بوتين في حينها امرا بملاحقة الارهابيين القتلة.

ان تداعي الموقف العربي الرسمي في النظرة الى العراق الجديد والتعاطي معه سياسيا ودبلوماسيا على ما هو عليه يعطي يقينا راسخا بان سياسة العزل العربي لم تكن استراتيجية بعيدة المدى بل كانت تكتيكا ولدته ردة فعل غير محسوبة قد يكون من بينها حادثة مصرع السفير المصري في بغداد وان العرب بمجيئهم الى العراق من خلال مبادرات فردية يؤكد القناعة بان استراتيجية للعمل الموحد بشان العراق لم تتبلور بعد اذ ان الملاحظ في خطوات الانفتاح العربي على العراق انها كانت استجابة لرغبات داخلية او خارجية خاصة بكل بلد عربي او انها بمعنى من المعاني تمثل رؤى عربية متفاوته تجاه العراق فالاردن عندما ذهب بملكه الى العراق كان يمثل رؤيا سياسية واقتصادية تختلف كليا عن تصور دولة الامارات العربية المتحدة صاحبة المبادرة الاولى في الانفتاح العربي على العراق واطفاء ديونها المستحقة على هذا البلد..

 والامارات بفعلها الايجابي هذا تمثل موقفا يكاد يختلف بالكامل عن الرؤيا السعودية التي لم تزل تحتفظ بحسابات مغايرة منها ما يصب في العلاقة المازومة والملتبسة بينها وبين ايران ومنها ما يستند الى مواقف مسبقة ضد بعض الاطراف النافذة في داخل العراق ولكن قد ياتي اليوم الذي تدرك فيه الدول والمؤسسات في عالمنا العربي ان سياسة عزل الاخرقد تتحول بسبب ضغط الظروف وتبدلاتها الى نوع من الانعزال المفضي الى الموت لا محالة، وان الموقف المبني على ردات فعل سياسية او عاطفية لايصلح لكي يكون رداء مقبولا ومعقولا تتزيى به مؤسسة حقيقية فضلا عن دولة ما فتأت تتباهي بثقلها في المنطقة والعالم، ذلك ان جغرافية الارض ومصالح الشعوب تظل اطول عمرا واكثر تجذرا من عهود واعراف الانظمة الحاكمة.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد  31/آب/2008 - 28/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م