بلى ورب الكعبة..  إنها قطعة من الجنة

انطباعات في زيارة الامام علي بن موسى الرضا سلام الله عليه

موسى جعفر آل رضوان

للكلام أرصفة وللغة حواشي ، في الأرصفة متسعٌ ولكن ليس للعابرين بأجسادهم..

نحن هنا وليس هنا.!!

إننا نسير على أقدامنا ولا نسير !!

هنا تستفيق أحلام اليقظة فتنتعش القلوب والدروب.

* * *

أجسادنا المبضعة والمثقلة بهموم الزمان وحدود المكان تذوب على وقع حرارة اللقاء على أعتاب هذه البقعة المباركة ، إنها قطعة من الجنة ، أُستلت من فاكهة النبوة.

* * *

هنا انفصلت مركبة أجسادنا ويا ليتها تنفصل على الدوام عن تلكم الجاذبية المقيتة التي تشدنا إلى الأرض.. ( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ).

* * *

ترى من هو الذي يُسيرُ دفة مجاديفنا في وسط هذا البحر البشري المتلاطم الأمواج ؟

الكل يحدوه المسير لتكحيل العيون بنظرة شوق وحب لاستلام وتقبيل الركن النبوي ولثمه وذرف الدموع على أعتابه.

* * *

الركن النبوي هذه المرة ليس في زاوية واحدة كما تعودناه ، كل أطرافه كعبة تؤمها القلوب المستكنة في صدورنا.

* * *

هنا في كل قلب بوصلة ، وعلى كل شفة لهيج عاشق ، وفي كل عينٍ سحابة مزن يحدوها الشوق لاستمطار شآبيب أحزان القرون الخوالي ، هنا ذكر فحنى ،،

هنا موعد مع العيون الحرى

هنا سحر الشرق

من هنا يمر طريق الحرير الموشى بفراديس روعة المتصوفين الزاهدين في حطام هذه الدنيا الدنية.

* * *

مخطئ من يظن أن ذاكرة الأمكنة يمكن اختزالها في ما تراه العيون من الهواء المكتظ برائحة الدخان وأنفاس الملايين من ذوي الألسن المختلفة ، فقد تضيق الأمكنة ولكن تبقى للزمان المقدس لغته الشهية الأوسع من كل دهاليز المكان.

* * *

بمجرد أن تلامس عيناك الأشعة الذهبية المائلة للون الزعفراني والمتصلة بحجب الغيب السماوية تكاد تأخذك قشعريرة المكان وهيبة الزمان ، بل تكاد تشعر أن الجدران ستأخذك بالأحضان والقباب السامقة ستهبط لتستظلك بين جنبيّ وريث كسيرة الأضلاع.

هنا تفتح لك الأبواب أذرعها تحنناً "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب".

* * *

العشق هذه المرة أكبر من التصاق الأجساد واللذات العابرة لقارات الوهم اللحظي المصطنع ، هذه المرة كل شيء مختلف ، في حضرة القُدُس.

* * *

المتبضعون على الأرصفة يسيرون كأنهم المجرات والأكفان المنسوجة بلون الزعفران والتراب الكربلائي تستحث خطانا نحن العابثون.

كلما لاحت لنا القباب من جديد صحنا

آه.. يا لحرقة العيون..

آه.. لنفحة المصدور

آه وألف آه

* * *

لهؤلاء الحجيج هالة تذكرني بالسديم الكوني المستمر الذي لا يفتر مسبحاً و مهللاً..

* * *

هنا كان السلطان العباسي يحاول أن يبضع ويشظي قلب سلطان الرضا ظناً منه أن الحق ينتهي بنهاية الأجساد

هنا كان سلطان "الرضا" بروعة هدوءه يبذر شمس الحب ، عام ونيف قضاها في طوس ولما يزل التاريخ يخلده على رغم من رغم.

هنا بقي الرضا سلطاناً على الزمان وانتهى المأمون في مزبلة التاريخ.

فأين ذهب هيلمان السلطة أيها المأمون وصولجانها ؟

هنا انماثت ممالك القهر وجاذبيات الاستبداد المتلاشية مع دقات كل حبة مسبحة تنخرط في أيدي العاشقين للرضا من ملايين المؤمنين العكف ، الركع ، السجد ، هنا عقد خلص المؤمنون مع الله عهدهم الأبدي أن يأتوا زاحفين ولو على الركب ليجددوا البيعة مع صاحب حديث السلسلة الذهبية "لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي ولكن بشرطها وشروطها وأنا من شروطها"

* * *

هنا يمكنك أن تشعر أن لكل مسبحة حكاية ، ولكل قارورة عطر تفوح رضا حديث شيق.

* * *

من هنا تمر القلوب منكسرة على الصراط المستقيم موشومة بأحراز الصلحاء يستحثها المسير غير عابئة بالجديدين.

* * *

نعم تبقى الأرواح جنود مجندة مُعلِقةً آمالها بين يدي الشفيع المشفع والماحل المصدق عِدل القرآن الذي من زاره فقد وجبت له الجنة.

* * *

ألم أقل لكم إنها قطعة من الجنة.

بلى ورب الكعبة.

إنها قطعة من الجنة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد   17/تموز/2008 - 15/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م