إعلام الإنحلال في إطار إنساني.. المسلسلات المدبلجة نموذجاً

 

شبكة النبأ: في إطار ردود الأفعال المتباينة التي أطلقها المجتمع العراقي تجاه مسلسلات عاطفية تركية بُثَّت منذ فترة بلهجة سورية، فوجئ الكثير من أبناء مدينة الناصرية جنوب العراق، بوجود العشرات من الملصقات على أرض ساحة الحبوبي، مركز المدينة، وهي تحمل صورة الممثل التركي كيفاتيتش تاتيليتوغ الذي أشتهر باسم "مهند"، في المسلسل التركي الذي تعرضه قناة mbc، في محاولة لجعل المارة يدوسون على صورة الممثل بأحذيتهم.

وقال محمد، 38 سنة، وهو صاحب محل قريب "لقد فوجئت بصور الممثل وهي تملأ الطريق"، مؤكدا أن "كثيرين يعتبرون انتشار مثل هذه المسلسلات إفسادا للمجتمع، لذلك يحاولون  التعبير عن رفضهم للمسلسل بهذه الطريقة".

أما علي حمزة 40 سنة، فقال إنه "يشعر بالسعادة لأن صورة مهند تداس بالأحذية"، وعلق على ذلك ضاحكا بالقول "كلما قلت لزوجتي إني أريد العشاء، تتذرع بأنها تريد إن تشاهد مهند".

احد الباعة في الساحة عمار حسين، 25 سنة، اعتبر المسلسل "من النوع العادي الذي لا يستحق كل هذه الضجة"، ورأى في وضع تلك الملصقات على الطريق "سلوكا فرديا".

وأعتبر مازن 22 عاما أن "مثل هذه الأمور تزيد من شهرة المسلسل، فحتى الذين لم يكونوا يعرفون مهند سابقا، سوف يتساءلون عن صاحب الصورة التي يدوسها الجميع بأحذيتهم"، مضيفا أن "الكثير من العائلات تتابع المسلسل الذي أصبحت له شعبية كبيرة، ليس في العراق وحده، وإنما في الكثير من الدول العربية"، حسب قوله.

ويعتقد البعض أن عزوف المشاهد العراقي عما يعرض في القنوات غير العراقية أمر يحرج الإعلام العراقي "لأنه غير قادر على المنافسة". بحسب نيوزماتيك.

وقال الصحفي هيثم جاسم الغزي 36 سنة، إن "المشكلة تكمن في إدارة الخطاب الإعلامي"، موضحا ان  "لدينا 30 قناة فضائية، ولدينا مئات الإعلاميين، لكن المفارقة ان سياسيينا يرتجفون مما تبثه قناة الجزيرة، وصورة العراق التي يعرفها العالم مأخوذة من قناة العربية والجزيرة وCNN".

وأضاف الغزي " المفارقة الأخرى على الصعيد الدرامي، إذ أن لدينا مئات الممثلين العاطلين عن العمل، في حين لا يشاهد العراقيون سوى مسلسل مهند".

أما أحمد خضير28 سنة، فقال إن "الفضائيات العراقية أصبحت مملة، وهي لا تختلف في برامجها عن إعلام الحكومات".

وكان ممثل المرجع الديني علي السيستاني في الناصرية، الشيخ محمد مهدي الناصري، قد قارن بين الشهرة التي حصل عليها هذا المسلسل وبين أداء الفضائيات العراقية التي رأى الناصري أنها لا تهتم إلا "بتمجيد السياسيين"، على حد قوله.

وأضاف الناصري، خلال خطبة الجمعة الماضية في مسجد عباس الكبير، وسط الناصرية، "إني أسمع إن هناك مسلسلا تركيا هابطا بعيدا عن ثقافتنا، يتابعه ملايين العراقيين، في الوقت الذي لا تهتم فيه القنوات العراقية إلا بتمجيد فلان وفلان"، في إشارة إلى الزعماء السياسيين، داعيا الى الكف عن تمجيد السياسيين بالقوال "كفى تمجيدا، وانظروا إلى أين أوصل التمجيد صدام حسين".

وطالب الناصري الفضائيات العراقية" بالاهتمام ببناء العقل العراقي، وإنتاج مواد إعلامية تربوية تحث على العمل والأعمار والبناء وسيادة القانون".

يذكر أن المسلسل هو إنتاج تركي قامت شركة سورية بدبلجته إلى العربية، ويحظى بمشاهدة واسعة بين أوساط الشباب وربات البيوت.

العراقيون والمسلسلات التركية.. الشوق للرومانسية في زمن العنف 

تنتظر الشابة (مي) يوميا وبفارغ الصبر موعد بث المسلسل التركي المدبلج (نور) من على شاشة إحدى القنوات الفضائية، في مشهد صار جزءا من حياة الملايين من العراقيين، لم يخل أيضا من ردود أفعال مستهجنة إزاء المسلسل واستحواذه على اهتمام المشاهدين، لاسيما بين الشباب.

تقول مي لوكالة أصوات العراق ان المسلسل "ممتع ومسلي ويعكس حياة نفتقر إليها بسبب الفقر والتدهور الأمني اللذان يحرمان العراقيين من العيش (الآدمي)"،على حد وصفها.

والمسلسل التركي (نور) الذي يقع في (165) حلقة تدور أحداثه حول "نور" الزوجة المخلصة لزوجها "مهند" بينما يعشق هو فتاة تدعى "نهال" التي رفضت عائلته الارتباط بها وتموت في حادث مأساوي لتدور الأحداث بعد ذلك في قالب تراجيدي ورومانسي.

ويقول (أبو احمد) من بغداد، الذي اكتظت بسطته الصغيرة بصور بطلي المسلسل، ان "الطلب انخفض بشكل كبير على شراء صور الجميع من فنانين وسياسيين ورجال دين بعد رواج البوسترات الخاصة ببطلي مسلسل نور."

ويضيف لـ أصوات العراق انه يتعرض يوميا لمواقف عدة بين محبي ومبغضي بطل المسلسل، فبينما "تشهق بعض الفتيات حين يرين اللقطات الخاصة بالبطل، تطلبها أخريات على استحياء."

وترى الموظفة سناء عبد الله (موظفة 35 عاما)، في مشاهدة المسلسل والتمتع فيه حالة "أفضل من مشاهدة الأخبار السياسية التي كنا نراقبها كل يوم أملا في تحسن الأحوال."

 وتقول  ان المسلسل "يدخل الإنسان إلى عالم رومانسي خيالي بعيدا عن القتل والفقر والبطالة ليعيش لحظات حلم جميل لمدة ساعة قبل النوم" 

ولا يخفي الخمسيني (أبو يوسف) تعجبه من الضجة التي أثارها المسلسل لدى العراقيين ويقول انه منع ابنته من مشاهدة المسلسل "لما فيها من مشاهد غير لائقة" مبينا انه قام بمسح القنوات التي تعرض المسلسل "حرصا على ابنتي من التعلق ببطل المسلسل، كما مزقت صوره التي اشترتها من السوق لان الأمر خارج عن تقاليدنا الاجتماعية".

أما  (أم محمد) فتقول انها لاتتابع المسلسل من اجل القصة او الحبكة الدرامية ولكن لتتابع "احدث تسريحات الشعر وخطوط الموضة نظرا لان المسلسل يتحدث عن رجل وسيدة أعمال يقومان بتصميم الثياب" مضيفة ان "قوام النساء في المسلسل نموذجي وتسعى للتخفيف من وزنها لتكون برشاقة بطلاته".

ولا يجد (أبو فاتن) ضيرا من متابعة أفراد عائلته للمسلسل ويقول ان المسلسل "يشبه كثيرا المسلسلات المكسيكية المدبلجة التي عرضت سابقا على التلفزيون العراقي  التي لم تثر موجة استياء لدى الشباب مثل هذا المسلسل"

 وفيما افرز المسلسل تداعيات مختلفة على مستوى ردود الأفعال في الشارع العراقي، بين مؤيد ومعارض، شانهم في ذلك شان كل البلاد العربية حاليا، فان المشهد العراقي قد يحمل خصوصية معينة في تفسير ظاهرة انتشاره بين العراقيين.

ويوضح الباحث الاجتماعي فارس العبيدي هذه الخصوصية بأنها " الرومانسية المفرطة التي جاءت لتملأ الفراغ العاطفي الذي يعيشه المواطن العراقي وسط ظروف الجفاف وارتفاع مستوى العنف الذي ابعد العراقيين عن الحياة الطبيعية التي يعيشها أي فرد في العالم".

كما يرى العبيدي ان "السر وراء المتابعة الكبيرة التي تحظى بها المسلسل يأتي بالدرجة الأولى إلى ان "المسلسل تركي والمجتمع العراقي غير مطلع تماما على نمط  وطبيعة الحياة التركية هل هي إسلامية أم علمانية"

وأضاف "ومع تنامي المد الديني والعنف الطائفي والبطالة أصبحت العواطف والحب والبيوت الجيدة مسائل ترفية أو ما نسميه (بطر) لان البقاء على قيد الحياة بسبب الظروف الأمنية وتوفير لقمة العيش هي الشغل الشاغل للفرد العراقي وليس الرومانسية".

أما ردود الأفعال الغاضبة ضد المسلسل فقد تعود، بحسب العبيدي، إلى عدة أسباب أهمها ان "متابعة هذا النوع من المسلسلات يعد محرما عند البعض لأنه تعلق باللهو وترك ذكر الله، وبعض الكتابات المعادية التي كتبت على الجدران التي تناشد بالعودة إلى سنة النبي وترك "مهند ونور" في مناطق من العاصمة دليل على ذلك".

وعزا الباحث الاجتماعي ولي الخفاجي انتشار المسلسل إلى "عزفه على وتر العواطف الذي غابت نغماته عن العراقيين بسبب دائرة العنف التي دخل فيها المجتمع دون ان يتمكن لحد الآن من التملص منها فكانت ردود الأفعال النسائية خصوصا الرافد الأساسي والمميز لنجاح المسلسل في العراق".

ويرى ان ردود أفعال العراقيين على المسلسل تتسم بـ "التعارض بين حب ودفاع مفرط وبين كره شديد فهناك من يعلق صور إبطال المسلسل ويحتفظ بها على جواله، وهناك من يمزق تلك الصور كما حصل في الناصرية حين اشترى احد الأشخاص عشرات من صور بطل المسلسل ونثرها في الشارع فقط من اجل ان يدوس المارة عليها".

وفي البصرة جنوبي العراق، يثير المسلسل اهتمام الشارع البصري، فبعض المواطنين أشاروا إلى إنه متنفس وآخرون قالوا إنه أمنيات، فيما أشار متخصصون في الشأن الاجتماعي إلى ان الناس بطبيعتها تتطلع إلى حياة طبيعية خالية من المنغصات وقد تجد ذلك من خلال الدراما التلفزيونية والتي تمتد لفترات طويلة.

وتقول الطالبة منى محمد عن المسلسل انه "على الأقل إن هناك ما يشغلك، حيث ترى حياة حقيقية أمامك والتي كدنا نفقدها أو فقدناها لسنوات كثيرة وأثرت سلبا على تركيبتنا الاجتماعية وعلاقاتنا ولكنها حياة طبيعة بلا منغصات بالرغم من المشاكل العادية التي تصادفهم".

وأضافت "ليس كما نعيشه نحن بأزمات اكبر من أن تحتمل منغصات الكهرباء والماء وقانون الانتخابات لمجالس المحافظات وغيرها من الأمور التي ربما غابت بعض الشيء أمام انشغال بمتابعة دراما تغنيك عن باقي الأشياء."

ويقول محمد علي، احد أصحاب محلات الموبايلات، ان "الإقبال الآن بشكل كبير على النغمات الخاصة بموسيقى مسلسل سنوات الضياع ومسلسل نور من الشباب خصوصا ويمكنك الانتباه لذلك وأنت تجلس في مكان عام أو باصات النقل العام وأنت تسمع رنات الهواتف النقالة بتلك الموسيقى".

وأضاف "كما يمكنك ان ترى بشكل واضح انتشار الصور والبوسترات الخاصة لأبطال المسلسل وهي تباع في العديد من المحلات والمكتبات والبسطات في الأسواق".

ومسالة اهتمام الشارع العراقي بهذا المسلسل يعزوها الناقد جميل الشبيبي بقوله  أن "الدراما التلفزيونية تلبي حاجات إنسانية عامة حين تثير أسئلة وإشكالات عن الحياة المعاصرة، التي تعمل على قتل المثل الإنسانية النبيلة المتمثلة بالحب."

واضاف  "يضاف إلى ذلك قدرة هذه الدراما على كشف الكثير من تفاصيل الحياة المعاصرة حيث تتجسد  فيها مظاهر الحياة المنظمة، في حين يجد العراقي حياته غير مضمونة ولا منظمة، وخشنة تسودها الفوضى والعبث بشكل لا يطاق وكل ذلك يستدعي انسجاما غير واع مع الحياة في هذه الدراما التلفزيونية، وكأنها بديل حلمي لحياة عراقية مؤجلة".

وأشار الشبيبي الى انه "في  مسلسل (نور) تبدو هذه الحياة الملونة مغرية وجذابة من خلال الألوان والمباهج الصغيرة والمناظر الطبيعية الخلابة، والعراقي ينظر إلى كل ذلك كحلم يقظة ينتهي حالما تنتهي كل حلقة، ويبدأ من جديد في حلقة قادمة جديدة".

من جانبه قال القاص والروائي علي عباس خفيف "لا بد أن تعقيد حياة العراقيين في الأوضاع المريرة الراهنة ينتج جملة من الأمور، أولها البحث عن متنفس، ورومانسية مفتقدة، لكي يستطيع الفرد ان يحلم بكامل يقظته".

وأضاف "لذلك كان مسلسل نور هو المتنفس الأهم خصوصا وهو ينقل حيوات افتقدناها منذ عشرات السنوات، فلو ان العراق تطور تراكميا لأنتج حيوات مماثلة لما يقدمه المسلسل الأمر الذي ولد اندماجا كليا، انه إسقاط ربما".

الفنان التشكيلي ياسين وامي قال "ان من أهم المزايا التي جعلت مسلسل (سنوات الضياع) يلقى هذه الاستجابة الجماهيرية هي الصنعة الفنية، والمشهد السياحي، فضلا عن هيمنة البعد الإنساني في العلاقات الاجتماعية".

وزاد "ان استجابة وتفاعل  المجتمع العربي بما فيه المجتمع العراقي يؤكد رغبته بالانفتاح على الآخر والاطلاع على مجتمعات أخرى، خاصة وان المجتمع التركي  قريب من تقاليد المجتمع العربي، كما يؤكد الفراغ والانغلاق الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع العربي والعراقي بصفة خاصة".

ولفت " إلى إن الأغاني التركية والموسيقى التصويرية وطابع الشجن بشكل عام يتناغم مع الروح العراقية والعربية كونها مجتمعات ما زالت تعاني من احباطات كثيرة وآلام مستعصية".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثلاثاء   12/تموز/2008 - 10/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م