مسلسل سائح شيعي (2)

وجدي آل مبارك

تحدثنا في المقال السابق عن السياحة الدينية في المجتمع الخليجي والجوانب المتعلقة بها، وتطرقنا إلى أهمية ودور ثقافة المسافر في مواجهة وتذليل العقبات التي يواجهها أثناء سفره، واستشهدنا بذلك بأمثلة من الواقع وتحدثنا عن أول سيناريو من هذا المسلسل وهو استغلال الحملات والمكاتب السياحية للمسافرين،  وسنحاول في هذا المقال أن نكمل باقي سيناريو المسلسل الذي بدأناه.  

• استغلال من بوابة الدخول والجمارك 

أما الفصل الثاني من سيناريو هذا المسلسل هو غياب ثقافة الوعي والتعامل عند شريحة كبيرة من الزائرين والمسافرين في تعاطيهم مع المجتمعات الأخرى، التي تقابلها ثقافة ارتسمت في عقول المجتمعات العربية والإسلامية كونهم مسافرين يحتكمون -في ظنهم على آلاف مؤلفة من الأموال الطائلة، فهم مغنم وصيد ثمين بالنسبة إليهم،  وهم لايعلمون  أن بعضهم جمع مصاريف سفره بشق الأنفس كي يصل إلى بلدانهم !!. 

وتبدأ دراما استغلال المسافر الخليجي من منافذ الحدود والجمارك والمطارات فالرشوة الشعار البارز الذي لابد أن يرفعه المسافر إلى هذه البلدان لكي يمكنه من إنهاء إجراءات سفره بوضع مبلغٍ من المال في جواز سفره عند تقديمه لأي موظف في الجمارك  !!.

والنكتة في الأمر أن بعض المسافرين ( العائلات ) يدفع مبلغاً من المال يضاهي في كلفته كلفة نقلهم بالحافلة إلى تلك الدولة !!. ولم تقتصر المسألة إلى هذا الحد ؛ إنما تصل إلى أن بعضهم يدفع الرشوة ويتلقى معها سيل من الإهانات والشتائم، فلا تسمع من ذلك المسافر إلا أن يقول: كل ذلك من أجل الإمام (ع) وزيارته !!.

ومن باب الطرافة ينقل لنا أحد المسافرين كيف تعطلت بهم الحافلة في أحد المنافذ البرية لإحدى الدول العربية لمدة تزيد على 18 ساعة بسبب فقد جواز سفر أحد المسافرين، مما اضطرهم في نهاية المطاف إلى تركه في المنفذ، يقول هذا المسافر: وبعد مدة التقيت بذلك المسافر في تلك الدولة فقلت له: كيف عثرت على جوازك ؟ !!، فقال له: قمنا بالبحث عن الجواز في كل مكان بالجمرك خاصة بعد أن  أخبرنا أحد عمال المنفذ أنه شاهد أحد موظفي الجمارك يعمد إلى رمي شيء ما  في إحدى القمامات، وبالفعل عثرنا عليه في أحدها، وقد تعمد موظف الجمرك رمي الجواز في سلة القمامة لكي يعطل جميع مسافري الحافلة، لأنه لم يحصل على نصيب من الرشوة التي نالها زميله بالجمرك !!

• المسافر هو من يساعد الآخرين على استغلاله !!  

أما السيناريو الثالث من هذا المسلسل فيبدأ مع دخول السائح والزائر تلك الدول فيلقى العشرات من المرحبين بقدومه فالكل يتراكض على الفريسة الدسمة القادمة من بحر النفط، لكي ينال نصيبه منها  !!، ولعل أول القضايا التي تواجه المسافرين هي صرف العملة مقابل عملة الدولة المسافر إليها، فسذاجة البعض تجعله يصرف العملة في السوق السوداء ظناً منه أنها الأنسب  والأقل سعراً، ليتفاجأ بعملة مزيفة لايعرف صاحبه بعد أن استلمها منه !!  ثم يأتي مسلسل الاستغلال بين التنقلات والمساكن والمتطلبات الرئيسية للغداء والمواد الاستهلاكية.. وما إلى ذلك.

والعجيب أن كثيراً من هؤلاء المسافرين يصرون على التكتل في مناطق قريبة من المزارات ظناً منهم أنها الأنسب لسكنهم وتواجدهم، في حين من الممكن أن يحصلوا على سكن أرقى وأقل سعراً وأكثر أمنناً من ذلك المكان، لايحتاج منهم إلا لسيارة أجره تنقلهم في بضع دقائق إلى المكان الذي أرادوا السكن فيه من قبل. 

لأن معظم تلك الأماكن والتكتلات السكانية تغلب عليها حالة من الفوضى وسوء التنظيم وقلة النظافة وكثرة الازدحام وحوادث السرقة والنهب والاستغلال، والسبب إصرار الزائرين والمسافرين على السكن والتمركز في أماكن محددة.

ولم يكن الاستغلال الذي يتعرض إليه هؤلاء الزوار مادياً فحسب ؛ بل استغلال مصحوبٌ بإهانة المسافر والنيل من كرامته فيستغل فيه طيبته وسذاجته، خاصة مع غياب قوانين وتشريعات تحفظ للسائح والمسافر حقوقه،  وقائل  يقول: بتدفع غصبن عنك !!، لأنه يدرك أن رجل الأمن في بلاده ينطبق عليه المثل المعروف  ( حاميها حراميها ) !!.

 ولعله سيناريو لمشهد متكرر ألفه معظم الزائرين في حي السيدة زينب (ع) بسوريا، فالكلام عن مثل هذا ينضح له  الجبين، فحي السيدة زينب (ع) بدمشق شاهد عيان للآلاف من حوادث السرقة والاستغلال والإهانات التي يلقاها زوار السيدة الحوراء (ع) في كل عام.

ومما يدل على ماقلناه -عن ضحالة الثقافة لدى المسافرين والزائرين هو عدم إدراكهم لجدوى شراء البضائع التي يبتاعونها من تلك الدول، خاصة عند شريحة كبيرة من النساء فبعضهن تتراكض على شراء منتجات هذه الدول ظناً منها أن شراءها مجدٍ اقتصادياً، لكن بنظرة اقتصادية سهلة تجد أن أسعار البضائع التي يتهافتن على شراءها هي بنفس أسعار دولهم ولعلها أكثر.

والعجيب في الأمر أن داء هذه الثقافة انتقل عن طريق هؤلاء الزائرين والمسافرين إلى بلدان أخرى عربية وإسلامية،  فهم من شجعوا تلك المجتمعات على استغلالهم بدءاً من دخولهم بلدانهم حتى مع آخر يوم من خروجهم منها، فالسذاجة والطيبة التي يتعامل بها معظم هؤلاء المسافرين هي السبب في رفع الأسعار واستغلالهم في جميع الجوانب الأخرى.  

• مفاسد لاحصر لها  

أما السيناريو الأخير والمخيف من هذا المسلسل الذي نتحدث عنه فهو بترك شباب يسافرون إلى تلك البلدان بدون أي رقيب أو حسيب، وهم لايملكون قدراً كافياً من الوعي الثقافي والديني، خاصة مع ما ينتظرهم من مفاسد ومغريات، ونقولها وللأسف الشديد: أن بعض الآباء يتركون أبناءهم يسافرون إلى بلدان مثل سوريا بحجة الزيارة فيقع بعضهم في شرك المفاسد والشهوات وفريسة سهلة للمستغلين وتجار اللهو والجسد.

ولم تقتصر المتاجرة بالجنس في تلك البلدان على مريديها ومروجيها؛ بل وجدت شريحة تستغل الدين كشعار لترويج ثقافة الجنس بين المسافرين والزائرين بالقرب من الأماكن المقدسة، وأكثر مايقع في شركهم هم من الشبان المراهقين في عمر الزهور.

أما الجزء الآخر من المسافرين فيعيش واقع يومي مرير من مسلسل إهانة واستغلال، وشريحة أخرى تترك أفرادها دون رقابة وتوجيه مما يعرضهم لأشكال متعددة من الإهانة والتحرش والسرقة و الضياع والخطف. 

والطامة الكبرى أن القضايا والمشاكل التي كنا نسمعها عن طريق الألسن وتحكي حال الزوار والسائحين أصبحت تُنقل إلينا عبر مواقع الانترنت ورسائل البريد الإلكتروني باستخدام تقنية حديثة (كالبلوتوث )، التي  لاتدع مجالاً للشك بعدم حدوثها، والسبب في كل ذلك اللاوعي والسذاجة المفرطة عند كثير من هؤلاء المسافرين والزائرين. 

• مفهوم السياحة الحقيقة عند أهل البيت (ع)

تظل ثقافة السفر الحقيقية غائبة عن أذهان الكثيرين، وخصوصاً السياحة لمقصد الزيارة، فالسياحة مطلوبة والزيارة مستحبة، لكن ليست بهذه الكيفية وبتلك الطريقة، إذاً فما فائدة سفري وزيارتي إن لم أحصن نفسي وأسرتي من مخاطر وويلات أدفع ضريبتها من سمعتي ومالي ؟.

والجميل في الأمر أن أهل البيت (ع) يحثون أتباعهم على زيارتهم، بمقابل ذلك حملونا مسؤولية معرفتنا بثقافة الزيارة وكيفية تعاطينا معها،  والملفت في هذا الجانب أن زيارة الإمام الحسين (ع) في الحديث المروي عن النبي محمد (ص) في فضل زيارته وكيف كان يردد أن زيارة الإمام الحسين (ع) تعدل حجة حجها ثم زاد في العدد إلى أن وصل إلى السبعين، فعندما سئل أحد العلماء عن اختلاف العدد قال: أن الزيارة بقدر عمل الزائر ومعرفته وتقيده بالآداب والتصرفات  !!. وهنا دلالة على أهمية معرفة الإنسان بثقافة السياحة الدينية التي من أجلها يقطع آلاف من الكيلو مترات ويتحمل معها كثير من المشاق للوصول إلى ذلك المكان.

كذلك أن البعض يقتصر غاية السفر في مقصد الزيارة -بالرغم من أنه مقصد نبيل وسامٍ، لكن زيارة أهل البيت (ع) لاتتعارض في أن يستغل المسافر وقتاً من أوقات سفره للترويح عن نفسه والتعرف على الثقافات والحضارات الأخرى والاستفادة من تجاربهم فيما يثري و ينير فكر الإنسان ويفتح أمامه آفاق شاسعة من العلم والمعرفة، وهذا ما أكد عليه الإمام علي (ع) في القصيدة المنسوبة إليه:

تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى

                                                وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ

 تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ

                                                وَعِلْمٌ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ

لذلك يجب أن يدرك كل زائر ومسافر مفهوم السياحة الهادفة لكي تكون جميع تحركاته وتنقلاته عبارة عن وقفة تأمل واسترخاء يجدد فيها نشاطه الجسمي والنفسي والفكري، فعن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات وقال منها: وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم، ثم قال: ليس منا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه.

إن  السائح والزائر الحقيقي هو من كانت أخلاقه وسلوكياته بمستوى تفكير وثقافة تعكس انتمائه الحقيقي لمدرسة محمد وأهل بيته (ع) والذي جسده قول الإمام الصادق (ع): كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم،  وفي رواية أخرى: كونوا دعاة لنا صامتين، كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حينئذ يحق لكل مسافر وزائر أن ينسب نفسه لمدرسة جعفر بن محمد الصادق (ع).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين   11/تموز/2008 - 9/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م