عراقيون بلاهوية: نزع الجنسية ظاهرة للتهجير القسري والعيش في القمامة

اعداد: ميثم العتابي

شبكة النبأ: ظللهم المدى وناموا تحت السماء العارية، مطبّقين المثل القائل: يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. المهاجرين والمهجرين العراقيين، منذ النظام السابق وحتى اليوم. وسلب حقوقهم الشرعية من التجنيس والسكن والحقوق المدنية الاخرى. عصفت بهم الحروب تلو الحروب والقرارت الإرتجالية العنيفة لسلطة طائشة.

العراقيون اليوم يعودون إلى الوطن بعد غياب طويل، ليجدوا ان الحال قد تبدل وان ظالم الأمس تحول إلى جلاد اليوم.

(شبكة النبأ) في سياق هذا التقرير تسلط الضوء على أهم الأحداث والملابسات التي تخللت تهجير العراقيين أبان النظام السابق، مع عرض لحالة الفقر المتفشية في بغداد، والناس اللذين يقتاتون على النفايات:

النظام السابق ومشاكل نزع الجنسية العراقية

وجدت أم محمد نفسها في عصر يوم نيساني متقلب الأجواء على حافة الحدود بين العراق وإيران بعد أن تم زجها مع طفليها وزوجها وعوائل كثيرة أخرى في سيارة نقل غصت براكبيها لتتحول فجأة من عراقية (إيرانية الأم)، إلى لاجئة تبحث عن حقوق ضاعت بين حكومتين متقاتلتين.

تتذكر ام محمد ذلك اليوم قبل نحو ثلاثين سنة وتقول أنها كانت موظفة في احدى دوائر الدولة آنذاك، وفوجئت أثناء عودتها إلى البيت بوجود سيارة نقل كبيرة تبين لها فيما بعد أن قرارا صدر بترحيل جميع أفراد عائلتها إلى إيران بحجة أنهم من التبعية الإيرانية.

وكانت الحكومة العراقية السابقة عمدت في اواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي الى اتخاذ قرار بترحيل الاف المواطنين العراقيين بحجة انهم من التبعية الايرانية، لاسيما مع نشوب الحرب العراقية الايرانية التي استمرت ثمانية سنوات (1980-1988).

وتابعت ام محمد: أرغمتنا الظروف القاهرة على البقاء أكثر من عشرين سنة في إيران دون الحصول على أي من حقوق المواطنين هناك أو تقديم طلب لجوء.

وعن أسباب عودتها للعراق تقول: هو وطني الذي ولدت فيه وتزوجت احد أفراده وأنجبت فيه اثنين من أبنائي، مشيرة الى انه لم يتوفر لنا في إيران الإحساس بأنه وطننا ولم نعامل بشكل جيد لأننا في نظرهم عراقيين نزاحمهم على فرص العمل والعيش. خصوصا وإن العراق كان في حالة حرب معهم. بحسب أصوات العراق.

والأمر لم يختلف مع أبو هادي الذي قضى حياته مهجرا، بحسب قوله، ويروي قصته مع التهجير حيث: تم تهجيري من العراق إلى إيران بسبب التبعية، على الرغم من انه عراقي الأبوين، إلا أن جده قام بتحويل سجلهم إلى التبعية لاستثنائهم من الخدمة العسكرية الإلزامية حينها. ويضيف، عدت إلى العراق بعد سنوات عجاف وقد جمعت مبلغا مكنني من شراء بيت في منطقة سبع البور، إلا أنني فوجئت قبل أكثر من عام بمسلحين يجوبون المنطقة ويهددونا بالقتل وهتك العرض إذا لم نترك المكان، فما كان منه إلا أن هرب مع أطفاله وزوجته بما عليهم من ثياب ليستقر في غرفة بمنطقة الكاظمية، وليعود إلى بيته اثر استتباب الوضع الأمني في المنطقة ليجده عاريا من كل شيء، إذ قلعت الأبواب والشبابيك من مكانها، حتى أسلاك الكهرباء لم تسلم منهم، كما قال والحسرة تعلو محياه.

وحملنا معاناة هذه الشريحة ووضعناها أمام أنظار ممثل وزارة المهجرين والمهاجرين في مديرية شؤون الجنسية العراقية جلال إسماعيل، الذي كشف عن المعاناة التي يتعرض لها البعض من العراقيين في الخارج وخاصة في إيران حيث يجدون صعوبة في حصولهم على شهادة الجنسية العراقية بالإضافة إلى صعوبة وصولهم للعراق لعدم امتلاكهم المستمسكات التي تسمح لهم بالعودة وتقديم الطلبات بشكل رسمي وقانوني.

وقال إسماعيل أن مناقشات عدة جرت بين وزارة المهجرين والمهاجرين ومديرية شؤون الجنسية العراقية بهذا الشأن وتم الاتفاق على حل نهائي يتضمن فتح مكاتب لها في إيران لتسهيل إجراء معاملات المهجرين والمهاجرين هناك، بعد موافقة وزارة الداخلية الإيرانية.

وأضاف أن عدد شهادات الجنسية العراقية الخاصة بمعاملات التجنيس في مديرية شؤون الجنسية خلال شهر كانون الثاني يناير من العام الحالي بلغ لأول مرة (38) للعرب، و (32) للأجانب، و(366) للتبعية الإيرانية.

من جانبه قال مدير عام الدائرة القانونية في وزارة الهجرة والمهجرين محمد صالح: أن وزارة المهجرين تتابع أوضاع الذين (لا يحملون الجنسية) لمعرفة أوضاعهم القانونية ولنتبع آليات خاصة للتعامل مع حالاتهم المختلفة. لافتا إلى أن رئاسة الوزراء كانت قد دعت إلى تكوين لجنة للغرض نفسه لذلك حصل القرار بدمجهما معا والعمل سوية لحل أزمة شريحة واسعة من العراقيين الذين تم إسقاط الجنسية العراقية عنهم بالقرار سيء الصيت 666 أيام النظام السابق.

وكان النظام العراقي السابق اصدر قراره المرقم (666) لسنة 1980 بالاستناد إلى أحكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والأربعين من الدستور المؤقت لسنة 1970 في قرار لمجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة في أوائل أيار مايس 1980 أن يتم تسقيط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة. وأضاف صالح أن الوزارة عقدت عدة لقاءات وقامت بدراسة بالمشاركة مع مديرية الجنسية العامة، التي فاتحت بدورها دوائرها في المحافظات التي تكثر فيها هذه الشريحة.

وبشأن العراقي الذي لا يمتلك إثبات شخصية، أوضح صالح أن الطرق أمام هذه الشريحة مفتوحة، حيث يحق لمثل هذا الشخص أن يقدم طلبه إلى دائرة الجنسية العامة على أن يقدم إثباتات من السجلات السابقة أو من الشهود، مؤكدا أنها مسالة ليست شديدة الصعوبة.

وعن المستمسكات التي ينبغي أن يقدمها الذي لا يمتلك جنسية قال حسب ما أخبرتنا دائرة الجنسية أن على المتقدم أن يثبت ولادته بالعراق أو تقديم شهود على كونه من أصل عراقي.

وأوضح إن القانون سمح  لكل من ولد من أب عراقي أو أم عراقية أن يحصل على الجنسية العراقية، أما بالنسبة لغير العراقيين الذين توطنوا بالعراق ويودون الحصول على الجنسية العراقية، فهذه الحالة تتعلق بطلب تجنيس وهي مختلفة تماما.

وسألنا صالح عن أعداد من لا يمتلكون جنسية، فأجاب بأنه لا توجد إحصائية دقيقة أو تقريبية لأعداد الذين لا يملكون جنسية، لافتا إلى أن مديريات الجنسية بينت هي الأخرى أنها لا تملك مثل هذه الإحصائية.

وماذا عن الكرد الفيليين، سألنا  المدير العام للدائرة القانونية في وزارة الهجرة والمهجرين؟ فرد أن الوزارة تابعت بدقة  قضية الكرد الفيليين وطالبت بان تعود لهم الجنسية، مشيرا إلى أن هنالك قرارات خاصة بهم وأن بإمكانهم استعادة جنسيتهم دون عوائق.

واستطرد اغلب الذين أسقطت عنهم الجنسية تم تهجيرهم، فيما بقى قسم منهم داخل العراق على الرغم من قرار الإسقاط.

وبشان الكثيرين من هؤلاء الذين لجأوا إلى السعودية وتحديدا في مخيم رفحة نوه الى ان الجنسية العراقية لم تسقط عنهم، وهم فئات متعددة من العراقيين وإذا ما كانت لديهم أي مشكلة فما عليهم إلا مراجعة المحاكم المختصة.

ودعا هؤلاء الأشخاص إلى جلب بيانات ولادة الأطفال مع إخضاعهم للفحص الطبي في المستشفيات لتحديد العمر فيما يخص جنسيات اطفالهم.

فيما ذكر رئيس لجنة المهاجرين والمهجرين في البرلمان العراقي عبد الخالق زنكنة أن اللجنة قررت أن تحتضن قضية البدون المتواجدين بين الحدود العراقية الكويتية، وأنها طالبت بضرورة رعايتهم ومعاملتهم كأي من المتواجدين على ارض العراق من الفلسطينيين والسودانيين والعربستان وغيرهم.

وردا على رفض الحكومة الكويتية الاعتراف بهم كمواطنين، بين  رئيس اللجنة البرلمانية، أن هذا القرار شأن الكويتيين. واستدرك إلا أننا نرى وجوب التعامل الإنساني معهم والنظر في منحهم الجنسية العراقية كونهم متواجدين ضمن الحدود.

وأشار زنكنة إلى أن المجلس الوطني أصدر قراره المتعلق بإلغاء قانون مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (666) المتعلق بإسقاط الجنسية العراقية على من أسموهم التبعية، وأن موضوعهم عولج بالقانون (26) إضافة إلى قرار (117) الذي ألغى كافة القرارات والتعليمات والبيانات والأوامر التي أفضت إلى سحب الجنسية أو إلغائها وإسقاطها عن العراقيين منذ 1958 واعتبار كل من أسقطت أو ألغيت أو سحبت عنه الجنسية العراقية، عراقي الجنسية، مع تمتعه بكافة الحقوق القانونية التي تخولها له.

وفيما يتعلق بتفضيل البعض عدم العودة حتى الآن والبقاء في مخيمات دول الجوار قال رئيس لجنة البرلمانية المعنية أن هناك أعدادا كبيرة من المهجرين قد عادت إلى أرض الوطن، لكن قسما منهم لم يعودوا حتى الآن مفضلين البقاء في المخيمات داخل إيران، منوها إلى أن هناك اقتراحات لتعديل بعض الفقرات لحل المشاكل التي لا تزال عالقة مع فئات عراقية لم يشملها القرار دون أن يذكر طبيعة الاقتراحات أو الفئات التي يشملها التعديل.

تحولات العراق بعد إنهيار النظام السابق في فيلم وثائقي

يرى مخرج عراقي أن حياة الناس في بلاده تدور في فلك ثلاثة حروف يتم تبديل مواقعها لتؤدي كما يقول الى الجنون بعد أن تخلصت البلاد من دكتاتور واحد وأصبحت مستباحة لاطراف خارجية وداخلية تتناحر لتجعل من العراقيين أكبر جالية في العالم أو لاجئين في الداخل.

ويبدأ محمد الدراجي فيلمه الوثائقي (حرب.حب.رب. وجنون) بتوثيق دخوله الى العراق عام 2004 لتصوير فيلمه الروائي الطويل (أحلام) عن العراق حين كانت القوات الامريكية تشن هجوما على ميليشيا جيش المهدي التابعة للزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر.

وانتهى الدراجي من انجاز فيلمه الروائي الاول الذي شارك في عشرات المهرجانات حول العالم ونال كثيرا من الجوائز. لكن الذين شاهدوا الفيلم لا يعرفون كيف تم تصويره أو اختيار بطلته أو مصير صناعه. بحسب رويترز.

وشكلت الخلفيات والقصص والصعوبات الخاصة بتصوير فيلم (أحلام) مادة الفيلم الوثائقي الجديد (حرب. حب. رب. وجنون) لكنها مادة مراوغة تبدو كأنها تحكي عن الفيلم لكنها تعطي المشاهد فكرة عن أحوال العراق في لحظة حرجة أودت بحياة كثيرين وكادت تقضي على المخرج الذي فقد بعض أهله وأصدقائه موتا أو صمتا أو هجرة.

وشارك الفيلم في مسابقة (أفلام برنامج التسامح) ضمن أنشطة مهرجان (أوشيان سيني فان للسينما الاسيوية والعربية) الذي اختتم دورته العاشرة في العاصمة الهندية.

ويعد الفيلم ومدته 72 دقيقة وثيقة تبدو محايدة عن الفراغ السياسي والامني والقتل المجاني في بلد عاد اليه المخرج وهو يحلم بجنة الديمقراطية بعد أن اغتصبته الدكتاتورية في زمن النظام السابق، فاذا به يفاجأ بأن العراق أصبح كابوسا لا يحتمل بعد زوال الدكتاتورية اذ أصبح مستباحا لقوات الاحتلال الامريكية وأطراف داخلية متعددة جعلت من العراقيين أكبر جالية في العالم كما أصبحوا بسبب العنف الطائفي لاجئين في بلادهم.

ويقول الدراجي ان حياة الناس كلها تدور حول ثلاثة حروف تشكل كلمة حرب، فاذا حذف حرف الراء فهي حب، واذا حذف حرف الحاء تصير رب.. وبين هذه الحالات فالناس يعيشون حالة من الجنون.

وبدافع العشق للسينما والحياة يحاول الدراجي الحصول على تصاريح لتصوير فيلمه (أحلام) لكن عقبات كثيرة كانت في انتظاره منها رفض كثيرات القيام بدور البطولة خوفا من المسلحين الذين سيرون بالطبع سيارات التصوير في الشارع ولا يأمن أحد هجماتهم وزاد من صعوبة الامر أن البطلة تغتصب في أحد المشاهد.

لكن الممثلة أسيل عادل توافق على القيام بدور البطولة بشروط منها أن يقوم زوجها في الحياة بدور الرجل الذي يغتصبها في الفيلم وأن يشارك ابنها البالغ 18 شهرا في الفيلم أيضا.

ويتعرض فريق الفيلم للموت أثناء التصوير اذ تطلق عليهم نيران مجهولة كما تقوم مروحيات بالتحليق في الصحراء خارج مدينة بغداد حيث يصورون بعض المشاهد فيضطر المخرج لمخاطبة قائد الطائرة بأن يكتب فوق الرمال بحروف انجليزية كبيرة: عزيزي قائد الطائرة.. نحن مسالمون.. نصور فيلما عن العراق.. لا تطلقوا علينا النار.

كما يسجل الفيلم اللحظة العبثية التي يعيش فيها العراق حاليا ولا يعرف في دخان معاركها العدو من الصديق اذ يسخر الفيلم بمرارة من هذه الصورة الغائمة قائلا: الامريكان يستهدفوننا والامن الوطني (العراقي) يستهدفنا والمقاومة تستهدفنا. ولم يكونوا وحدهم المستهدفين بالفعل فالاحداث تجري على خلفية اختطاف العراقية الامريكية مرجريت حسن التي كانت تعمل مع احدى وكالات المساعدة الانسانية ولم تفلح محاولات انقاذها اذ تقتلها جماعات مسلحة بحجة أنها تعمل مع الامريكان، كما قال نزار وهو صديق للمخرج.

وكاد نزار يلقى المصير نفسه اذ يقول ان المختطفين طالبوه بالعمل معهم مقابل 300 دولار شهريا لانه يجيد التحدث بالانجليزية فيسأله المخرج.. لماذا لم تخبر الامريكيين؟ فيجيب ساخرا.. ان الامريكيين لا يستطيعون حماية أنفسهم.

ويتعرض المخرج الذي يحمل الجنسية الهولندية للاختطاف مع بعض مساعديه على يد مسلحين وبعد أيام يفرج عنهم وقد صودرت المعدات وأعيدت اليهم المادة المصورة بعد اتلاف جانب منها. ولا يتوقف الامر على ذلك وانما يخضعون للتحقيق أمام الامريكيين.

وبعد انتهاء أيام الرعب هذه يقول بشير أحد العاملين في الفيلم ان الحرب لا تدور في ميادين القتال وانما في العقول والقلوب.

وكانت مصائر فريق الفيلم من ممثلين ومصورين مأساوية.. فالدراجي فقد أخوه الذي تعرض للقتل وبشير أصبح لاجئا في وطنه بسبب العنف الطائفي، والممثل بشار قتل قبل عرض الفيلم بسبب العنف الطائفي، ومنتظر منتج الفيلم تلقى علاجا نفسيا.

وينتهي الفيلم بتسجيل أن 30 في المئة من العراقيين هربوا من العراق طلبا للامان، كما أصبح كثيرون لاجئين في وطنهم، ليبقى سؤال الفيلم مطروحا.. من المسؤول؟ ولماذا بعد أن ظنوا أن مشكلات بلادهم ستنتهي بزوال الدكتاتورية فاذا بالبلاد تتحول الى ساحات حرب؟

فقراء العراق وحياتهم المرتهنة بمكب النفايات

مع خيوط الفجر الأولى تنسل أم فارس مع ابنتها ذات الثلاثة عشر ربيعا لتوجه بيديها عربتها التي يجرها حمار صغير، إلى حيث مجمعات النفايات ليلتقطا بكفيهما المستورة بقفازات سود متآكلة الأطراف ما يمكنهما الاستفادة منه، لكن عملها هذا ينطوي على مخاطر مختلفة صحية وأمنية كما يرى زميل لها.

وتقول أم فارس إن عليها أن تبكر كي تسبق سيارات جمع القمامة التابعة لأمانة بغداد، ومركبات حمل المقاولين المتعاقدين معها، كما إن عليها أن تسبق غيرها للفوز بكمية أو نوعية أفضل مثل علب المشروبات الغازية الفارغة وعلب الأغذية والحليب والمواد المعلبة الأخرى، وإذا حالفها الحظ فقد تجد بعض الملابس والأحذية التي يمكن استخدامها ثانية.

واضطرت ابنتها هدى إلى ترك مقاعد الدراسة بعد أن تعلمت القراءة والكتابة فقط لترافق والدتها كل يوم للبحث في أكوام النفايات بالمناطق السكنية.

وأم فارس واحدة من بين آلاف المواطنين الذين امتهنوا هذا العمل في معظم المحافظات العراقية، وتزايد عددهم بشكل كبير بعد الضائقة الاقتصادية وزيادة معدلات البطالة وتدني سعر صرف الدينار العراقي مقابل العملات الأخرى بشكل غير مسبوق، التي نجمت عن الحظر الدولي عام 1990 وما تلاه من تداعيات انتهت بالاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. ولا تتوفر إحصاءات رسمية أو شبه رسمية عن أعداد هذه الشريحة.

ويرى أبو مرتضى الذي يسكن حي المعامل الواقع في الأطراف الشرقية لبغداد حيث تتركز النسبة الأكبر من الباحثين عن مخلفات النفايات المفيدة (يطلق عليهم في اللهجة العامية العراقية اسم: الدوارة) أن : عملي يجابه من الناس بنظرة دونية أحسها وأبصرها في عيونهم، ويضيف، برغم من تلك النظرة لم أفكر يوما بترك هذه المهنة التي أعيل بها عائلتي منذ أواسط التسعينات حين كاد الجوع أن يحولني إلى لص أو متسول، معتبرا مهنته أهون الشرين. بحسب أصوات العراق.

ويلخص أبو مرتضى مصاعب عمله بـ: خطر التعرض للعبوات الناسفة حيث يفضل المسلحون زرعها وسط أكوام القمامة، إضافة إلى العمل في بيئة تحمل الكثير من الروائح النتنة المنبعثة من أكوام القمامة المتفسخة التي تهددنا بالإصابة بإمراض عديدة ناهيك عن التعرض إلى مشاكسات ومشاكل من يعملون معنا في نفس المجال من مناطق أخرى.

أما ساهرة محمد من سكنة مدينة الصدر، فقد ارتبط عملها بهذه المهنة بعد وفاة زوجها العامل البسيط اثر انفجار عبوة ناسفة في المسطر (مكان تجمع العمال) الذي ينتظر فيه رزقه، ونصحتها بهذا العمل، كما تقول، عائلة مجاورة تعمل بنفس المهنة، وتتابع بالقول: لا اعرف ما كان سيكون عليه حالي وأبنائي الأربعة لو لم تدلني تلك العائلة على هذا العمل فهو أفضل من التسول على الرغم من أن المجتمع لا يقدره ويعتبرنا عالة عليه.

وتضيف، اصطحب معي ولدي البكر الذي ترك مقاعد الدراسة، فيما يبقى الثلاثة الصغار في البيت، وهي ترى أن المورد الذي يوفره العمل جيد ويكفينا ذل السؤال، حيث نجمع المواد البلاستيكية وعلب المشروبات الغازية الفارغة ليشتريها منا متعهد بسعر إلفي دينار للكيلو الواحد، مشيرة إلى أن المعامل تأخذها منا بضعف السعر، إلا أنها بعيدة عن مناطق سكننا، الأمر الذي سيكلفنا في حالة نقلنا لها مبالغ كبيرة.

ويتحدث كامل عبد الله (17 عاما) عن مشهد ما زال يقلق نومه ويقض مضجعه إذ نزل مجموعة من المسلحين من سيارات في وقت مبكر أواسط العام 2006 ثم قاموا بقتل ثلاثة من أصدقائي الدوارة، ويضيف عبد الله: كان ذلك بعد أن بدأت الأوضاع الأمنية بالتدهور في منطقة الدورة التي تقع جنوبي بغداد، الأمر الذي حدا به إلى ترك مهنة الدوارة والعمل في ورشة حدادة فترة من الزمن. إلا إن تحسن الأوضاع الأمنية في اغلب مناطق العاصمة مؤخرا شجعه على العودة للعمل في مهنة الدوارة.

وعن طريقة العمل يقول عبد الله إنه يتم تقسيم المناطق بين الدوارة المتواجدين في نفس المكان، ولا يجوز لأي شخص التجاوز على حق الآخرين، ومناطقهم بعد التقسيم، أما تصريف المواد فيتم عن طريق بيعها إلى المتعهد، الذي يشتريها منا بأسعار منخفضة ويبيعها بضعف ثمنها أو أكثر، معللا رضوخهم لذلك بأنه أمر متفق عليه فلكل مهنة أعراف يجب أن يتم التقيد بها وإلا مصيرك أن تطرد منها.

ويرى عبد الله انه قد يكون للمتعهد شخص آخر اكبر منه، فالمهنة أصبحت تجارة لها سوق كبير ورائج.

أما الجهات التي تقبل على شراء تلك المخلفات من المتعهدين فهي كما يقول منذر كريم (15 سنة) فتتركز في المعامل الأهلية التي تعمل على إعادة تصنيع المواد البلاستيكية مثل معامل صناعة خراطيم المياه أو إعادة تصنيع الأواني المصنوعة من الألمنيوم في مناطق مختلفة من بغداد مثل أبو غريب والكاظمية (غربي بغداد) والحبيبية (شرقي بغداد).

وتلاقي مهنة جمع النفايات منافسة حادة بين الدوارة وعمال النظافة التابعين لأمانة بغداد بحسب ما يرويه الدوار الخمسيني أبو ياسين حيث يلاحظ أن بعض عمال النظافة في أمانة بغداد الذين يعملون بنظام اليومية كانوا من الدوارة أصلا. إلا أنهم تحولوا إلى عمال اثر تقديمهم لطلبات عمل باجر يومي بسبب النقص الكبير الذي واجهته الأمانة بعد أن انتشر زرع العبوات الناسفة بين أكياس القمامة. الأمر الذي أدى إلى ترك الكثير منهم العمل وتحول الدوارة إلى عمال نظافة.

ويقول عامل النظافة حيدر فاضل إنهم يبحثون أيضا في القمامة التي يجمعونها من المنازل عن مواد صالحة للبيع فضلا عن مزاولة أعمالهم مع الأمانة، ويضيف: آخر النهار وعند انتهاء الدوام الرسمي نفرز المواد التي نجمعها عن غيرها في أكياس كبيرة ونبيعها بالسوق مما يشكل دخلا إضافيا إلى رواتبنا المتواضعة التي نتقاضاها من أمانة بغداد.

ويقول عن عمل القمامة إنه: تجارة كبيرة ورائجة قد تتحول أحيانا إلى مزايدات على هذه القمامة حيث تشترى حمولة السيارة دفعة واحدة نظير إلقائها في مكان معين.

بينما يعرب أبو رياض سائق إحدى سيارات جمع النفايات عن استيائه مما يقوم به الدوارة من بعثرة لمحتويات الأكياس البلاستيكية المخصصة لإلقاء النفايات بحثا عن مواد يستفيدون منها في عملهم الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل عملنا، لأننا نحتاج إلى وقت إضافي لجمع ما لم يأخذه الدوار من المكان ويصر على انه من الأفضل للجميع أن ينتظر في المكبات الرئيسية الواقعة على الإطراف الشرقية للعاصمة.

بينما يقول (أبو نهلة) وهو في أواسط عقده الرابع إنه يجمع عبوات المشروبات الغازية الفارغة التي تكثر في فترة الصيف بسبب ارتفاع درجات الحرارة حيث يزداد سعرها ويكثر الطلب عليها من قبل معامل إعادة تصنيع الحديد في الحبيبية أو الباب الشرقي.

ويقول أبو نهلة إنها مهنة مربحة فأنا أبيع الكيلو من معدن هذه العلب بمبلغ أربعة آلاف دينار ويصل مبلغ ما اجمعه يوميا إلى أكثر من خمسة وعشرين إلف دينار (نحو 20 دولارا)، حيث أن وزنها الخفيف يساعد الكثيرين على حملها بسهولة والمنافس الوحيد لتلك العلب هو النايلون أو البلاستك فهو متواجد بكثرة وسعره مرتفع والطلب عليه لا ينقطع مثل علب المشروبات الغازية المحدد وقته بالصيف غالبا.

ويرى الباحث الاجتماعي فارس العبيدي أن مهنة الدوارة توسعت ونشطت خلال سنوات الحصار ولم تتوقف حتى الآن. وان أهم أسباب بروزها توقف استيراد بعض الأساسيات والمواد الأولية الداخلة في كثير من الصناعات المحلية.

وينوه الباحث إلى إن تلك المهنة ارتبطت بشكل واضح بالمعامل الأهلية والورش المنزلية التي تستقبل المواد الملتقطة من القمامة وتستفيد منها في تمرير عمليات الغش فأصبحت أشبه بالشبكة العنكبوتية، معتبرا أن أساس نشاطاتها ينبع من حالة عدم الاستقرار في الاقتصاد العراقي خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي.

وعلى الرغم من أن العبيدي يعترف أن هذا النشاط تقلص كثيرا بعد انهيار النظام السابق بسبب حرية الاستيراد وتوفر المواد الأولية ودخول سلع تنافسية إلى السوق العراقية، إلا انه يرى أن ارتفاع الأسعار يهدد باتساع هذه المهنة حيث أنها ترتبط ارتباطاً جدلياً بالوضع الاقتصادي للبلد، فهي تضمر إذا نشطت الفعاليات الاقتصادية وتوفرت فرص أفضل للعمل والعكس صحيح.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء  6/تموز/2008 - 4/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م