أية سياسة نريد في واقعنا الراهن؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

حساسيات وتخوين وانعدام ثقة وانفعالات فردانية ذاتية فيما يخص أمور موضوعية؛ كل هذا يجري في خلفية بعض مظاهر العلاقات بين شخصيات فاعلة وكذلك قوى وأحزاب وحركات سياسية. وقد يكون بعض هذا عائد إلى ضعف في إدارة العلاقات أو تراجع في حال الثقة بين بعض أطراف تلك العلاقات.. ولكن الحقيقة لا تغادر حدود اندفاع [البعض] باتجاه محاولة تحقيق أوسع المكاسب في إطار خطاب المحاصصات وتقاسم النفوذ ومراكزه بل ونواحيه وأطرافه وهوامشه...

ففي ظل حال من لغة حصتي وحصتك لا يمكننا إلا أن نتوقع احتكاكات في أية لحظة تتطلب ظهور متغيرات تتبع الحراك في المشهد العام وتفاصيله... إذ أن الأمور ما بقي فيها ما يحتمل التقسيم مثلما استنفدت تلك القوى جميع مفردات بل تفاصيل الحصص ولا يمكن والحال هذه أن تجري إعادة تقسيم الحصص من دون جلبة وانفعالات وفي أفضل الأحوال حوارات من المربع الأول لا تقبل خسارة كسرة من خبزة المحاصصة لأن أصل هذه السياسية (سياسة المحاصصة) يرتكز على طلب المزيد وهو ما لا يأتي إلا من حصة الآخر...

وفي ظل التقسيم القومي والطائفي لا وجود لتقسيمات أخرى وإن مثَّلت الواقع وجوهره فهي منفية ملغية ودخولها على الخط يعني أما إعادة تقسيم الحصص بفقدان مفردات من كل فريق لصالح الفريق الجديد وهو أمر غير سهل وصعب البلع أو استبدال فكرة المحاصصة نفسها والعمل بسياقات جديدة هي السياقات الوطنية التي لا ترى إلا واجب تعزيز حصة الشعب عبر منافذ القوى المخلصة المؤمنة بأن كل ما موجود هو حصة واحدة هي حصة الوطن الواحد والشعب الواحد... وأن الثروة والمسؤوليات والمناصب هي حق الشعب الذي تتصدى القوى الوطنية النبيلة لخدمته وأداء الواجب تجاهه...

وهكذا فنحن في الوسط الشعبي لا نرى ضرورة لانزعاج مسؤول أو تهديد طرف سياسي لآخر إلا بمقدار تعبيره عن رؤيته لحل إشكالية أو معالجة مشكلة بآليات العمل المؤسساتي في خيمة البرلمان الملتزم بالدستور وبمبادئ التوافقات الوطنية التي فرضتها طبيعة المرحلة من نمط أدوار العمل الوظيفي للمجلس السياسي الوطني ولهيأة الرئاسة ولقيادات الأحزاب والقوى الوطنية.. وبالعودة إلى القضاء والمحكمة الدستورية في حال الخروج على مسارات العمل المنضبط الملتزم دستوريا وبالعودة إلى المفاوضات والحوارات المباشرة بشأن أي اختلاف...

وينبغي في مجمل الوضع تجاوز حالات الانفعال لدى شخصية أو أخرى والحدة في تصريحاتها أو تعاطيها مع قضية بعينها والتركيز على جوهر المطالب وما يكمن وراءها.. لكي لا نضيف لتعقيدات المرحلة أزمات أخرى. كما ينبغي أن نتعاطى مع لحظة الجلوس إلى طاولة الحوار وليس إلى التصريحات التي تنطلق لأسباب إعلامية منها أو أخرى سياسية  أو غيرها. إذ فقط على طاولة الحوار وفقط عندما نضع آراءنا وتصوراتنا ومقترحاتنا على الورق يكون الأمر أهدأ وأكثر موضوعية وعقلانية...

إنني شخصيا في وقت أعترض على ظاهرة التصريحات الإعلامية الحادة أو المنفعلة فإنني لا أجدها تمثل مشكلة معقدة ولا أجدها جزءا من المشكلات التي نحن بمواجهتها... وعليه فإنه من العادي ألا نلتفت إلى ذاك الاحتدام الطارئ حتى أنَّ كثيرا مما يصب الزيت في الإعلام يأتي من محيط أبواق وأقلام النفاق والرياء وحال البيع والشراء وكثرما صرنا نجد هذا في زمن تشييء الأمور وتسويق الماديات على حساب المبادئ والقيم كما وفَّر الأنترنت وانفلات ظهور الصحف والفضائيات بلا شروط مهنية دخول الطارئين الذين يكتبون ويصرحون بلا خبرة ولا معرفة سوى معرفة إعادة إنتاج الجهل والتخلف القائمة على أنصاف المعلومات والمعارف المشوهة..

ألا ترون أنكم تُصدَمون بأصوات محللين سياسيين كل ما يملكونه أسماءهم التي نمقتها لهم جهات أو مواقع ألكترونية أو صحف رأسمالها الفلوس والفضائح؟ وأكثر من ذلك ألا تصدمكم شخوص تسنمت مناصبها بناء على شهادات مشتراة من سوق مريدي وأشباهه؟ وليس بعد هذا أن تلتفت إلى [ترهات]  ما يكتبه الطبالون والمنافقون ولا إلى تصريحات سوقة وأبواق ولكن عليك وعلينا أن نلتفت إلى القيادات الوطنية المسؤولة وإلى الأحزاب والحركات السياسية بوصفها مؤسسات تمثل جموع فئات شعبية وبالعودة إلى برامجها وقيمها وتاريخها ومستهدفاتها البعيدة..

هنا فقط نضع الثقل في الحوار الهادئ الموضوعي ونرتقي به إلى مصاف تمثيل مطالب الناس ونؤكد على حصتهم في الحياة الحرة الكريمة بكامل حقوقهم الإنسانية الفردية والجمعية...

ولمن يرى أن الأمور تمضي بناء على وجود كل حزب وحركة وعلى ثقلهما ينبغي له أن يؤمن بمنطق عقلي تنويري في التناول والمعالجة ولمن يرى أن الأمور تحكمها شروط موضوعية وأخرى ذاتية ينبغي له أن يتحدث في ضوء برامج تكون قد درست الواقع في مراكز للبحوث وبوساطة شخصيات وطنية وعقول مهنية محترفة من التكنوقراط ومن المتخصصين والأكاديميين وذوي الخبرات... وإمعانا في تبني هذه الرؤية ينبغي أن تُعرض تلك البرامج للتصويت على ما تحظى به من أغلبية بعد مفاعلة بعضها ببعض والخروج بالقواسم المتوافق عليها في ظل هدف أفضل منجز لأفضل حصة سيمتلكها الناس...

وعندما تكون الأمور سائرة في ضوء البرامج والدراسات وفي ضوء احترام القانون وتبادل الاحترام بين الرؤى جميعا وفي ضوء العدل والمساواة في حرية التعبير حينها لا مكان لا للمحاصصة ولا للانفعالات الفردانية ولا للتقاطعات ولا للتهديد والتهديد المضاد أو الابتزاز ولن يكون مجال للإقفال على أهداف حزبية أو حركية أو فئوية أو جهوية قومية أو طائفية مهما كان موضعها وأهميتها لأن البديل ليس حصة حزبية أو فئوية أو قومية أو طائفية لجهة مساوية أخرى بل البديل يكمن في القواسم المشتركة التي تعود على عموم الشعب بكل مكوناته وأطيافه ومن ثمَّ بالتأكيد ستعود على كل مكون أو طيف على حدة أو على انفراد...

أما حال التهشيم والتمزيق والتقسيم ولكل حصته فإن ذلك في وقت يحرم الآخر من تلك الحصة فإنَّه لا يعود بخير وفير على كاسب الحصة  نفسه ومع الأيام سيخسر الجميع كلَّ شيء وسيضيع وجودهم نهائيا ويمحون من الخارطة..

أما ونحن نتحدث عن قضايا وطنية فلا أظن أن أحدا يقبل بتضييع مستقبله مقابل حصة هزيلة ليومه باستثناء الشخوص المريضة التي أشرنا لضرورة تجنب أقاويلها وتصريحاتها المرضية التي تنبع من طبيعتها لا من طبيعة قوانا الوطنية كافة... ولا ينبغي تشييء تلك القضايا الوطنية المهمة وجعلها مجرد حصص للتنازع عليها إذ يلزم أن نرتقي لواجب المسؤولية ونغير من خطاباتنا ونلج الحل الأنضج الممثل في الحوار الوطني والمصالحة الوطنية القائمة على قبول الآخر واحترامه وعلى سحب الشروط المسبقة واعتماد استفتاء رأي الناس في القضايا الخلافية بعد توفير الضمانات الحقة لتعبيرهم عن أصواتهم... 

ومبدئيا يلزم وقف لغة التخوين ووضع العقد في المنشار ووقف كل تلك المطاردات الكلامية التي تتصيد في المياه العكرة حيث يجري تهييج الأجواء وافتعال صراعات بين أطياف الشعب في ضوء تصريح لفرد أو آخر أو حتى تقويله أو تأويل كلامه بما يتسق وتلك التوريطات المقصودة والمختلقة.. فهذا يهاجم الكورد عن بكرة أبيهم لأنه سمع تصريحا مؤوَّلا أو لأنه وجد في بيان ما لا يلائم تصوره وكأن الكورد شعبا كاملا مختزلا في تصريح شخص أو بيان حزب ويلغي المتقصِّد المعني كل تاريخ النضال الوطني والقومي والإنساني ويلغي كل الشروط الموضوعية لحركة الحياة ويضعها حسب اختزالاته وحساباته الدعية مقيدة بتصريح أو بيان حتى لو كان الأمر في برنامج عمل استراتيجي بالفعل يخطئ في تقديراته فإن مثل هذه الحسابات لا يمكن قبولها بالمرة...

ومثل هذا ينطبق على الكلدان الآشوريين السريان وعلى التركمان وعلى مجموع الحركات السياسية من اليمين أو اليسار.. حيث لا يجوز قبول حال اختزالهم ومصادرتهم واعتماد التأويل والاتهامات وتجيير أو انتهاز فرصة تصريح منفعل أو آخر...

إذ يبقى الشعب وتبقى المجموعة القومية أو الدينية أو المذهبية جهة عليا لا تُختزل بحزب أو قيادة أو شخصية، فما بالنا عندما يجري الاختزال بحضيض التقدير ورخيصه يوم يتصارع جاهلان كل منهما يدعي تمثيل جهة شعبية وهما لا يرتقيان لتمثيل أنفسهما من دون محام أو خبير أو متخصص... وهنا أؤكد مجددا على وجوب وقف النظر في تلك الكتابات والأصوات التي يطلقها إعلام أجوف بلا دراية ولا معرفة والانصراف إلى مجموع قوانا الوطنية وشخصياتنا من الثقاة وهؤلاء مهما صدر عنهم فإنه يبقى في إطار نبل التوجهات والمقاصد وما يقع في خير المسيرة..

ولي في هذا المجال أن أتحدث عن نموذج جرى في المدة الأخيرة ذلك المتعلق بقانون انتخابات مجالس المحافظات وهو ما ينبغي فيه أن نعود إلى جملة التوافقات والقبول بسلطة الهيئات السياسية الوطنية بحدود الصلاحيات الممنوحة لها دستوريا وقانونيا ووقف التعرض لها من بوابات تضخيم الأمور ومدخلاتها المفبركة بقصدية تبرير رؤية قاصرة.. وعلى سبيل المثال الحديث عن حجم صلاحية هيأة الرئاسة والمجلس السياسي الوطني في رد بعض القوانين للمراجعة ولمزيد من الدراسة المتأنية ..

إن هذه الصلاحية تظل في هذه المرحلة ضرورة لتجاوز أخطاء كما تلك التي جرت في تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات بتصويت لم يلتزم الأسلوب المشخص دستوريا ولكن الأبعد في الأمر هو تضمن القانون المُمرَّر مفردات غير موضوعية من مثل الصيغة التي تعالج قضية رفع الشعارات والصور أو الرموز الدينية.. ولعل موقف مجلس الرئاسة هنا أكثر تقدما  وصحة لمستقبلنا ومجتمعنا من ذلكم الذي تم تمريره وعلينا أن نكون من الدقة بمكان لنتجنب الرجم في غير حق... واسمحوا لي أن أعترض على حال من وقوف [البعض] حيثما تبرر المواقف ذرائع غير موضوعية...

كالتصريح الذي يحتج على حجم سلطة هيأة الرئاسة بمواجهة ممثلي الشعب والأمر ليس كذلك بدليل أن رد القانون جرى على وفق القوانين المرعية من جهة وعلى وفق المبادئ التي تحكم مسار العملية السياسية في هذه المرحلة والهيآت العاملة فيها.. وأن رد القانون لا يعني سوى مزيد من الدراسة والتعمق لمصلحة تسيير الأمور بأفضلية تناسب البحث عن حل في وقت كان سيعني ترك الطبخة المستعجلة للقانون المعني مزيدا من التعقيدات... وعليه فإن هذا الرأي مردود شكلا وموضوعا كما يقول القانونيون...

ومن المفيد كخلاصة أن نبحث في لغة للتسامح والتصالح وفي خطاب للتفاعل والتكاتف وفي مسار للبناء والتقدم وليدافع كل منا عن حق الآخر في التعبير عن رأيه في مرحلة فيها الكثير مما يدخل في التمرينات على ممارسة آليات الديموقراطية ومن حقك أن تعترض وتقدم البديل وتناقش وتحاور ولكنك تستطيع أداء ذلك من دون تهديد أو ابتزاز أو قبول لتأويل يمهد لاتهام ولافتعال يشحن الأجواء..

ولنتذكر أن زمن سرقة حقوق الشعوب قد ولى إلى غير رجعة وليكن مبدأنا في التعاطي مع واقعنا هو تقديس تعددية التركيبة التي يتكون منها مجتمعنا واحترام الآخر وصوته والاستماع بل الإصغاء إليه حتى يكمل إيصال ما يريد من برامج وأهداف وقبول دراسة تلك البرامج وبالتأكيد تبنيها في حال كونها الأنضج بإقرار الخبراء والمتخصصين مخرجين هنا  العناصر المرضية ومتعاطين مع جوهر الإيجاب من خطاب المخلصين.. ولنتذكر أن فدرالية كوردستان وحقوق جميع الأطياف والمجموعات القومية والدينية العراقية هي ثابت مقدس لا يمكن المساس به وأن الديموقراطية ثابت لا يقبل المداهنة والمماحكات من أي طرف مثلما يسمح للجميع بحرية التعبير وأخذ الحقوق عبر آليات الديموقراطية وليس خارجها...

فلنعد جميعا إلى طاولة الوطن والشعب فقد ولت أيضا الوصاية والتمثيل الأوحد والأبدي وولى زمن القائد الضرورة والقائد الرمز فالعراق الجديد في وقت نزعم دخوله طريق التوجه نحو آليات الديموقراطية هو أيضا عراق التداولية ومن يفشل اليوم في تحقيق الحلول الناجعة فينبغي أن يأتي غيره وليس بالضرورة أن ننتظر انتهاء الدورة الانتخابية... والعبرة دوما لمن اعتبر.

* باحث أكاديمي في الشؤون السياسية \ ناشط في حقوق الإنسان

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء  5/تموز/2008 - 3/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م