العودة إلى خانة التطرف

أحمد شهاب

الحركات الإسلامية المعتدلة أو التي تبنت خط الاعتدال في السنوات الأخيرة، وتخلت عن فكر العنف وسلوكيات التطرف، مطالبة بأن تدعم نهج الاعتدال بخطوات جريئة تضمن عدم العودة إلى دائرة العنف مرة أخرى، فليس كافيا أن تكون الحركة الإسلامية معتدلة وتتبنى أفكارا وسطية وسلمية بعيدة عن التطرف والتشنج، وإنما هي معنية أيضا بالإجابة على سؤال الحداثة، إذا أراد أبناء الحركة أن يساهموا في التطوير الثقافي والسوسيولوجي لمجتمعاتهم.

ذلك أن الإجابة على سؤال الحداثة يعتبر الممر الطبيعي لعبور مرحلة الحيرة التي يقع فيها الإسلاميون كلما طرحت قضايا وتحديات جديدة أمامهم، مثل قضايا الوطنية والمواطنة، أو مشاركة المرأة السياسية والاجتماعية، أو حرية الرأي والإبداع، كما أنها المدخل الملائم لعقد مصالحة حقيقية بين الفرد المسلم وواقعه الاجتماعي والسياسي والثقافي، والمصالحة لا تعني القبول والانصياع للأمر الواقع، وإنما تعني القدرة على قراءة الواقع والتعاطي معه ضمن رؤية واضحة ومحددة سلفا، ذلك أن حالة الحيرة تُعد مدخلا لعودة الإسلاميين إلى ممارسة العنف تحت مبررات جديدة.

فعند كل قضية جديدة تُظهر العديد من الجماعات الإسلامية حالة من القلق والتردد بين قبول ذلك الكائن أو الفكرة الجديدة وبين رفضها، وإن كانت إلى الرفض والتمنع عن القبول أقرب، لكن مع فرض الأمر الواقع يبدأ بعضهم بالتأقلم مع القضايا الجديدة وعدم التحسس الشديد منها، فيرفضونها نظريا ويقبلونها عمليا، وبعد سنوات تبدأ الاجتهادات الفكرية والدينية تقدم مساهماتها نحو المواءمة بين الفكرة الطارئة والواقع السائد، والسعي نحو تسويغها شرعيا وثقافيا في أوساط الإسلاميين أو جزء منهم، حتى يتم قبولها تماما.

ربما أقرب مثال هو نظرة الجماعات الإسلامية في الكويت لمسألة مشاركة المرأة السياسية، فهو مثال جلي على حالة الحيرة التي عانت منها العديد من الحركات الإسلامية لفترة طويلة، فالموقف المبدئي للعديد من الجماعات الإسلامية اتجه إلى إعلان الرفض التام لمشاركة المرأة السياسية، واعتبار عضوية البرلمان فرعا من «الولاية العامة» التي لا يجوز إيكالها إلى المرأة، وعزف أكثر الإسلاميين عن التصويت لإقرار القانون، واعتبروا أن العمل على إشراك المرأة في الساحة السياسية يُعد تجاوزا للحكم الشرعي، ومدخلا للفساد الأخلاقي، وما هو إلا نتيجة لضغوط خارجية على دولة الكويت.

وبعد حزم الحكومة وإصرارها على إقرار حقوق المرأة السياسية، مال بعضهم إلى القبول الجزئي بمشاركتها، فتحدثوا عن تأييدهم لحق المرأة في الانتخاب دون الترشيح، وتركت بعض الجماعات الباب مفتوحا أمام نوابها للتصويت مع أو ضد دون أن يُحسم الرأي الفقهي نهائيا نحو السماح للمرأة بالمشاركة السياسية من عدمه، كما عارضوا مسألة اختيار المرأة وزيرا في الحكومة، لكنهم في كل الأحوال لم يوفروا جهدا بعد إقرار الحقوق لكسب صوت المرأة لدعم الإسلاميين الذكور، ورغم أن بعضهم اعترف بحق المرأة السياسي بعد إقراره رسميا، إلا إن البعض الآخر لايزال ينكر على المرأة الحق في المشاركة، رغم أنه وصل البرلمان عن طريق ورقتها الانتخابية.

وربما لاحظ المتتبع للساحة الانتخابية كيف أن الجماعات الإسلامية بجميع تقسيماتها وتفريعاتها السنية والشيعية، لم تتجرأ في تبني امرأة كمرشحة عن الجماعة، كما عزفت جميع التيارات الإسلامية، المتشددة منها والمعتدلة، المناهضة لحقوق المرأة والمؤيدة، عن دعمها لأسماء وشخصيات نسائية، رغم أن جميع التيارات الإسلامية استخدمت ورقة المرأة ووصلت عن طريقها للبرلمان.

وفق الرؤية التحليلية السابقة لطبيعة تعاطي الإسلاميين المرتبكة مع المستجدات، فمن المؤكد أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تسويات فقهية وفكرية وسياسية لمسألة مشاركة المرأة، ولا شك أن ثمة جماعات ستتبنى أسماء نسائية في قوائمها الانتخابية القادمة، لأن المرحلة القادمة تُعد المرحلة الأخيرة من مراحل الحيرة، وهي بداية تقبل الأمر الواقع والتعامل مع تسويغاته الشرعية والثقافية، والتسليم والتعايش مع الثقافة السائدة.

لكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فالحرب التي كان يشنها التيار الإسلامي ضد المستجدات، والتعبئة الحركية العامة وتغذية الكوادر ضد القضايا والأفكار الجديدة، لا يمكن شطبها من ذاكرة الأفراد بقرار حركي، وسوف يظل الكثير منهم يعيش حالة من الإرباك والتعارض الداخلي تجاه طريقة التعاطي مع المسائل الجديدة، قبل تبريرها فقهيا وحركيا وبعد التبرير، ومن شأن ذلك التعارض أن ينتهي إلى ضبابية الهوية الذاتية للمسلم داخل مجتمعه، وضبابية الهوية تعني شعور الفرد بحالة من الاغتراب النفسي والاجتماعي العميق، مما يؤدي في كثير من الحالات إلى خروج الفرد على المجتمع، وربما الحكم بجاهليته والجرأة على تكفيره.

لأن الفرد في هذه المرحلة يشعر بنوع من الانفصام السلوكي بين ما يريده الدين وما يتطلبه الواقع السياسي والاجتماعي، وغالبا ما يكون ذلك سببا في تأزم الفرد داخليا، وإخراجه من مرحلة الاعتدال وتفهم الواقع إلى مرحلة التطرف ومعاداة الواقع.

فالاعتدال ليس حصنا للفرد أو الجماعة، ولا يوجد ضامن من استمرار نهج الاعتدال داخل الحركة الإسلامية إذا لم تبادر الحركة الإسلامية بدعمه وبجهود فكرية جادة ومثابرة، وإن كانت الحركات الإسلامية قد نجحت في تقديم نفسها سياسيا إلا أنها عجزت عن تقديم مشروعها الفكري الذي يحاكي المستجدات المعاصرة، وإذا استطاع الإسلاميون أن يحققوا إنجازات ملموسة على مستوى المشاركة في السلطة، إلا أن المادة الثقافية التي يقدمونها اتسمت بالتقليدية، ونتلمس ذلك واضحا في تجربة الحركة الدستورية «حدس»، فقد استطاعت الجماعة الأكثر تنظيما في الكويت اقتناص عدد مهم من المقاعد البرلمانية ومقعد أثير في الحكومة، وتعتبر ولازالت من أكثر الجماعات حراكا وحيوية في الحياة السياسية، لكنها رغم كل هذا الحضور اتصفت أطروحات قياداتها الفكرية والفقهية بالكثير من التقليدية والجمود، وقس على هذا النموذج جميع التيارات والكتل الإسلامية في الكويت، وربما ينطبق ذلك إلى حد ما على معظم الحركات الإسلامية في العالم العربي.

وأخشى إذا لم يتنبه الإسلاميون إلى تلك المساحات الفكرية الفارغة، ولم يبدؤوا بملاحقة الواقع بمبادرات فكرية خلاقة تحتضن تلك المتغيرات، وتحاكي المستجدات الفكرية والقضايا المعاصرة بأناة وهدوء وجدية، أن يتحول الاعتدال الذي يفاخرون به إلى تشدد، والعمل السلمي إلى تطرف، وهي تحولات مبررة في نظر الإسلاميين، لكنها بالنتيجة تعيدهم إلى خانة الصراع السياسي والاجتماعي، وتعيد التقدم السياسي في البلاد إلى خانة الصفر.

* كاتب كويتي

ahmed.shehab@awan.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء  30/تموز/2008 - 26/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م