طُلب مني أن أكتب فصلا في كتاب عنوانه (صدمة التاريخ) يتناول
تاريخ العراق من عهد الإمام علي إلى العهد العثماني.
لم أتمكن من الحصول على مصادر عن العصر العثماني في أغلب مكتبات
المنصورة وأخيرا ذهبت للمكتبة التابعة للجماعة الوحيدة التي والتي...
والتي!!.
سألت عن الموضوع المطلوب فقيل لي يوجد كتب لفلان, قلت أريد كتبا
تراثية تحكي التاريخ كما هو فكان الرد هذا هو الموجود.
تصفحت العناوين فوجدتها كلها تدور حول: نفض الغبار عن أمجاد
الأتراك العثمانيين وأخطاء العلمانيين في حق خلفاء المسلمين
الديموقراطيين وضرورة العودة إلى الدين على يد إمام المجددين فضلا
عن درة الثقافة العربية المعاصرة كتاب (الحجاج الثقفي المفترى عليه)!!.
إنها إذا ثقافة (نفض الغبار ورفع القمامة) أما الكتب نفسها فهي
مجموعة من المقشات والمكانس البدائية مكونة من جزئين: الأول يستخدم
في جمع الغبار الذي يلقيه العلمانيون والرافضة على تراثنا المقدس
والحجاج المقدس والسلطان عبد الحميد المقدس والجزء الثاني هو العصا
والويل كل الويل لمن عصى!!.
إنها مقشة متعددة الأغراض!!.
لم أشتر شيئا إذ لا معنى لدفع أربعين جنيها في كتاب مهمته تنظيف
سيرة الحجاج وتطويبه قديسا (اضطرته بعض الظروف والملابسات لقتل
مئات الآلاف من الشيعة والخوارج وتنظيف الأرض منهم وهذا عمل يثاب
عليه الرجل في جنة الملوك والرؤساء), لا لشيء سوى وضعها وسط رصة
الكتب والقول (بص شوف بيقولوا إيه؟!).
خرجت من المكتبة مستحضرا قصة (بكيزة هانم الدرمللي) أرملة
العشماوي باشا وابنته الآنسة زغلول بعد أن مات الباشا ولم يترك
للمرأتين العاجزتين عن القيام بأي عمل نافع أو حتى إطعام نفسيهما
سوى قصر واسع مملوء بالتراب, بيع أغلب أثاثه, بينما يحمل الحائط
صورته التي تكشف عن وجه مظلم وعقل أكثر إظلاما لا يلمع فيها إلا
أنفه المتورم كاشفا عن عنجهية عريقة.
مات العشماوي باشا ولم يترك سوى التراب وقصرا يملأه التراب ولذا
واستكمالا لمسيرة المؤسس الفاشلة فليس لبكيزة هانم الدرمللي بنت
الأصول وربيبتها زغلول العاجزتين عن تحصيل لقمة العيش من همٍ إلا
نفض التراب, أما التعامل مع الواقع فهي مهمة لا يقدران عليها.
إنها إذا ثقافة الفوطة والمكنسة التي لا وظيفة لها إلا نفض
التراب عن صورة جدو الباشا وبقية أصحاب الأصول أما البحث في
القواعد والأصول فهذا شيء غير معقول ولا مقبول!!.
من بين إبداعات تلك الثقافة كتاب اسمه (صلاح الدين بين التاريخ
والأسطورة) صدر في العام 2007 حيث يقول المؤلف الدكتور: (دفعني
لتأليف هذه الدراسة ما لاحظته خلال الأعوام الأخيرة من ظهور دراسات
تميل إلى غير الموضوعية في عرض تاريخ الرجل صدرت من جانب بعض
الباحثين غير المتخصصين وهي دراسات تتراوح بين الإعجاب المفرط
والهجوم العنيف وبالتالي تأرجحت الموضوعية التاريخية الواجبة
والملزمة بين الفريقين).
ولأن الرجل لم يذكر أسماء هؤلاء الباحثين غير المتخصصين فنحن لن
نرد له التحية بذكر اسمه.
ثم يقول الدكتور المتخصص في غمرة إشادته بانقلاب يوسف بن أيوب
على الدولة الفاطمية (لا بد هنا من الإشارة إلى أن ذلك صاحبه ما
يمكن وصفه بكارثة ثقافية في صورة تبديد مكتبة القصر الفاطمي التي
يقال أنها احتوت على مليون وستمائة ألف كتاب منها مائة ألف مخطوط
منسوبة وهو رقم ضخم بكل المقاييس في عصر لم يعرف آلة الطباعة ولا
الكتابة الالكترونية وقد تم القضاء عليها وبيعت على الأرصفة بأرخص
الأسعار وقد اعتقد صلاح الدين الأيوبي أن تلك أفضل وسيلة للتخلص من
تراث أعدائه الفواطم بما فيه من فكر شيعي يخالف المعتقد السني غير
أن مثل تلك المكتبة الضخمة كان من الممكن التعامل معها بصورة أفضل
وأرقى مثل حصر ما فيها وفصل الصالح من الطالح من الكتب لا أن تبدد
على ذلك النحو خاصة أنها مثلت تراثا إنسانيا يصعب تقدير قيمته
العلمية). انتهى.
ونحن نقول للدكتور المتخصص: جزاكم الله يا أخي خير الجزاء على
ذلك الاقتراح العبقري الذي يكشف عن إيمان عميق بحرية البحث العلمي
وحق الوصول إلى المعلومات والتسامح مع المخالفين في المذهب ولكن
العقبة الوحيدة التي ستعترض تنفيذه هو أن مهمة تصفية المكتبة كانت
موكلة إلى الخصي التركي المبجل السيد بهاء الدين قراقوش الذي لم
يكن يعرف حرفا من العربية التي كتبت بها هذا الكتب.
ما لا يعرفه المثقفون من أشباه بكيزة وزغلول أن هذا التراث يملأ
الآن مكتبات أوربا وأن من يحتاج إليه عليه أن يشد الرحال إلى هناك.
عن أي تخصص يتحدث هؤلاء المبجلون إذا كانت هذه عقولهم وضمائرهم.
ليس هناك في التاريخ (يقال) ولا ما (ما يمكن وصفه) بل هناك
ذكروا ورووا (وما يتعين وصفه) ولو كان في وسع الدكتور المتخصص أن
ينفي فعليه أن ينفي ويذكر أدلة النفي أما أن يتحدث بصيغة (حدث ما
يمكن وصفه بكارثة ثقافية في صورة تبديد مكتبة القصر الفاطمي التي
يقال أنها احتوت على مليون وستمائة ألف كتاب) فهذا لا يعدو كونه
تلاعبا بالألفاظ ومحاولة باهتة وتافهة لتمييع الكارثة من خلال
استخدام تلك المصطلحات من قبل من يعتقد أن من الضروري إخلاء الساحة
له ولبقية فريق النظافة الذي يعمل على كنس التراب الذي يحاول
الهواة من أمثالنا إهالته على صورة جدو الباشا الذي ترك لنا القصر
فارغا تملأه الجرذان والتراب والخراب وهاهم أحفاده عاجزون عن تدبير
أمورهم والتعامل مع الواقع, خاصة وقد خرجت أغلب قياداتهم الفكرية
من سلاح المقشات.
هلا أخبرنا قائد سلاح المقشات عن عدد الكتب الموجودة الآن في
مكتبة الإسكندرية وهل بلغت هذا الرقم؟!.
لا أظن!!.
وهل كانت الكتب الموجودة في مكتبة القصر الفاطمي قبل ثمانمائة
عام كلها كتبا شيعية أم أن أغلبها كانت في الجغرافيا والطب
والهندسة والعهدة على أبو شامة المقدسي مؤرخ السيد صلاح الدين
الأيوبي؟!.
ما هو معنى التخصص؟!, إذا كان المتخصص لا يعرف دلالة الرقم
مليون وستمائة ألف وهل التخصص يمنح صاحبه عقلا وضميرا أم أن الهوى
شريك العمى؟!.
القضية
هذه المرة نحن لا نتحدث عن السيد صلاح بل عمن يدافعون عن جدو
الباشا بالحق والباطل وغالبا بالباطل!!.
800 عام لم تغير شيئا في عقول هؤلاء ولا في ضمائرهم وهم يعتقدون
بعد كل هذه القرون أن السيد صلاح لم يخطئ عندما دمر مكتبة القاهرة
وكل ما هنالك أنه كان يتعين عليه أن يستبقي جزءا ويدمر ما تبقى
منها!!.
إنه الخلاف حول مبدأ الدمار وهل يكون شاملا أم جزئيا حفاظا على
الصورة الديموقراطية لأمة يزعمون أنها كانت أنظف أمة أخرجت
للناس!!.
لا تعجبوا إذا عندما تسمعون كل صباح خبر مصادرة كتاب ولا
تتعجبوا عندما تعرفون أننا أصبحنا بفضل هؤلاء في ذيل الأمم المنتجة
للثقافة وإذا كان هذا هو حال المتخصصين فما بالك بالمرتزقة
والمهرجين فرسان الساحة ورجال كل العصور.
Arasem99@yahoo.com |