تنظيم الجهاد والجماعات الاسلامية وظاهرة التكفير

الجذور التأريخية لظاهرة التكفير

(3-3)

المحور الثالث: تنظيم الجهاد والجماعات الاسلامية وظاهرة التكفير

يرى جملة من الباحثين ان سبب نشوء هذه الجماعات (الجماعة الاسلامية وتنظيم الجهاد) باعتبارها اول مجاميع جهادية تأسست عام ١٩٦٧، اولاً: أثر كتابات سيد قطب التي أصل فيها لمفهوم الجهاد وخصوصاً قادة هذه الجماعة المتمثلة بـ (أيمن الظواهري) الذي يقول تأثرت بمشروع سيد قطب ووصفه بأنه مثل الطبيب الشرعي، الذي يشرح الجثة بمهنية وتقنية عالية وكأنه يعرفها بأدق تفاصيلها "، وثانياً: حادث الحكم بإعدام سيد قطب عام 1969 وقد ذكر منتصر الزيات في كتابه "أيمن الظواهري كما عرفته" ان الظواهري كون خليته السرية التي وصفت بتنظيم الجهاد و كان يتولى إمارة ذلك التنظيم وانه اضطلع بالاشراف الثقافي واعداد الاعضاء فكرياً من خلال توظيف الاحكام الشرعية لتكفير أنظمة الحكم ووجوب إزالتهم وقد اعتمد التيار على تأصيل أفكاره على تفسير سيد قطب لآيات الحكم والسياسية وخصوصاً تفسيره لقوله تعالى "ان الحكم الا لله" التي سبق وان تم معالجتها في بداية البحث وكذلك تفسير ابن كثير لآية "أفحكم الجاهلية يبغون" ومن هذا يتضح ان تنظيم الجهاد لم يكن له منظرين قعدوا له مفهوم الجهاد وانما اعتمد على آراء من سبق كما بَيّنا فإنه لم يكتب تأصيلاً فقهياً اوعقدياً يتضمن رؤية هذا التيار، بل وحتى في ترويج افكاره ونشرها كان يعتمد على كتب سيد قطب وابن تيمية وابن كثير وإعادة طبعها ثم توزيعها ، الى ان جاء محمد بن عبد السلام فرج أحد مؤسسي تنظيم الجهاد فزاوج بين الأفكار الجهادية والآراء المطروحة وبين أقوال العلماء وخصوصاً مايتعلق بأحكام الجهاد وصاغها بطريق تتناسب مع الوقت حسب رأيه، واصدرها في كتاب "الفريضة الغائبة" الذي يعتبر الرافد الفكري الاساسي لتنظيم الجهاد، الذي اعتمد عليه فيما بعد في كل عمليات العنف التي قام بها التنظيم و غيره، فهو منتشر في كل المواقع التي تتبنى الفكر التكفيري رغم إعدام كاتبه عام ١٩٨٢في قضية السادات وقد طرح فرج في كتابه.

اولاً: انتقد فرج اسقاط فريضة الجهاد وتجاهل علماء العصر لها، معلل ذلك بأن اقامة الدولة الاسلامية وإعادة الخلافة لاتتم الا بإسقاط طواغيت الأرض، ولا يتحقق بذلك الا بإحياء هذه الفريضة وقد إستدل ببعض الاحاديث والنصوص القرآنية كما في قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون) بالاضافةالى ما روي عن رسول الله (ص) في قوله "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لاشريك له ، وجعل الله رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" وأراد ان يؤكد من استدلاله بهذين النصين الى:

١. ان استشهاده بالآية "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ان تطبيق الشرع مرتبط بقيام الدولة الاسلامية ، لأن مالم يتم الواجب الا به فهو واجب.

٢. ان استدلاله بالنص المروي عن رسول الله (ص) فإنه اراد ان يؤكد على مشروعية القتال ووجوبه كما يبين ذلك في قوله ((وعلى ذلك فإذا كانت هذه الدولة لن تقوم إلا بقتال فقد وجب علينا القتال)) وقد اعاد احياء مايسمى بـ "بيعة الخلافة" بناءاً على هذه الرؤيا بعد ان  اورد الحديث "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية" وقد اعتبر حكام هذا العصر في ردة عن الاسلام وهم لايحملون من الاسلام سوى اسمائهم وقد بين ذلك في:

أ ـ ان الدولة التي نعيش فيها ليست بالدولة الاسلامية إذ ماهية الدولة التي نحن فيها فاقدة لشروط العمل بأحكام الاسلام، بل هي أقرب للكفر منها الى الاسلام لأن الدولة القائمة خاضعة لتشريعات وضعية وبالتالي فهي تحكم بأحكام الكفر وبالرغم من النصوص الدالة خلافه كما في قوله "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون".

ب ـ اما المجتمعات الاسلامية فيعتبرها حسب وصفه بأنها أشبه بـ " الطائفة الممتنعة" إذ يقول وقد اتفق علماء المسلمين على ان أي طائفة إن امتنعت عن بعض واجبات الاسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها وإن تكلمت بالشهادتين في الوقت الذي يرفض فكرة الإنشغال بطاعة الله وتربية المسلمين والاهتمام بالعبادة إذ يعتقد ان الجهاد مقدم على كل العبادات الاخرى بما فيها العلم إذ يقول ان الانشغال بطلب العلم عن فريضة الجهاد غير سليم، الى الحد الذي ضعف فيه الحديث الوارد عن رسول الله (ص) الذي يصف فيه جهاد النفس "بالجهاد الأكبر".

ثانياً: بناءاً على رؤيته في فريضة الجهاد ، يعتقد ان الاسلام لا يمكن ان ينتشر الا بحد السيف كما بدأ وهو يرد في ذلك على من يقسم الجهاد الى (جهاد دفع وجهاد طلب) إذ يعتقد ان الجهاد لم يشرع للدفاع فقط بل علينا رفع السيوف في وجوه من يخالفون شرع الله  على حد قوله.

يبدو من خلال ما تقدم من مجموعة الأدلة التي ساقها اتباع هذا التيار انها نتاج منظومة افكار بنيوية تراكمية افرزها الجذر التاريخي لمفهوم التكفير القائم على:

اولاً: توظيف النصوص الشرعية الدالة في ظاهرها على بعض الاحكام الشرعية وخصوصاً النصوص المتشابهة "حمالة اوجه" الدالة على أكثر من معنى كما في استدلاله بقوله تعالى "ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون" لإثبات مفهوم "الحاكمية الالهية" وقد وقفنا مع هذا الدليل في بداية البحث ، اما استدلاله بحديث واّية السيف ففيه نقول:

١. ان النص الاول قد ورد في سياق الحفاظ على بيضة الاسلام ونشر الدعوة الاسلامية على فرض صحة الحديث اولا ، وثانياً، لا يمكن حمل الحديث على اطلاقه من غير مراعاة للضوابط والنصوص الحاكمة عليه أو المقيدة له فضلاً عن تعارضها، كما في قوله تعالى "إدعوا الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" ، فإن قلت ان هذه الدعوة بين المسلمين قلنا هذا ترجيح بلا مرجح ، لان العلة من الدعوة هي إرشاد الخلق الى الإيمان بالله بعد بيان أحقية هذه الدعوه ثم ان سيوفكم لم تستثن المسلمين من لظاها، بعد ان انزلتهم منزلة المجتمعات المشركة المرتدة عن دينها!

٢. اما استدلاله بآية السيف التي جاء فيها "فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد" فإنها لم ترد في عموم المشركين وانما وردت في فئة خاصة او ما يسمون "بمشركين العرب" الذين نبذوا عهودهم كما وصفهم تعالى في نفس السورة "الا تقاتلون قوماً نكثوا ايمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم اول مرة" ولذلك فقد فرق القرآن الكريم في المعاملة بين هذه الفئة وعموم المشركين فضلا عن اهل الكتاب، كما ورد في قوله "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين"....الممتحنة ٨

ومن هذا النص يتضح ان الله سبحانه وتعالى وضع حداً لوجوب القتال وجوازه من وجهين.

الوجه الاول: ان يكون القتال للدين ولاجله بمعنى المحافظة على بيضة الاسلام كما بيننا.

الوجه الثاني: إكراه المسلمين على الخروج من ديارهم وبذلك نحن مأمورين بالدفاع عن الدين والارض وبخلافه فأن الله تعالى يأمرنا بالالتزام بـ "ان تبروهم وتقسطوا اليهم".

٣. ان الاية نفسها تدل على خلاف ما ذهب اليه لان جاء في آخرها ما يوقف حكم أولها "فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم"...التوبة ٥، فإن النص هنا يبين ان حكم القتال موجه الى مجموعة خاصة تلك التي انكرت ضرورات الدين ونقضت عهدها، وغير موجه لعموم المشركين فضلاً عن المسلمين.

ثانياً: خلط بين الكفر والايمان وحدودهما واقحم فيه ما ليس فيه، ولم يفرق بين الكافر والفاسق والعاصي، ووقع في نفس خطأ اسلافه ولم يسأل نفسه هل يجوز تكفير المسلم بذنب ارتكبه؟ او تكفير مؤمن استقر الايمان في قلبه، بل لم يميز بين انواع الكفر وحدوده كما بينه العلماء، بأن هناك كفر دون كفر. ووقع في شبهة حقيقة الاسلام والايمان، معتبر ان الايمان يمثل حد الاسلام الادنى وثبوت وصفه، فاذا ذهب بعضه ذهب كله، كما يقول شكري مصطفى (إنه لاشيء مما فرضه الله علينا في عبادته إلا وهو شرط فيها، إذ لو أمكن أن يعبد بغيره لما جاز ان يفرض لاعقلا ولا لغة علينا، مادامت عبادتة هي كل ما فرض علينا، فإن الفرض هو الواجب الذي لابد منه. فكيف يفرض ما منه بد. وما تكون العباده بفعله او تركة. وليس امر العبادة بدعاً في أن الفرض فيها شرط لحدوثها، بل ذلك بديهي وواقع في كل ما خلق الله تعالى وامر به، وبلا استثناء، وأنه ليس عند العقلاء شي ء واحد يمكن تركه وفعله بغير ضرر ثم يفرضونه في نفس الوقت)...التوسمات 3/32 مخطوط

كذلك وقع في الخلط نفسه عندما تحدث عن مفهوم الجهاد وبيان ذلك ان الجهاد في رأيه محصور في "القتال دون غيره" وبالتالي ضعف الحديث المروي عن الرسول (ص)" رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس" رغم صحته إذ إن الجهاد لم ينحصر في مورد القتال لا لغةً ولا شرعاً للأسباب التالية:

١.ان حكم الجهاد يختلف بإختلاف المكلف نفسه فجهاد المرأة غير جهاد الرجل وبالتالي لم يقل أحد بوجوب قتال المرأة وبكون حكمهما واحد ، كما ورد عن النبي (ص) " عليكن جهاد لاقتال فيه ".

٢. ان جهاد النفس هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة لقوله (ص) "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عزوجل".

٣. ان جهاد الكفار يمكن ان يتم باليد او بالمال او باللسان ايضاً كما ورد في قوله تعالى "وجاهدوا بأموالكم وانفسكم في سبيل الله".

ومن خلال ما تقدم يتبين حجم الارث التكفيري الذي تختزنه الامة في تاريخها، الى درجة انها لا تحتاج الى عناء او مشقة عندما تفتش في سبر التاريخ لتبحث لها ملاذاً او اصلاً يعزز هذا الاتجاه او تلك الممارسة، فأخذ دعاة هذه الخط واتباعه يؤصلون لهذا المفهوم "التكفير" حتى بات كأنه يشكل "اصلاً" من اصول الاسلام فلم يستفد او يقف اللاحقين من اخطاء السابقين في محاولة منهم الاستشفاء الاخطاء التي حدثت في تاريخنا وعلاقتها بالنص القراني خصوصاً، ان كل هذه المفاهيم افضت الى ممارسات حصدت بموجبها ارواح الابرياء والعزل. لذا كان لزاماً الوقوف عند حدود هذا المفهوم لبيان مدى ارتباط هذه الممارسات بالدين الاسلامي للقارئ البيب، بعد ان سعى اتباعها لايجاد الغطاء الديني لتمرير افكارهم على تناقضها، وسلوكياتهم على انحرافها، ولم يميزوا في حكمهم بين برها وفاجرها، مع انه من المعلوم الثابت عند العلماء (ان نصوص الوعيد التي في الكتاب و السنة، ونصوص الائمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يسلزم ثبوت وجوبها في حق المعين، الا اذا وجدت الشروط وانتفت الموانع لافرق في ذلك بين الاصول و الفروع)...ابن تيمية ، مجموع الفتاوي (10/315)

وهذا القول يؤكد بشكل صريح على عدم تكفير المعينين مالم تتوفر الشروط ويرتفع المانع والمراد من المعينين (تكفير مجموعة وافراد بعينهم) على نحو التحديد لا على نحو الاطلاق والعموم.

وقد ربط الشارع بين الاحكام الشرعية من بينها " التكفير " وبين شروطها الظاهرة وجوداً وعدماً، فمثلاً حكم الحج المفروض (على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا) فقد قيد تعلق التكليف بتوفر الاستطاعة (شرط التكليف) وارتفاع المانع من مرض او عارض اخر يلم بالمكلف.

ولكي نضع القارئ على بينة من دينه في هذا الامر كان لابد من بيان شروط وموانع هذا الحكم الخطير، الذي قال فيه رسول الله (ص) "ايها امرئ قال لاخيه! : يا كافر فقد باء بها احدهما وان كان كما قال ، والا رجعت عليه" البخاري (3104) ، مسلم (316) ، مستشهدين بما ذكره ابو محمد المقدسي في شروط وموانع التكفير.حيث قال:

اولاً: الشروط

الشرط شرعاً: (هو ما لايلزم من وجوده وجود ولا عدم، لكن يلزم من عدمه عدم المشروط).

او قل هوه في موضوعنا، مايتوقف وجود الحكم بالتكفير على وجوده فلا يلزم من وجوده وجود الحكم، ولكنه يلزم من عدمه عدم الحكم بالتكفير او بطلانه الاختيار مثلاً شرط من شروط التكفير، (وهو يقابل مانع الاكراه)، فاذا عدم الاختيار عُدم الحكم بالتكفير ولايلزم من وجود الاختيار ان يقع المرء بالكفر ويختاره.

وتنقسم شروط التكفير الى ثلاثة اقسام :

القسم الاول: شروط الفاعل، وهي ان يكون:

1. مكلفاً (بالغاً عاقلاً)

2. متعمداً قاصداً لفعله

3. مختاراً له بارادته

القسم الثاني: شروط الفعل (الذي هو سبب الحكم وعلته).

ويجمعهما، ان يكون الفعل مكفراً بلا شبهه:

1. ان يكون فعل المكلف او قوله صريح دلاله على الكفر

2. ان يكون الدليل الشرعي المكفر لذلك الفعل او القول صريح الدلاله على التكفير ايضاً

القسم الثالث: شروط في اثبات فعل المكلف، وذلك بأن يثبت بطريق شرعي صحيح ، لابظن، ولابتخرص ولا بالاحتمالات ولا بالشكوك.

ويكون ذلك:

أ- اما بالاقرار (الاعتراف)

ب- او البينه (شهادة عدلين)

ثانياً: الموانع:

- فالمانع وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمه وجود الحكم او عدمه

- فالاكراه مانع من موانع التكفير، فيلزم من وجوده (اي ان اكره المرء على الكفر) عدم الحكم بالكفر او بطلانه. ولا يلزم من عدم وجود الاكراه ان يوجد او لا يوجد الكفر.. اي لا يلزم في حالة اختيار المكلف وعدم وقوعه تحت الاكراه، ان يفعل او لا يفعل الكفر، بل قد يفعل او لا يفعل.

والموانع ضد الشروط او مقابله لها، فيجوز ان يكتفي في الذكر بالموانع وحدها، او بالشروط وحدها، فما كان عدمه شرطاً فوجوده مانع فعدم الشرط مانع من موانع الحكم، وعدم المانع شرط من شروطه، هذا عند جمهور الاصوليين.

ويذكر بان الموانع التي تقابل الشروط تقسم كالشروط:

الاول: موانع في الفاعل: وهو ما يعرض له فيجعله لا يؤاخذ بأقواله و افعاله وهي التي تعرف (بعوارض الاهلية) وهي قسمان:

أ- عوارض يسمونها سماويه لانها لا دخل للعبد في كسبها كالصغر و الجنون والعته والنسيان، فهذه العوارض ترفع الاثم والعقوبات عن صاحبها لارتفاع التكليف عنه بها وان مايؤاخذ بحقوق العباد كقيم المتلفات والديات ونحوها لانه من من خطاب الوضع.

ويضيف بأنه يقابل هذه العوارض او الموانع من الشروط:

شروط البلوغ ويقابل عارض الصغر

شروط العقل ويقابل الجنون والعته

شروط العمد ويقابل النسيان

ب- عوارض مكتسبة وهي التي للعبد نوع اختيار في اكتسابها :

1. الخطأ: مما يؤدي الى سبق اللسان (اي انتفاء القصد) فينطق بالكفر وهو لا يقصد ولا يريد القول او العمل المكفر نفسه، بل يقصد شئ غيره

وهذا العارض يبطل ما يقابله من شروط العمد لقوله تعالى ((وليس عليكم جناح فيما اخطئتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم))....... الاحزاب 50

وفي ذلك قال ابن تيمية: (وليس لاحد ان يكفر احد من المسلمين وان اخطا او غلط حتى تقام عليه الحجه ، وتبين له المحجه ومن ثبت اسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول الا بعد اقامة الحجة وازالة الشبهه) مجموع الفتاوي ((250/12)).

ومن ذلك ايضاً ان يتكلم الانسان بكلام او ينطق لفظاً لا يعرف معناه فانه لا يؤاخذ بذلك حتى يعرف فيتكلم به قاصداً بمعناه بعد قيام الحجة.

ففي قواعد الاحكام في مصالح الانام، للعز بن عبد السلام (فصل في من اطلق لفظاً لايعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه) حيث قال فأذا نطق الاعجمي بكلمة كفر او ايمان او اطلاق او اعتاق او بيع او شراء او صلح او ابراء لم يؤاخذ بشي من ذلك لانه لم يلتزم بمقتضاه ولم يقصد اليه، وكذلك اذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ اعجمي لا يعرف معناه، فأنه لا يؤاخذ بشئ من ذلك، لانه لم يريده فان الارادة لا تتوجه إلا الى المعلوم او مظنون، وإن قصد العربي بنطق شئ من هذا الكلام مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه، فان كان لا يعرف معانيها، مثل ان قال العربي لزوجته انتِ طالق للسنة او للبدعة وهو جاهل بمعنى اللفظين، أو نطق بلفظ الخلع او غيره او الرجعة او النكاح او الاعتاق وهو لا يعرف معناها مع كونه عربياً فانه لا يؤاخذ بشئ من ذلك، إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد الى اللفظ الدال عليه)......3/103

2. الجهل ويكون ذلك مانعاً عندما لا يتمكن المكلف من دفعه وازالته. اما اذا كان متمكناً من ازالتة، فقصر واعرض ولم يفعل فهو جهل من كسبه غير معذور به،

والجهل نفسه تاره يكون جهل اعراض اخرى جهل اكراه، اما في الاول فهو جهل اعراض. لا يعذر فيه المكلف لان بمقدوره تحصيل العلم ومعرفة، سواء كان ذلك جهلاً في "الحكم او الموضوع" لانه يعتبر في حكم المقصر الذي لا يعذر في تقصيره مع القدرة على ازالته. اما اذا كان داخل ضمن جعل الاكراه سواء كان ذلك لعارض ذاتياً او موضوعياً فأن حكمه يختلف كما بين العلماء حيث قال ابن اللحام :(جاهل الحكم انما يعذر اذا لم يقصر او يفرط في تعلم الحكم، اما اذا قصر او فرط فلا يعذر جزماً). القواعد والفوائد الاصولية 58

وقد ذكر ابن قدامة في المغني "حول حكم تارك الصلاة" ، (لا خلاف بين اهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها اذا كان ممن لا يجهل مثل ذلك، فان كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث العهد بالاسلام والناشئ بغير دار الاسلام او بادية بعيدة عن الابصار و اهل العلم، لم يحكم بكفره، وعرف ذلك ، وتثبت له ادلة وجوبها فان جحدها بعد ذلك كفر، واما اذا كان الجاحد لها ناشئاً في الامصار بين اهل العلم فانه يكفر بمجرد جحدها، وكذلك الحكم في مباني الاسلام كلها)......كتاب المرتد

3- الاكراه: ويقابله الاختيار.

والمراد من ذلك هو ان يكون القول الفعل الصادر من ذلك المكلف نتيجة الاكراه والاجبار "مجبراً عليه وغير مختاراً فيه" والذي يعبر عنه بمفهوم التقية وقد دل عليه تعالى : (من كفر بالله بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) وفيه شروط وضوابط ذكرها العلماء.

1. ان يكون المكرِِه (بكسر الراء). قاطعاً على ايقاع ما يهدد به عند مخالفة المكرَه (بفتح الراء)

2. ان يكون المكرَه (بفتح الراء) عاجزاً عن الدفع او التجنب او الضرر

3. ان يتقيد المكره " بالقول او الفعل " بالقدر الذي يؤدي الا دفع الضرر عنه

4. وان لا يكون ذلك على الدوام وانما بالقدر المتحقق من بقاء الاكراه، ثم العوده الى ما كان عليه "ان يظهر اسلامه متى مازال عنه الاكراه"

وبعد. فأن هذه التي قدمت شروط وضوابط موجزة تحدد مفهوم التكفير، بعد ان افرطوا وغلوا فيه جماعات وافراداً من غير علم او بينة فأشهروا سيوفهم في امة محمد (ص) من غير مانع ديني او رادعاً اخلاقي، متجاوزين في ذلك ضوابط الشرع وحدوده التي تنهي من الافراط والغلو في الدين عموماً والتكفير خصوصاً كي تغلق الباب امام اؤلئك الذي افرطوا في هذا الامر الخطير، لذا وقف الشارع مؤقفاًحاداً عند التعاطي مع هذا المفهوم فضلاً عن التوسع فيه، فوضع له ضوابط وقننه في حالات خاصه سواء كان ذلك فيما بينا في ضوابط وشروط او في تحديد موارد القتل التي تطال المسلم وغيره والتي بين موقفه منها الاتي:

اولاً: قتل المسلم: فمنه ما يكون بحق "قصاصا حدا" ومنه ما يكون بغير حق " عمداً وخطاً " ، اما الاول فقد قيد في حالات ثلاث ، كما بين ذلك عبد الله بن مسعود عن رسول الله (ص) انه قال ، (لايحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله الا بأحدى ثلاث : النفس بالنفس، الثيّب الزاني، والمفارق بدينه التارك للجماعة)..... البخاري (26878)، ،مسلم (1676) والتي تعتبر موارد قتل الحق كما نقل ابن عباس عن النبي (ص) انه قال : (ابغض الناس الى الله ثلاث: ملحد في الحرم، ومبتغ في الاسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير الحق ليهريق دمه) البخاري 6882،فأن في النص اشارة الى مواد قتل الحقق بمفهوم المخالفة، ولم يترك الامر عند هذا الحد بل وضع المشرع شروطاً اخص من تلك التي تحدد اصل القتل، فقال عز وجل (يا ايها الذين امنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من اخيه من شي فأتباع بالمعروف واداء باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم. ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب لعلكم تتقون). وقد بين سبحانه، ان عدم الالتزام ب!

 هذه الحدود والضوابط هو نوع من التعدي والتجاوز على حكم الله وامره، (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم)، الذي يستحق بموجبه المخالف "العذاب الاليم" وقد اعلن رسول الله (ص) البراءه ممن يتجاوز هذا لحد ونصب نفساً على رقاب الناس فقد قال (ص) ، ومن خرج على امتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي العهد عهده، فلبس مني ولست منه).....مسلم (1848)، واما ما جاء في قتل المسلم عمداً، او خطاً ، ففيه جانين:

اولاً اما يكون في قتل المسلم نفسه (المباشرة بقتل النفس) او بمعنى اخر هو اتحاد القاتل والمقتول وقد عد القيام بهذه الفعل "انتحاراً" يخلد صاحبه في نار جهنم كما تفيد بذلك النصوص وفي القواميس والمعاجم اللغوية ان كلمة " انتحار" وتشير الى ثلاثة اركان اساسية هي:

1- قاتل

2- مقتول

3- سبب القتل

ففي الانتحار يتداخل الاول في الثاني لينتج ما مصطلح عليه فقهاً بـ (اتحاد القاتل والمقتول) مع اختلاف النيه الدافعه لذلك الفعل، اذ الانتحاري هو من تكون نيته التخلص من الحياة ليأس او قنوط او اسباب اخرى وقد ورد في النصوص التشديد في قتل النفس، حيث قال عز وجل(يا ايها الذين امنوا لا تاكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما. ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً) ، وقال رسول الله (ص) (من قتل نفسه بشئ في الدنيا عذب به يوم القيامة) البخاري (6047)،مسلم (176) وعن ابي هريرة عن رسول الله (ص) قال (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في النار يتردى فيه خالداً مخلداً فيها ابدا، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ابداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجئ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ابداً)

ثانياً: مايكون قتل المسلم بيد الاخر عمداً او خطاً. وقد اكد الشارع على حرمة قتل الاخر بأعتباره قتل غير مشروع (بغير حق) وقد قال عز وجل (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما) وقال تعالى (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطأ كبيرا) وقال رسول الله (ص) (اول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء) البخاري(6864) ومسلم(1678) ، وعن ابي هريره عن النبي (ص) انه قال( اجتبوا السبع الموبقات، قالو يا رسول الله وماهن؟ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق واكل الربا واكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) البخاري (3766) مسلم (145).

ثالثاً قتل المعاهد (المستأمن) وهذه من الامور الخطيرة التي وقع فيها الكثير من الجماعات المسلحة بعد ان جعلت من هذه الفئه اهدافاً لها من غير مراعاة للشروط والضوابط الشرعية والاخلاقية الخاصة بهذه المجموعة او الفئه من الناس والمعاهد :ذلك الفرد او المجموعه التي دخلت ديار المسلمين بعهد امان او قل من دخل من الكافرين " ليس بصفة المحارب " بلاد المسلمين فهو بعهد وامان سواء كان الامان لفظياً او عرفياً كالذي يدخلها بموجب دعوة من ذلك البلد او الذي يدخلها بموجب " تأشيره دخول " اما الذي دخلها بصفة محارب فحكمه يختلف، اذ من لوازم وشروط صحة العهد والامان بين الطرفين ان يأمن بعضهما بعض، ما لم يأت المستأمن بما يفسد عقد الامان، ويبطله شرعاً كما يبين ذلك العلماء في تفصيلات احكام المستأمن، فقد ذكر:

1- لا عهد لم دخل بلاد المسلمين من كافرين محارباً لهم.

2- العهد شرط يجب ان يلتزم به الطرفين اذ لا يصح الامان من طرف بينما الطرف الاخر لا يزال خارقاً لذلك العهد.

3- من دخل بلاد المسلمين من عهد ولا امان فهو بمنزلة من لا عهد له.

4- من دخل بعهد لكن لم يلتزم. حيث انقلب الى صفة المحارب بعد ان غدر وخان العهد والامان.

5- من خلال ماتقدم من شروط، يتضح ان كل من دخل من الكافرين بلاد المسلمين من غير صفة المحارب فهو في عهد امان مالم بات بما يفسد عقد الامان من الشروط الانفة الذكر، سواء كان الامان لفظياً او عرفياً، ولكن للاسف خالف دعاة المنهج التكفيري اقوال العلماء وضوابطهم في هذا الامر فذهبوا الى خرق هذه العهود وافسدوها ، ووضعوا المعاهد هدفاً لهم، يجوز قتله وترويعه ويجوز الاعتداء عليه وعلى حرماته، ولا يخفى ان في هذا الاستهداف مخالفة لحدود الشرع بعد ان ورد الوعيد الشديد في ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه (3166) عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) قال(من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحه الجنه وان ريحها توجد من مسيرة اربعين عام) وعن ابي بكر انه قال ، قال رسول الله (ص) (من قتل معاهداً في غير كنه حرم الله عليه الجنة) ابو داوود (2760) النسائي (4747)، وفي "غير كنهه" اي في غير وقته الذي يجوز قتله فيهوقد بين الشارع حدوده في قتل المعاهد خطاً، فقد اوجب الله فيه الديه والكفاره عندما قال سبحانه ((وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية من مسلمة الى اهله وتحرير رقبة مومنه فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليم حكيما)).

وبالرغم من وقوف الشارع موقف متشدد كما لاحظنا من اطلاق حكم التكفير وتعميمه من غير ضابط شرعي وموضوعي الا ان هنالك من وضع الناس اهدافاً يجب قتلهم بموجب عناوين جاهزة تقسم المجتمع الى (كافر، مرتد، ملحد) وقد استشرت هذه الظاهرة خصوصاً بعد احداث 11 سبتمبر 2003 وما رافقها من تحولات سياسية افضت الى تفشي الخلايا التكفيرية بعد ان فقدت الحاضنه الرئيسية لها المتمثلة بدولة طالبان فانقسمت بين افغانستنان والعراق والجزائر تجربة المحاكم الشرعية في الصومال "وهذا من جانب اخر لعبة هذه الجماعات على تثوير الجانب العاطفي للشعوب المسلمة من خلال خلق او اعادة انتاج حالة الاستعداء الاسلامي الغربي لاسيما امريكا باعتبارها محور الشر الاول في العالم وهو الشعار الذي اتخذته هذه الجماعات في حربها المعلنة مع الامريكان او مع الغرب بشكل عام ولكن المتتبع لمجريات الاحداث لا يستطيع ان يتجاوز الامور اللفظية لهذا الشعار مقارنة بالواقع المعاش، الذي تتنافر فيه اشلاء الناس بلا ذنب اقترفوه ، وان ما حصل ويحصل بالشعب العراقي خير دليل وشاهد بعد ان اعلنت هذه التنظيمات في "شعارها" المعلنة محاربة المحتل وهذا جاء على لسان المدعو ابو مصعب الزرقاوي، زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين اذ بان سقوط بغداد الذي اخذ على عاتقه قتل الابرياء البحجج "لشرعية" "محاكم دينه عبثيه" تقوم على نظرية فكرية تخلط بين المقاومة والجهاد والتخلص من الاحتلال وبين الارهاب و القتل العشوائي والتلذذ بمنظر دماء الابرياء والعزل. وقد تضمنت بيانات الزرقاوي " المسجلة " التي تساوي بين كفر المحتلين وكفر المرتدين وجواز قتل الابرياء بناء على مفهوم "التترس" في الاسواق والطرقات، بالاضافة الى ما اصدره من بيانات وكتابات وصف بموجبها ديار المسلمين وحكامها وشعوبها بـ "الواقع الجاهلي القائم " على غير قاعدة العبودية لله وحده في الوقت الذي وضع نفسه واتباعه بوصفهم "الطائفة المنصورة" هي الحاكمة على هذا الواقع والجهه المغيرة له وقد ذكر ذلك في كتابه "القابضون على الجمر" حيث قال "وهذا مع الحرب الضروس التي تشن لكل من نصب نفسه لهذه المهمة العظيمة من قبل اركان هذه الجاهليه والعناصر المتعددة المشاركة فيها بوجه او بأخر وهم :

اولاً : طواغيت الارض، اهل الحكم، وما في ايديهم من امكانات وقدرات فائقه للفتنه رهباً ورغباً.

ثانياً : علماء السوء الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة ورضوا بالحظ الخسيس ولقيمات الذل و العار التي يلقيها اليهم الطاغوت من فتات فوائد لاضلال العباد وفتنهم عن امر الله.

ثالثاً : اهل الاهواء وطوائف البدع ، على اختلاف بدعهم وتعدد اهوائم وذلك ان الاتباع الصادق يكشف زيف ماهم عليه ويفضح ضلالهم و اضلالهم ومن ثم يعلنونها حرباً على كل من اراد رد الناس الى الامر الاول وهم في هذا السبيل لا يستحيون من التحالف مع الطواغيت وعلماء السوء، لتكوين جبهة واحدة مشتركة، لصد الناس وفتنتهم عن دينهم

رابعاً : العوام الحجج الرعاع، اتباع كل ناعق، ووقود كل فتنة، ممن لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا الى ركن وثيق، فهمهم الاكبر اشباع غرائزهم وقضاء شهواتهم ونيل لذائذهم، ولا يعرفون للحياة معنى غير هذا وبئست الحياة.

ثم يضيف وهو في معرض الحكم على هؤلاء بقوله ((ومن الطبيعي ان يكون هؤلاء في خندق الطاغوت وحلفه، وان يكونوا هم قطيعة الذي يقوده حيث شاء، وعصاه التي يبطش بها من اراد القيام بأمر الله والثبات عليه)) ثم توسع في مفهوم التكفير بعد ان ذهب الى تكفير طوائف بعينها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين  28/تموز/2008 - 24/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م