المحورالثاني: سيد قطـب - والمودودي ودورهم في إحياءها
الا انه رغم هذا التحذير الشرعي والأخلاقي من وجود هذه الظاهرة
في جسد الأمة ولكن للأسف، بقي الحال قائماً، بل وإستشرى بشكل حاد
وكبير، ويعد هذا التحول الخطير الذي يشكل مرادف لبروز ظاهرة
السلفية وان اخذت مسميات واتجاهات أخرى كالوهابية والقطبية
اوالالبانية نسبة الى الشيخ ناصر الدين الالباني، وبدء الخلط
والتداخل بين مسائل العقيدة ومسائل الفقه الفرعية وقد جعلوها ضمن
المسائل العقيدية وأقحموا أنفسهم حتى في الحريات الشخصية أكان ذلك
في النقاب واللحية واللباس او المشاركة في العملية السياسية او
المجالات الاخرى وقد أدخلوها ضمن قاعدة ((البدعة)) الطارئة على
الدين الاسلامي وفق هذا المفهوم، و التي لاتبنى حسب زعمهم على
العقيدة الصحيحة وقد تجلى ذلك بشكل واضح في كتابات سيد قطب
والمودودي، إذ تم إحياء مفهوم التكفير بأطر وعناوين قديمة ـ جديدة
حيث انطلقوا من منظومة الأفكار المنتجة على يد الخوارج عن عنوانها
العام "ان الحكم الا لله" وإعادة صياغتها بمفهوم ( الحاكمية
الالهية) وقد تحول من مفهموماً خاصاً اقرب مصاديقه الحكم في(القضاء)
الى مفهوماً عاماً مؤدلج بمنظومة مفاهيم تكفر ال!
دولة وتكفر المجتمع، أما تكفير الدولة فهو قائم على فكرة
الحاكمية التي هي محصورة بيد الله سبحانه كما يرى المودودي الذي ُيعتبر
اول من ادخل هذا المفهوم في الاستخدام السياسي المعاصر والذي رفضه
بموجبة انماط النظم السائدة القائمة على افكاراً وضعية محددة
بمفاهيم الوطن او القومية بعيدة عن شمولية العقيدة واطلاقها، وقد
ذكر (لاتستقيم المعايير والاخلاق، ولاتعود القيم الى نصابها
الطبيعي الا بالاسلام، لان الطريق الوحيد الموحى به من الله تعالى.
لذلك يجب الرجوع في جميع امورنا الى رسل الله الكرام، ويجب ان نؤمن
برسالتهم، ونختار في حياتنا المنهاج الذي يرسمونه لنا... إن عبودية
الانسان لله واتباع شريعته هي اساس الائتلاف والتعاضد بين الناس،
لاما يخترعة الانسان من تلقاء نفسه، من روابط كالوطن أو القومية أو
السلالة).... "الاسلام والجاهلية"، ص 41
لذلك أعتبر وجود الحكام في الدولة المعاصرة هو نوع من التجاوز
والتعدي على سلطان الله وحاكميته. بعد ان ربط بين مفهوم الوحدانية
والاستخلاف ليخلص الى اضفاء الطابع الالهي والقداسة الدينية على
السلطة التي يجب ان تقوم على "حاكمية الله الواحد الاحد"، كما جاء
في قولة (أن الارض كلها لله وحدة، وهو ربها والمتصرف في شؤونها.
فالحكم والامر والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد او اسرة
او طبقة أو شعب، بل ولا للنوع البشري كافة شىء من سلطة الامر أو
التشريع. فلا مجال في حظيرة الاسلام ودائرة نفوذة، الا لدولة يقوم
المرء فيها بوظيفة خليفة الله)..."نظرية الاسلام وهدية في السياسة
والقانون والدستور"، ص78.
ويرى الباحثون ان سيد قطب قد اضفى على هذا المفهوم طابعاً
متشدداً بعد ان استعارة من الودودي عندما تبنى خطاباً يتخطى تكفير
الدولة والمجتمع الى تكفير الأمة، إذ لم يكتفي بوصف الجاهلية فحسب
كما فعل المودودي اوبمعنى آخر وضف هذا التوصيف واعتبر بموجبه ان
الأمة التي لا تطيع الدولة وتخضع لها تكتسب صفة (الشرك) وتصبح بذلك
أمة وثنية جاهلية ويعتبر ان الأمة المعاصرة تعيش في جاهلية اظلم من
الاولى، لأنها إرتدت عن لا اله الا الله بعد ان امنت بها، ولكي لا
يدعي متقول بأنه ليس في هذا الطرح حجة او دليل نسوق او نبين ذلك من
خلال كتبه ومؤلفاته التي تنص وبشكل واضح بل وتوجب التكفير وإخراج
الناس عن المله.
١. لقد حكم بأرتداد البشرية كما في قوله "ارتدت البشرية الى
عبادة العباد والى جورالأديان ونكصت عن لا اله الا الله، وإن ظل
فريق منها يردد على المآذن (لا اله الا الله). في ظلال القرآن ٢/
١٠٥٧
٢. ويضيف في نفس الصفحة " البشرية عادت الى الجاهلية وارتدت عن
لا اله الا الله، البشرية بمجملها بما فيها اولئك الذين يرددون على
المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا اله الا الله بلا مدلول
ولا دافع، وهؤلاء اثقل اثماً وأشد عذاباً يوم القيامة انهم ارتدوا
الى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى ومن بعد ان كانوا في
دين الله".
٣. لم يكتفي بوصف المجتمع بالجاهلي وانما طال اولئك الذين لم
يلتزموا بشعائر الاسلام العامة والتكاليف الفردية بل امتد ليشمل كل
من شهد الشهادتين حين ذكر في كتابه "معالم في الطريق ١٠١، "يدخل في
اطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها انها مسلمة،
لا لأنها تعتقد بألوهية احد غير الله، ولا لانها تقدم الشعائر
التعبدية لغير الله لكنها تدخل في هذا الاطار لانها لاتدين
بالعبودية لله وحده في نظام حياتها.
٤. ثم حكم على المجتمعات رعاةً ورعية بخروجهم على الاسلام (انه
ليست على وجه الارض دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه
هي شريعة الله والفقه الاسلامي)... في ظلال القرآن ٤/٢١٢٢، ونخلص
الى ان الجماعات السلفية قد اعتمدت على مفاهيم في المستويين النظري
والعملي وكما يلي.
أولاً: الحاكمية الالهية.
ثانياً: جاهلية المجتمع
ثالثاً: كفر الانظمة
رابعاً: الجهاد لاقامة حكم الله.
وقد افرز ذلك قراءة جديدة قديمة لبعض النصوص والمفاهيم الامر
الذي ادى الى بروز ظاهرة التكفير واحيائها من جديد، فقد تأثر بها
كثير من الناس وعملوا على تنفيذها الأمر الذي أدى الى قتل الكثير
من الخلق في مصر وسوريا والجزائر والعراق وبلدان اخرى، معتبرين
قتلهم جهاد يتقربون به الى الله. ولم يختلف المودودي عن سيد قطب
الا في طريقة التعاطي مع مفهوم تكفير الأفراد إذ يعتقد ان الايمان
بالاسلام منشأه تصديق القلب والاعتقاد به وهذا لا يمكن تحصيله
بوسائل الإكراه وهكذا انفرد في حدود هذه الجزئية واتفق مع سيد قطب
في كل ما ذهب اليه فقد دعى الى:
١. وقد دعى الى الانقلاب على الانظمة التي تحكم البلاد المسلمة
وغيرها، لتحرير بلادها وشعوبها من طغيان هذه الأنظمة، وعدم القبول
بالحلول الجزئية التي يتبناها المنهج الاصلاحي اوالتي تفرضها
ضرورات المرحلة، وقد ذكر ذلك في كتبه (ان الاسلام ليس بنحلة كالنحل
الرائجة وان المسلمين ليسوا بأمة كأمم العالم، بل الاسلام فكرة
انقلابية ومنهاج انقلابي يريد ان يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره
ويأتي بنيانه من القواعد ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكره ومنهاجه
العلمي).
٢. انه لا يؤمن بالحلول الجزئية او بالأفكار الإصلاحية
(التدريجية) التي تؤسلم المجتمعات وانما يحمل فكراً انقلابياً
شاملاً وعاماً حيث يعتبر الجهاد في الاسلام بانه هَدَم بنيان النظم
المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الاسلام في مكانها
وهذه المهمة، مهمة احداث انقلاب اسلامي عام " غير منحصرة في قطر
دون قطر"، بل مايريده الاسلام ان يحدث هذا الانقلاب الكامل في جميع
انحاء المعمورة، الا انه لا مندوحة للمسلمين عن الشروع في مهمتهم،
بإحداث الانقلاب المنشود، والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم
التي يسكنونها،اما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب
العالمي، فالاسلام يتطلب الأرض، ولا يقنع بقطعه او بجزء منها، انما
يتطلب ويستدعي المعمورة كلها، وتحقيقا ًلهذه البغية السامية يريد
الاسلام ان يستخدم جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث
انقلاب عام شامل.
٣. كان للرؤيا الفقهية التي انفرد بها في مفهوم الجهاد الأثر في
تقعيد ظاهرة التكفير وتأصيلها بعد ان خالف جمهور علماء الأمة في
تقعيد الجهاد وحصره في" جهاد الدفع" لا جهاد الطلب فقد ألغى هذه
التقسيمات كما في قوله (ان ما إصطلحوا عليه اليوم من تقسيم القتال
الى الهجومي والدفاعي لا يصح اطلاقه على الجهاد الاسلامي البتة،
وانما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية الوطنية فقط اما الجهاد
الاسلامي فهو هجومي ودفاعي معاً، هجومي لان الحزب الاسلامي يضاد
ويعارض الممالك القائمة على مبادئ المناقضة للاسلام، ويريد قطع
دابرها ولايتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك، اما كونه دفاعياً
فلأنه مضطر الى تأييد المملكة وتوطيد دعائمها حتى يتسنى له العمل
وفق برنامجه وخطته المرسومة).
تلك هي اغلب النصوص والافكار التي اعتمد عليها سيد قطب
والمودودي والتي ارتكزت على.
١. طرح الاسلام بإعتباره منظومة افكار انقلابية شاملة وبالتالي
على الاسلاميين استخدام كافة الوسائل لتحقيق ذلك.
٢. يجب ازالة كل الحكومات وكل الانظمة بإعتبارها انظمة غير
اسلامية وإقامة حاكمية الله "ان الحكم الا لله" في كافة أرجاء
العالم.
٣. الدعوة الى الهجرة والاعتزال والانفصال التام عن المجتمعات
بوصفهم "مجتمع جاهلي " انفصال عقيدياً وشعورياًً ومنهج الحياة ولقد
ذكر سيد قطب في ظلاله ٤/٢١٢٢، (لانجاة للعصبة المسلمة في كل الأرض
من ان يقع عليها العذاب الا بأن تنفصل عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة
ومن اهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام
تعتصم بها، والا ان تشعر شعوراً كاملاً بانها هي الأمة المسلمة وان
ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيها دخلت فيه، جاهلية واهل
الجاهلية). وقد ذكر ايضاً، (لابد من تحطيم مملكة البشر لاقامة
مملكة الله في الارض...ومملكة الله في الارض...تقوم بانتزاع
السلطان من ايدي مغتصبية من العباد، وردة الى الله وحده، وسيادة
الشريعة الالهية، وإلغاء القوانين البشرية)... "معالم في
الطريق"ص68، وقد اختلف جملة من العلماء والباحثين مع هذه الطروحات
وذلك من عدة محاور:
المحور الأول: اسقاطات التجارب الشخصية على سيد قطب والمودودي
والتي أدت الى انتاج هذا الفكر وبالتالي لايمكن ان نؤصل ونبني عليه
حكماً عاماً لعدة اسباب:
١. ان المرحلة التي مر بها سيد قطب مرحلة أعقبت الحرب العالمية
الثانية وكانت مرحلة التحرر والإباحية والانفتاح فكان بهذه المشاهد
الأثر في خلق العدائية وتعتبر نقطة تحول في فكر سيد قطب خصوصاً عند
تواجده في الولايات المتحدة الامريكية في عام ١٩٤٩ـ١٩٥٠لغرض
الدراسة، وبالتالي فإن هذه الاحكام نشأت في مرحلة تحول تاريخي مهم
لا يمكن القياس والاعتماد عليه فضلاً عن انعدام الضابط العلمي
والموضوعي في تشخيص اصدار الاحكام لأنه تحت تاثير سايكولوجي حاد.
٢. اما واقع المجتمع المسلم الذي وصفه سيد بـ (الجاهلي) فكان
يمر في ضعف الوازع الديني سببه:
أولاً. الغزو الثقافي والفكري الذي تمثل بالمد الشيوعي وشيوع
الثقافة العلمانية المتطرفة الذي خلق مجتمع خاضع لمنظومة الافكار
التي انتجتها الحداثة وما حملت من مفاهيم بعيدة عن روح الاسلام،
متمثله بقيم وأخلاقيات تتصف احياناً بالاباحية، وبالتالي وفق هذا
الوصف كان من الأولى ان يتصدى بفكر مضاد وفق مبدأ "الضد النوعي"
وامتثالاً لأمر الله في إرشاد الأمة وتقويمها لا الحكم عليها
بالكفر.
ثانياً. التحولات السياسية الكبرى في العصر الحديث وما رافقها
من احداث على افكار سيد قطب وبالتالي أنتجت افكار غير تقليدية
طارئة على الفكر الاسلامي متمثلة بـ (ثقافة التكفير) ابتدءاً من
سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين ومروراً بخضوع اغلب
البلدان المسلمه تحت الاستعمار الاجنبي وصولاً الى الاحتلال
الاسرائيلي لفلسطين عام ١٩٤٨وعلى هذه الخلفية فإن كل افكار سيد قطب
ومنهجة في التكفير كان تحت ضغط الواقع. لذلك فأن هذه الافكار لم
تكن مقبولة حتى على نطاق التنظيم، بعد ان واجهت اعتراضات حادة من
ابناء التنظيم نفسه، واعتبر معرضيه ان هذه الافكار مخالفة لحدود
الشرع وللخط الحركي الذي سار عليه التنظيم، وكان أبرز المعارضين
حسن الهضيبي المرشد الثاني للاخوان الذي أصدر كتاب (دعاة لاقضاة)
رداً على هذا الفكر ومحاكمته وقام بفصل (١٢) عنصر من الاخوان ممن
روجوا لفكر سيد قطب وبالاضافة الى امين صدقي وعبد الرحمن البنان
وعبد العزيز جلال، الذين وقفوا بالضد من افكار سيد قطب. وقد أدى
ذلك الى انقسام الاخوان الى قسمين، الاول يرى ضرورة الانضباط
والالتزام بالضوابط الشرعية المحكمة الدالة على حرمة إستباحة
الدماء واستحلاله، والثاني يطالب بالمواجهة والوقوف بالضد تماماً
من الحكومات التي يصفها " بالكافرة " ومن الأمة التي يصفها
بالجاهلة، وفي ضوء ذلك (انشقت التيارات السلفية عن الاخوان بسبب
عدم التزامهم بالافكار السلفية الوهابية ووقعت صدامات بينهم في
محيط الجامعة وخارجها في مصر وشكلت هذه التيارات تحدياً كبيراً
للاخوان على ساحة الواقع)..."الورداني، الحركة الاسلامية في مصر"
وقد دعى اتباع الرأي الثاني وعلى رأسهم سيد قطب بعد ان وصفوا
المجتمع بالجاهلي والحكومة بالكفر الى الخروج عن الدولة والهجرة عن
المجتمع لأن الاسلام قد تم عزله في امة تعيش "الانحراف والظلال".
ويبدو من خلال العرض المتقدم ان منهج التكفير ارتكز عند أصحاب
هذه الرؤيا على محورين.
اولاً: الحاكمية وبيان ذلك، ان من حكم بغير حكم الله فقد إدعى
الالوهية وانتزع التشريع لنفسه معتمد بذلك على قوله تعالى (ومن لم
يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الكافرون)...المائدة ٤٤
ثانياً: الجاهلية التي بموجبها تكفر المجتمع وتسلب صفة الاسلام
عنه للأسباب التالية:
١. ان هذه المجتمعات تطيع الدولة (الكافرة) وتخضع لها "فهي
كافرة" تبعاً لطاعتها لحكومة كافرة.
٢. ان انتفاء الاسلام عن هذه المجتمعات لشيوع الفساد والمعاصي
ولا أثر للشهادتين التي ينطق بها، وانما الأثر باستيعابه لمعنى
الشهادتين التي يكون عمله مصداقاً لها.
٣. بناءاً على ما تقدم فقد دعوا الى مقاتلة الدولة والخروج
عليها والانفصال عن المجتمع "والهجرة" عنه وتكفير الأمة حتى يتم
إعادة انتاج مفهوم المسلم، بطريقة خاصة وتكون مصداق لمفهوم
الحاكمية.
وسوف نقف عند هذه الآراء من عدة وجوه:
اولاً: الذين كفروا المسلمين بناءاً على مفهوم الحاكمية وقعوا
في خطأ كبير للاسباب الآتية:
١. لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية مفهوم بمعنى "الحاكمية"
وانما الذي ورد هو الحكم، لذلك لا يوجد دليل واحد يؤصل لمفهوم
الحاكمية لأن المراد من "الحكم" في القرآن ليس فرض حق الطاعة وانما
في مورد القضاء والفصل بين المتخاصمين، وقد ورد في قوله تعالى (يايحيى
خذ الكتاب بقوة) والمعروف لدى ارباب التاريخ والعلم ان يحيى لم
يستلم الحكم في حيا ته فضلاً عن صباه اذا كان بعنوان ادارة الدولة
وحكمها وفق موازين الشرع وانما مكنه الله من الفصل بين الناس
بالحكمة والحق وهو المراد من قوله تعالى (واتيناه الحكم صبياً).
٢. تاكيد للرأي الاول فان الله سبحانه أمرنا بطاعته وطاعة اولي
الأمر كما في قوله (واطيعوا الله والرسول واولي الأمر منكم) ففي
هذا اعتراف بصحة تولي الحكام وفرض حق الطاعة وإلزامنا بها لانزالها
منزلة طاعة الله ورسوله (ص) ولكن في مواضع الاختلاف والتنازع لم
يأمرنا بالرجوع اليهم وانما الزمنا بالرجوع اليه والى الرسول حين
اضاف (وان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول)، لأن القضاء
العادل والحق ما كان مصدرة الله والرسول دون غيرهم او الحكم بحكمهم
(واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل) وبهذا لا يجوز لاحد ان
يزعم ان الحكم الوارد في القرآن هو تأصيل لمصطلح الحاكمية.
ثانياً: ان القول الذي ذهب اليه سيد قطب والمودودي حول اختصاص
الله بالتشريع وان من وضع تشريعاً فقد انتزع لنفسه احد صفات الله،
وفي هذا نكتفي برد حسن الهضيبي إذ يقول (ان الحكم لله وحده صاحب
الأمر هذه عقيدتنا.... لكن الله عز وجل قد ترك كثيراً من امور
دنيانا ننظمها حسب ما تهدينا اليه عقولنا في اطار مقاصد عامة
وغايات حددها لنا سبحانه وتعالى وامرنا بتحقيقها بشرط ان لا نحل
حراماً او نحرم حلالاً وذلك ان الافعال في الشريعة اما فرض او حرام
او مباح..ولايجوز لأحد ان يزعم ان تشريعات تنظيم المرور هي تشريع
الله عزوجل).."دعاة لاقضاة"
ثالثاً: والقول بالهجرة والانعزال عن المجتمع بإعتباره مجتمع
جاهلي، قياساً على فعل الصحابة نقول:
١. ان هذا القول قياساً مع الفارق، لأن المجتمع الذي انفصل عنه
الصحابة لم يكن مجتمعاً مسلماً البتة، وانما كان مجتمعاً كافراً
وثنياً لا يؤمن بوحدانية الله ولا يؤمن بالقرآن ويصف الرسول (ص)
حاشاه بالكاذب وان الهجرة التي مارسها الصحابة (رض) ليست دافعها
جاهلية المجتمع رغم كفره، وانما لانعدام الخيارات التي تمكنهم من
المحافظة على ابسط التكاليف الشرعية وادائها وما كان ذهابهم الى
الحبشة الذي هو بامر رسول الله (ص) ورايه الا لتحقيق ذلك، رغم
اختلاف الديانة ٍبينهما.
٢. ان مادة الانسان المؤمن الداعية، هو المجتمع الجاهل، لان
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس الى عبادة الخالق، لا
يتحقق بالانفصال عن المجتمع وقد ذم الله سبحانه الرهبنة والانعزال
واعتبرها نوعاً من الابتداع " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
" وبمفهوم المخالفة يجب على المؤمن الاندكاك في المجتمع على نحو
التأثير، كذلك فان من الاسراف لا الانصاف الحكم على المجتمع
"بالجاهلية" من غير التمييز بين من يصلي ويصوم ويؤدي العبادات
والتكاليف الاخرى، وبين من لم يلتزم بها، بالرغم ان الكثير ممن لم
يلتزم بالفرائض ليس منكراً لها أو مستخفا ًبها، ثم يجب ان نفرق بين
القاصر والمقصر والجاهل بالحكم أو الجاهل بالموضوع لكون الحكم
يختلف باختلافه، وهذا من شأنه ان يتنافى مع الحكم بالمطلق على
الناس بالكفر!، واصحاب نظرية الحاكمية الالهية يطالبون الناس
بالانقياد والطاعة من غير إبداء الرأي والمساءلة عن مضمون وتفاصيل
الحكم الاسلامي لأنهم يعلمون بأنه ليس هناك حدود واضحة لطبيعة
الحكم الاسلامي على مستوى التفصيل وانما تركت ضمن دائرة المباح
الذي يقدر وفق ارادة الأمة وزمانها، بشرط ان يبقى التوجه العام
اسلامياً لان المشرع قد راعى ظرفية الزمان والمكان، فقانون نسخ
الأحكام في القرآن والعمل بمبدأ "المرحلية" في التشريع واضح، من
خلال ممارسة بعض الصحابة، كما فعل عمر بن الخطاب عندما أوقف أسهم
الصدقات "للمؤلفة قلوبهم" وتعطيل نص قرآني قد خصص لهم ذلك كما ورد
في سورة التوبة، ولم يرد نص ناسخ له أو مقيد له، فضلا عن ذلك لم
ينكرعليه أحد أو يدعي انه خالف القرآن بل نعدها سنة "واجبة
الأتباع". كذلك ما فعله في عام المجاعة عندما عطل حد السرقة من غير
النظر في تفصيلات وجزئيات كل حالة بأعتبار ان الحكم يتغير تبعاً
لذلك، وانما اوقف الحد تماماً وبشكل عام.
ذلك ان التشريع يجب ان يتساوق مع مقاصد الشريعة من غير ان
يعارضها أو يخالفها، ومن هنا أكد الاسلام على الاجتهاد وحثه عليه،
وقد ورد (انه من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اخطأ فله أجر)، ومن ذلك
يتضح ان الشارع رتب اجراً عند الخطأ وذلك لدفع الناس بأعمال العقل
والابداع لاثراء المدرسة الاسلامية بفقه شامل يعالج منطقة " الفراغ
التشريعي" رغم كونه خاضع لإجتهاد البشر الذي يخطي ويصيب، بشرط ان
يلتزم بالاصول المقنِنة لعملية إستنباط الحكم الشرعي، اما القول
بجمود النص وحرفيته فهو يعارض النصوص الدالة خلافه. فضلاً عن السنة
الفعلية لبعض الصحابة وإجماع الأمة على صحتها.
يتبع الجزء الثالث... |