كنت قد سمعت كثيراً عن ماليزيا, عن طبيعتها ونهضتها ومجتمعها,
وسمع كثيرون غيري كذلك, وبقيت متشوقاً لزيارتها, وانتظرت مثل هذه
الفرصة بشوق متراكم, إلى أن وصلتني دعوة كريمة من الصديق الدكتور
قطب مصطفى سانو, للمشاركة في مؤتمر عالمي يبحث عن وضع المرأة
المسلمة في المجتمعات المعاصرة, وترقبت موعد هذا المؤتمر باهتمام,
وانتظرت اللحظة التي تطأ فيها قدماي تلك الأرض, للتعرف على آسيا
الحقيقية كما تعرف ماليزيا نفسها بثقة إلى العالم, والإطلاع على
نهضة وتقدم هذا البلد المسلم الذي طالما سمعنا وكتبنا عن تجربته,
وكتب غيرنا كذلك, رغبة وشوقاً لبلد مسلم يعيش تجربة التقدم, في وقت
تشتعل في العالم الإسلامي الحروب والنزاعات والصراعات, وتنتقل
الحرائق من بلد إلى آخر.
وتتكشف ملامح النهضة والتطور في هذا البلد, منذ اللحظة الأولى
من الوصول في المطار, حيث يأخذك قطار فوق الأرض عابراً بك من صالة
الوصول الجميلة والهادئة, إلى صالة ختم الجوازات واستلام الأمتعة,
قاطعاً مسافة غير قصيرة, ولأول مرة أصادف قطاراً ينقل المسافرين من
مكان إلى مكان آخر داخل محيط المطار.
ولأنني كنت بصدد استجماع واستحضار انطباعاتي عن هذا البلد,
فأولى هذه الانطباعات بدأت عندي ونحن نقطع المسافة من المطار إلى
مقر السكن في المدينة, وتذكرت حينها الانطباع الذي كان عندي من قبل,
حين وصلت إلى ولاية فرجينيا الأمريكية سنة2000م, ونقلت هذا
الانطباع إلى آخرين في وقته, بتشبيه هذه الولاية وكأنها خططت وسط
بستان كبير, والتجول بالسيارة في هذه الولاية كأنه تجول في وسط
بستان حيث المساحات الخضراء الواسعة والمنبسطة في كل الجهات, إلى
جانب الأشجار العالية والكثيرة التي تظهر الولاية بمظهر البستان
الجميل والبديع. لكن الذي اختلف في الانطباع هنا أن فرجينيا إذا
كانت ولاية خططت في وسط بستان, فإن ماليزيا دولة خططت في وسط غابة
وليس مجرد بستان, لكنها غابة جميلة ومنظمة.
والذي رسخ مثل هذا الانطباع, المسافة الطويلة نسبياً التي
يقطعها المسافر من المطار إلى وسط المدينة العاصمة كوالالمبور,
والتي تصل إلى ساعة من الوقت تقريباً, مع قيادة هادئة في السياقة
تعكس طبع الهدوء المتجلي بوضوح كبير في شخصية الإنسان الماليزي, مع
ما تتصف به الشوارع الخارجية من مساحة عريضة تتسع لأكثر من أربع
سيارات, وفي طول هذه المسافة لا يكاد المشهد يتغير, ولا يمل في نفس
الوقت, حيث الأشجار العالية والغابات الكثيفة والمرتفعات الجبلية
الخضراء, وحتى مع الاقتراب من المدينة والدخول إليها والوصول إلى
وسطها, يبقى الشعور يصاحب الإنسان في أنه وسط غابة كبيرة.
وحين رجعت إلى الموسوعة العربية العالمية, لمعرفة ما كتب عن
ماليزيا وجدت ما يؤكد هذا الانطباع, ويضيف إليه, في إشارات مهمة,
حيث ترجع نشأة هذه الغابات إلى مئة وثلاثين مليون سنة, وتعد من
أغنى وأقدم الغابات في العالم, وفيها من أكثر الأنظمة البيئية
تعقيداً وتنويعاً في العالم كذلك, وتحوي على أكثر من ستة آلاف نوع
من الأشجار, وأكثر من تسعة آلاف نوع من النباتات الأخرى, هذا عن
الغابات المدارية المطيرة, أما الغابات الاستوائية المطيرة فتحتوي
على ثمانية آلاف نوع من النباتات المزهرة, ومئتين نوع من الثدييات,
ويعد بعض هذه الأنواع نوعاً فريداً ونادراً, وهي تنتج أكبر الأزهار
المعروفة على مستوى العالم.
ومثل هذه الأشجار والأزهار بأصنافها الكثيرة موجودة في أنحاء
كثيرة داخل المدينة, في الطرق والشوارع والساحات وفي واجهة الفنادق
والمؤسسات والمنازل, ومرتبة بشكل أنيق كما لو أنها مصممة داخل منزل,
أو في محل خاص بتصميم الزهور, الأمر الذي يضيف جمالاً على جمال
المدينة.
وما يؤكد أهمية وقيمة مثل هذا الانطباع كوننا ننتمي إلى بيئة
تمثل الصحراء فيها المساحة الكبيرة من الأرض, بشكل يجعل المسافر من
مدينة إلى أخرى يفقد متعة النظر وهو يقطع المسافات الطويلة, وكأنه
يعبر الصحراء عبر طرق معرضة للرياح المحملة بالرمال والأتربة, فكم
هو الفرق نفسياً وذهنياً حين تتخيل السير في وسط غابة, أو السير في
وسط صحراء!
ماليزيا والعالم الإسلامي.. صورتان
مختلفتان
حينما وصلت إلى ماليزيا منتصف شهر أغسطس الماضي, وجدت أن هذا
البلد بما فيه من نهضة وتقدم يمثل مكسباً حضارياً مهماً للعالم
الإسلامي, ومن حظ العالم الإسلامي أن تكون ماليزيا جزءاً من محيطه
وكيانه وجغرافيته الإسلامية, ومن حق المسلمين أن يفخروا بهذا البلد
الذي وصل إلى ما وصل إليه ويعتزون به. وهو البلد الذي ظل متمسكاً
بصلته وروابطه مع المحيط الإسلامي بدون نكوص أو ارتداد, بل وبقي
ساعياً وحريصاً على نهضة ووحدة الأمة الإسلامية التي يجد فيها مجده
ومستقبله, ويكفي دلالة على ذلك الخطوة التي أقدمت عليها الجامعة
الإسلامية العالمية هناك, بتأسيس المعهد العالمي لوحدة الأمة
الإسلامية سنة 2001م, بموافقة وتأييد رئيس الحكومة الماليزية آنذاك
الدكتور محاضير محمد, وهو المعهد الأكاديمي الرابع في إطار الجامعة,
ويطمح هذا المعهد كما جاء في الدليل التعريفي له, أن يصبح مركزاً
فكرياً عالمياً محترماً يتبنى كافة البرامج والأنشطة الفكرية
والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الهادفة إلى تعميق فكرة وحدة
الأمة الإسلامية وتضامن شعوبها.
فما أنجزته ماليزيا من نهضة وتقدم لم يدفعها نحو الابتعاد عن
المحيط الإسلامي, أو يمتص منها مثل هذا الشعور بالانتماء والارتباط
لهذا المحيط, بقدر ما قربها لهذا المحيط, وعزز عندها الشعور
بالحاجة إلى هذا الانتماء والارتباط بالمحيط الإسلامي.
ومع أن ماليزيا هي جزء أصيل وقديم في العالم الإسلامي, إلا أنها
تختلف عنه, ولا تكاد تتشابه معه, ومنشأ هذه المفارقة جاء نتيجة
النهضة التي شهدتها ماليزيا, وجعلت منها بلداً مختلفاً ومتميزاً عن
دول كثيرة في العالم الإسلامي. فالصورة اللامعة التي تقدمها
ماليزيا عن نفسها تختلف كلياً عن الصورة التي يقدمها العالم
الإسلامي عن نفسه, فبين صورة النهضة في ماليزيا, يظهر العالم
الإسلامي بمظهر المحيط الذي تطحنه النزاعات والصراعات والحروب,
وتنبعث فيه الأفكار والأيديولوجيات التي ترتد به إلى الوراء,
وتسحبه إلى الخلف إلى ما قبل المدنية والحضارة, وتغلق عليه منافذ
المستقبل, وتدفعه نحو التآكل الداخلي.
لهذا فإن الصورة التي يقدمها العالم الإسلامي عن نفسه اليوم, هي
صورة مخيفة لنا وللعالم على حد سواء, فقد تحول محور طنجة ـ جاكرتا
الذي دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي في خمسينات القرن
الماضي, من محور يتطلع إلى نهضة وتقدم العالم الإسلامي, إلى محور
نزاعات وصراعات, وانفجارات متنقلة تبعث على الخوف والرعب في نفوس
الناس, ولم تسلم منها مناسبات الفرح والابتهاج كاحتفالات الناس
بالزواج, ولا مناسبات الحزن والعزاء.
ومن المؤسف حقاً أن يظهر العالم الإسلامي وكأنه عالم يحترق
وتشتعل فيه النيران, وترتفع فيه أعمدة الدخان, وتغطيه سحابة سوداء,
في عصر يشهد فيه العالم أعظم ثورات التقدم وبشكل لم يحصل في تاريخه
القديم والحديث, وتتنافس فيه الأمم وتتسابق نحو المزيد من التقدم
والصعود في مختلف ميادين ومجالات العلم والحياة, وفي عصر لا يتوقف
الحديث فيه عما يسمى بثورة المعلومات وانفجار المعرفة, وهي الثورات
التي جعلت كل شيء يتغير ويتجدد في هذا العالم, الذي أصبح يمر
بمرحلة مفارقة في تاريخه, بحيث بات يتفوق فيها على جميع المراحل
التي مرت عليه من قبل.
وأما نحن في العالم الإسلامي, فإننا نظهر إلى العالم وكأننا
ننتمي إلى العصور الوسطى, أو أننا نعيش في خارج الزمن, وعلى هامش
التاريخ, وبعيداً عن إيقاع العصر, حتى أن الأمم الأخرى باتت تجد
عزاءها فينا, وهذا ما حاول أن يسلي به بول كيندي شعوب أمريكا
اللاتينية التي توقع لها في كتابه: (الاستعداد للقرن الحادي
والعشرين), أن تصبح هامشية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة, مع
إمكانية أن يحصل فيها انهيار اقتصادي واجتماعي واسع, تنشا عنه
تحديات مروعة حسب وصفه, وإذا كان هذا الرأي يخيب في نظر بول كيندي
أمل القراء في البرازيل وبيرو, إلا أن لهم عزاء في العالم الإسلامي,
وبهذه الكلمات المخيبة للآمال فتح كيندي حديثه عن العالم الإسلامي,
الذي يعاني في نظره من الضغوطات السكانية, ونقص المصادر والطاقة
التعليمية والتكنولوجية, وتفجر الصراعات الإقليمية, وبعيداً عن
الاستعداد للقرن الحادي والعشرين, فإن معظم العالمين العربي
والإسلامي يجد صعوبة في تقدير كيندي في التعامل حتى مع القرن
التاسع عشر.
لهذا فنحن بحاجة إلى ماليزيا بحثاً عن بقعة الضوء, وبصيص الأمل,
ولاستعادة الثقة, في إمكانية نهضة وتقدم العالم الإسلامي.
روح الشرق في ماليزيا
السؤال الذي حملته معي إلى ماليزيا التي وصلت إليها منتصف شهر
أغسطس الماضي, هو: من الذي صنع نهضة وتقدم ماليزيا؟ هل هم الصينيون
الوافدون على ماليزيا؟ أم المالاويون المسلمون السكان الأصليون
لماليزيا؟
وقد تعمدت أن أفتح النقاش حول هذا السؤال, في معظم اللقاءات
والحوارات التي جمعتني مع باحثين وأكاديميين ماليزيين وعرب أساتذة
في الجامعة الإسلامية العالمية هناك.
والكلام الذي كنت أسمعه قبل وصولي إلى ماليزيا من بعض الأصدقاء
العرب الذي أقاموا فترة من الزمن هناك, أن الصينيين هم الذين نهضوا
بماليزيا, ولم يكن هذا الرأي في وقته مقنعا بالنسبة لي, ولا يمثل
جواباً شافياً على السؤال السالف الذكر, وأكثر ما يصطدم بهذا الرأي
ويبعث على الشك فيه, ما كان يتحدث به وبفخر واعتزاز الدكتور محاضير
محمد رئيس الوزراء السابق في خطابات وأحاديث وحوارات جمع قسم منها
في كتاب صدر باللغة العربية عام 2002م بعنوان: (الإسلام والأمة
الإسلامية... خطب وكلمات مختارة), حيث كان يؤكد على ربط نهضة وتقدم
ماليزيا بروح وجوهر الإسلام, وبالتالي بدور المسلمين هناك في هذه
النهضة, وحسب قوله: (نحن في ماليزيا نرى أنفسنا مثل أسلافنا
المسلمين في العصر الذهبي لأننا نلتزم رؤية ومدخلاً أصيلاً ينسجم
مع روح وجوهر الإسلام, وكان لا بد لنا أن نبدأ أولاً بتحقيق النمو,
وفيما قمنا بتطبيق مختلف الحزم المعيارية اللازمة لحفز نمو الناتج
المحلي الإجمالي, اتخذنا المعالجات التي تكفل المساواة, الأمر الذي
لم يحظ باستحسان في الغرب الذي يؤمن بان البقاء والثراء هما فقط
للأقوياء على حساب الفقراء).
ومع وصولي إلى ماليزيا كان لابد من البحث عن الجواب في داخل
البلد وبطريقة حسية وإجرائية, ومعظم الإجابات التي سمعتها من
ماليزيين وغير ماليزيين تكاد تتفق وتتشابه فيما بينها, وإطارها
العام أن الصينيين ما كان بامكانهم المشاركة في نهضة ماليزيا, من
دون وجود قيادة سياسية تلعب دور الدافع والمحرك لعجلة التقدم,
وتتبنى سياسات واستراتيجيات تشجع وتحفز على النهضة والتقدم, وهذا
ما قام به الملاويون المسلمون, ويستبطن هذا الرأي إقراراً واعترافاً
بدور الصينيين الأساسي والحيوي في نهضة ماليزيا.
وأما الرأي الذي تكون عندي فهو لا يخرج عن إطار الطرح المذكور,
وإنما يتوافق ويتناغم معه, لكنه أكثر تنظيماً وتوازناً منه على ما
يبدو, ويتحدد هذا الرأي في أن الصينيين لعبوا دوراً أساسياً في
النهضة الاقتصادية لماليزيا, في حين كان للملاويين الدور الأساسي
في النهضة السياسية, وما كان بالامكان حصول نهضة اقتصادية ابتداء
بدون نهضة سياسية, ومن جهة أخرى أن النهضة الاقتصادية لاحقاً دعمت
ورسخت النهضة السياسية.
وما يؤكد هذا الزعم ويعطيه قدراً من المعقولية, هو أن الصينيين
هم الذين تسلموا إدارة الاقتصاد من البريطانيين بعد استقلال
ماليزيا سنة 1957م, في حين تسلم المالاويين إدارة السلطة السياسية,
وتسلم الهنود الفلاحة والزراعة, وهذا ما يفسر تحكم الصينيين اليوم
باقتصاد ماليزيا.
هذا ما سمعته ووجدته في الإجابة على سؤال من الذي صنع نهضة
ماليزيا؟ وما ينقص هذه الإجابة, ويجعلها أقل جزماً واكتمالاً, هو
غياب وجهة النظر الصينية في هذا الشأن التي لم استطع الوصول إليها,
والتي بدونها لا تكتمل الرؤية وتتماسك.
وأما السؤال الذي لم أسمعه من احد, ولعله كان غائباً عن
النقاشات التي جرت وتجري حول نهضة ماليزيا, هو: هل كان بإمكان
المالاويين المسلمين أن ينهضوا ببلدهم من دون وجود الصينيين معهم؟
وهل كان بإمكان أن تصل ماليزيا إلى ما وصلت إليه من دون الصينيين؟
أعتقد أن هذا سؤال جوهري وحيوي للغاية في البحث عن نهضة ماليزيا
وتقدمها. وبصورة عامة يمكن القول أن ماليزيا استلهمت روح الشرق في
نهضتها, فالصينيون الماليزيون كأنهم نقلوا روح الصين إلى ماليزيا,
والهنود الماليزيون كأنهم نقلوا روح الهند إلى ماليزيا, وكما هو
معروف أن الصينيين والهنود إلى جانب اليابانيين هم الذين يمثلون
روح النهضة في الشرق, ولو كانت ماليزيا في الشرق الأوسط لما نهضت
ووصلت إلى ما وصلت إليه, لأن روح الشرق, وأقصد به روح الصين
واليابان والهند وصلت إلى ماليزيا بحكم الجغرافيا, ولم تصل إلى
الشرق الأوسط والعالم العربي, وهو المجال الذي تطحنه النزاعات
والصراعات السياسية والأيديولوجية.
ماليزيا وتعايش الثقافات
تقدم ماليزيا نموذجاً فعلياً وليس ممكناً فحسب, لتعايش
المجموعات البشرية التي تنتمي إلى ديانات وثقافات وقوميات متعددة
ومتنوعة, ويتصف هذا النموذج في داخل المجتمع الماليزي بالفاعلية
والحيوية, بمعنى أنه نموذج متحرك وليس ساكناً, وبالتالي فهو معرض
دائماً للتغير والتقلب والاحتكاك, بالشكل الذي يجعله في دائرة
التجريب والاختبار, لمعرفة مدى ثباته وتماسكه, وهو ما تبين فعلياً,
وكشف عنه الواقع على الأرض.
وهذا النموذج التعددي هو من أكثر ما يقدم ماليزيا إلى العالم
ناظراً ومنظوراً إليها, فهي من جهة تقدم نفسها إلى العالم بهذا
النموذج المتفوق, وينظر إليها العالم بإعجاب على أساس هذا النموذج
من جهة أخرى, والذي ضاعف من قيمة هذا النموذج وجعله ملفتاً لأنظار
العالم, كون ماليزيا دولة إسلامية تفتخر بإسلاميتها ولا تتنكر لها.
ومن هذه الجهة, تبرهن ماليزيا على إمكانية تقبل وتسامح وتعايش
المجتمع المسلم مع المجموعات البشرية الأخرى غير الإسلامية, وبدون
تهميش أو تمييز أو اضطهاد, وإنما على أساس المساواة والشراكة
والاندماج.
وحين يريد الدكتور محاضير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق, أن
يلفت النظر لهذا الأمر مميزاً ماليزيا به عن غيرها, يقول (هناك
مجتمعات عديدة تنظر إلى التعددية الدينية على أنها نقمة وليست
نعمة, لأنها كثيراً ما تجلب العنف والصراعات المسلحة, لكنها في
ماليزيا تشكل عنصراً هاماً لجمع وتقريب المواطنين من مختلف
الديانات إلى بعضهم بعضاً, مما يسهم في تعزيز الوحدة الوطنية),
ويربط الدكتور محاضير بين الإسلام والوحدة الوطنية في ماليزيا, في
إشارة مهمة بقوله (إن ما حققته ماليزيا من وحدة وطنية ما هو إلا
ثمرة لممارسة الشعائر الدينية وخاصة تلك المرتبطة بالإسلام في وضح
النهار وبعيداً عن العزلة), وهنا تكمن في نظر الدكتور محاضير ضرورة
فهم الدين الرسمي للدولة, فإذا كان الإسلام الذي هو الدين الرسمي
لماليزيا بدا غامضاً حسب قوله, وتتم ممارسة شعائره في الخفاء, فإن
ذلك يشكل سبباً كافياً للاعتقاد بأن السلطات الرسمية سوف تسعى
لفرضه على أتباع الديانات الأخرى, وستضع العقبات أمام ممارسة
العقائد الأخرى, ولرفع هذا الوهم اقتضت الضرورة في رأي الدكتور
محاضير أن يمارس المسلمون في ماليزيا شعائر دينهم أمام الناس, وفي
وضح النهار من دون تخف أو عزلة.
وقد ساهم الموقع الجغرافي لماليزيا في تكوين المجتمع الماليزي
بهذه الطبيعة المتعددة ثقافياً ودينياً وقومياً, وحسب الموسوعة
العربية العالمية فإن الموقع الجغرافي لماليزيا يعد من أكثر
العوامل أهمية في تاريخها, حيث تنتشر شبه جزيرة ماليزيا فوق المحيط
الهندي جنوبي بحر الصين, وكانت قديماً نقطة التقاء للتجار الهنود
والصينيين الذي اعتمدوا على الرياح الموسمية في رحلاتهم التجارية,
وجذبت مراكز ماليزيا الغنية المغامرين والتجار من بلاد عديدة,
وامتزجت فيها الشعوب والحضارات, فأثر الهنود في الفن والثقافة
الماليزية, وأدخل العرب الإسلام للمنطقة وغدا الدين الرسمي لها,
وقدم الهولنديون والألمان الأفكار والأساليب الاقتصادية, ومهد
البريطانيون دعائم التطور السياسي.
من هنا فإن تعايش الثقافات والديانات في ماليزيا هو من أكثر ما
يدحض مقولة صدام الحضارات عند هنتنغتون, ويبعث على الشك فيها, هذا
بالنظر لهذه المقولة بوصفها مقولة تفسيرية ناظرة للواقع الخارجي
بما هو عليه بدون التدخل فيه أيديولوجياً, وأما عند النظر لهذه
المقولة بوصفها مقولة تحريضية فإن النموذج الماليزي هو من أكثر ما
يريد هنتنغتون أن يحذر منه الغرب, لأنه يقدم صورة ممكنة لتحالف
الإسلام مع القوى الصاعدة في آسيا وعلى مستوى العالم, وتحديداً مع
الصين والهند, لكن الصحيح أن ماليزيا هي نموذج لتعايش الثقافات
وليس صدامها.
* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات
المعاصرة، رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org |